Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بطتا" تريستان برنار تتجابهان حول انتخابات صاخبة

الصحافي يجابه نفسه وصولاً إلى المبارزة الحاسمة المستحيلة

تريستان برنار في لوحة تولوز – لوتريك

من ناحية مبدئية تعني كلمة canard الفرنسية بطة بالعربية، غير أنها حين تُستخدم في نصّ سياسي أو صحافي فإنها تعني إضافة إلى ذلك "المخبر" أو "الواشي" أي ذاك الذي يأتيك بالأخبار من دون أن تزوّد. ومن هنا عنوان أشهر صحيفة ساخرة وقاسية ينتظرها عشرات الألوف في فرنسا كل أربعاء وتساعدهم على فضح السياسيين وغيرهم من الفاسدين. وفي هذا المعنى استخدم الكاتب الفرنسي الساخر تريستان برنار عام 1913 الكلمة عنواناً لواحدة من أشهر مسرحياته: "البطّتان"، بل ستكون من أكثر مسرحياته دنواً من عالمَي السياسة والصحافة لتحقق نجاحاً هائلاً لدى تقديمها للمرة الأولى، ثم تعاود تحقيق النجاح في كل مرة يعاد تقديمها بما في ذلك مرتان معاً خلال الأعوام الأخيرة، مرة في باريس عام 2016 وأخرى في ليون بعد ذلك بعام بإخراجين مختلفين ولكن في سياق سياسي واحد.

وجهان متناحران لنصّاب واحد

هنا لا بد من القول منذ البداية إلى أن البطتين المشار اليهما في العنوان ليستا في الحقيقة سوى بطة واحدة برأسين: فالصحافي المعنيّ هنا هو لوسيان جيليدون باريسيّ ساخرٌ يُعرف باسمه ولكن باسم مستعار أيضاً هو مونتيّاك. وهو يستخدم اسمَيه من دون أن يدرك أحد وذلك للكتابة في صحيفتين متنافستين تعبّر أولاهما، "الشعلة"، عن تيار محافظ رجعيّ يخوض الانتخابات البلدية، فيما تعبّر الثانية، "المنارة"، عن التيار الراديكالي المعارض الذي يخوض الانتخابات نفسها ضد التيار الأول. ونعرف أن في تلك الأزمنة كانت الصحافة تلعب الدور الأساس في إخفاق فريق أو نجاح آخر. من هنا لجوء الفريقين إلى "خدمات" الاسمين الصحافيين الكبيرين ليدعم كل منهما فريقاً من الفريقين من دون أن يدرك أحد أن الصحافيين (البطّتين) ليسا في نهاية الأمر سوى واحد.

الطريف أن الكاتب يوصل عبثية الموقف إلى حدّ أن كلاً من "الصحافيين" يتطلع، إلى انتهاز الفرصة ليس فقط لتحقيق مكاسب مادية وسياسية، بل نسائية أيضاً: هكذا نجده يغازل زوجة زعيم إحدى المجموعتين المتناحرتين باسمه الأول، ثم يغازل ابنة زعيم الجماعة الثانية باسمه الثاني، وإذ تصل الصراعات خلال فصول المسرحية الثلاثة إلى حدودها القصوى وتشتد ضراوة المعركة الإعلامية بين صاحبَي التوقيعين، ويشتمُ كلٌ منهما الآخر بأقذع الألفاظ، يصبح لا بد من أن تقام مبارزة حقيقية بينهما "سعياً من كلٍ منهما للحفاظ على شرفه المهني ومكانته الاجتماعية". ولا بد من الإشارة إلى أن تلك المبارزة هي التي تشغل الفصل الختامي الذي سيُفتضح فيه كل شيء، ومع ذلك تتواصل اللعبة كأن شيئاً لم يكن! فللسياسة منطقها، يقول لنا تريستان برنار إن لا علاقة له بالحقيقة ولا بالأخلاق. ومن الواضح أن هذا الاستنتاج هو ما أمّن للمسرحية ذلك النجاح الكبير، ولنضف أن من أسباب النجاح أيضاً كون تريستان برنار إنما اقتبس حكايته كلها في وضعية حقيقية كان قد عايشها بنفسه، بل كان طرفاً مراقباً فيها، قبل كتابته المسرحية بسنوات، وتتعلق بصحافي ناقد ساخر يدعى غاستون دي بافلوفسكي خاض تجربة مشابهة تماماً عام 1903 إبان معركة انتخابية مشابهة لما في المسرحية. فهو في ذلك الحين جعل من نفسه محرراً وكاتباً في صحيفتين وهميتين أسسهما بنفسه وراح يكتب في كل منهما مقالات حادة استفزازية يردّ بنفسه على ما يكتبه في بعضها الآخر، ويومها لقيت تلك التجربة نجاحاً في أوساط القراء ما جعل بافلوفسكي يجمع المقالات وينشرها في مجلدين. ومن الواضح أن برنار استعار تلك التجربة ليكتب مسرحيته الساخرة تلك.

مقود دراجة في سيرك شعبي

في واحدة من لوحات الرسام هنري دي تولوز لوتريك، يمكننا أن نشاهد رجلاً نصف مازح/ نصف جاد، وهو يمسك بمقود دراجة هوائية يدور بها في ملعب. هذا الرجل الذي حين صوّره لوتريك كان مجرد مدير لحلبة سباق الدراجات في باريس، هو تريستان برنار نفسه الذي سيصبح في ما بعد واحداً من أشهر كتاب المسرح الشعبي في فرنسا، وستصل شهرته إلى درجة يقارن معها بموليير من ناحية وبتشارلز ديكنز من ناحية أخرى. صحيح أن تريستان برنار يبدو اليوم شبه منسيّ في فرنسا وخارجها. لكنه مع هذا يعتبر أحد الآباء الشرعيين لذلك الحس الفكاهي الفرنسي المتهكم الذي لا يزال حتى اليوم مسيطراً على الحياة المسرحية الفرنسية، حيث يمتزج النظر الناقد إلى وضعية المجتمع مع التحليل الدقيق للشخصيات، مع إرادة التغيير القائمة على أساس توعية المجتمع بعيوبه، كما يمكننا أن نلاحظ في "البطتين". في سبيل الوصول إلى هذا، وحتى من دون أن يزعم لنفسه أي نزعة نضالية معينة، كتب تريستان أكثر من مئة مسرحية، تُرجم العديد منها إلى لغات عدة، كما كتب عشرات النصوص والقصص والحواريات.

لكن، على الرغم من هذا الإنتاج الكثيف، فإن ما من شيء من طفولة تريستان برنار وصباه كان من شأنه أن يشير إلى أنه سيكون كاتباً على ذلك النحو. فهو ولد العام 1866 في مدينة بيزانسون، ومنها ارتحل إلى باريس حيث درس في كلية "كوندورسيه" ثم اتجه لدراسة الحقوق، وإن يكن من دون نية ممارسة المحاماة، وبعد تخرجه بدبلوم للحقوق اتجه إلى التجارة وسرعان ما هجرها لينضم كصحافي إلى أسرة "المجلة البيضاء" حيث راح يكتب نصوصاً ساخرة ويعلق على الأحداث الرياضية. والحال أن تعليقاته هذه كانت من النجاح بحيث عُيّن مديراً لحلبة الدراجات المعروفة باسم "فيلودروم بوفالو". بعد ذلك اهتم برنار بالملاكمة، ثم حين بدأ عصر السيارة ثارت حماسته لتلك المركبة الجديدة وأضحى من أوائل المدافعين عنها، وكتب العديد من النصوص التي راح يبشر فيها بسيادة عصر السيارة.  وكان في التاسعة والعشرين من عمره حين تمكن من أن يدفع إحدى الصالات إلى تمثيل أول مسرحية له وهي "ذو الأقدام المترددة" غير أن نجاحه الكبير الأول على المسرح كان مع مسرحيته "الإنجليزية كما يتكلمون بها" وهي هزلية في فصل واحد قدمت العام 1899 وحققت من فورها ذلك النجاح الذي جعل تريستان برنار يقرر الانصراف إلى الكتابة للمسرح منذ بالتوازي مع اهتمامه بكتابة القصة حيث أصدر في الوقت نفسه، تقريباً، روايته "مذكرات شاب عادي". هكذا بدأ برنار بكتابة سلسلة مسرحياته وقصصه التي راحت تصدر وتمثَّل تباعاً وتلقى نجاحاً كبيراً، وفيها يخوض شتى الأنواع من الدراما إلى الكوميديا الصاخبة، إلى الأوبريت، إلى نصوص النقد الاجتماعي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ضحية ضمور ما بين الحربين

كان برنار يصرّ في بعض الأحيان على أن يمثل بنفسه في العديد من مسرحياته، ونذكر له مقدرة كبيرة على التصرف في النصوص، فمثلاً كانت مسرحيته "ذو القوائم الثلاث" في الأصل دراما اجتماعية كتبها أندريه غودفيرنو، لكن برنار اشتغل عليها، وحوّلها إلى كوميديا تسخر من بطلها الذي لا يقرّ له قرار.

هكذا طوال العقود الأولى من القرن العشرين، وحتى رحيله عن عالمنا أواخر عام 1947، كان تريستان برنار ذا حضور طاغٍ في الحياة المسرحية الفرنسية، وكانت الفرق تتدافع للحصول على نصوصه، لكن منذ رحيله اختفى نجمه شيئاً فشيئاً، وبدا كأنه في وادي النسيان، من دون أن يكون ثمة ما يبرّر ذلك، إلا تبدلُ المناخ الثقافي الفرنسي. فمن المعروف أن خروج فرنسا من أتون الحرب العالمية الثانية، رمى جانباً بمعظم إنجازاتها الفنية والأدبية التي كانت سائدة خلال فترة ما بين الحربين، كأنها شاءت أن تبعد عن ذاكرتها مرحلة مهدت لهزيمتها خلال الحرب. لذا لو صحّت هذه الفرضية، فمن المؤكد أن تريستان برنار كان، مثل زملاء كثيرين له، واحداً من ضحايا تلك الرغبة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة