Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غيوم ميسو يروي جريمة قتل بين وهم وحقيقة

"الصبية والليل" رواية بوليسية فرنسية مطعمة ببعد وجودي

"الصبية والليل" رواية الفرنسي غيوم ميسو (يوتيوب)

"الصبيّة والليل" (دار نوفل والمركز الثقافي العربي) هي الرواية الجديدة للروائي الفرنسي غيوم ميسو، المنغمس منذ نعومة أظافره في عشق الأدب والمسرح، والمتمخّض عن أكثر من عشر روايات تُرجم معظمها إلى غير لغة عالمية، وحُوّلت إحداها إلى فيلمٍ سينمائي حقّق نجاحاً كبيراً، ولعلّ هذا ما يفسّر الشهرة التي يحظى بها.

في "الصبيّة والليل"، يقتفي ميسو أثر جريمة غامضة مركّبة حصلت في حَرَمٍ جامعي، منذ خمسة وعشرين عاماً، وتركت آثاراً مدمّرة على حياة المتورّطين فيها، بشكل أو بآخر. تمظهرت في  كوابيس ليلية، وقلق، وهلع، وندم، وإحساسٍ بالذنب، وتنغيصٍ للحياة، وأسرٍ في الماضي. وهي تمظهرات تختلف كماًّ ونوعاً من شخصية إلى أخرى. والكاتب يفعل ذلك، من خلال إمساكه بمجموعة من الخيوط السردية، في إطار جدلية الاتصال والانقطاع، حتى بلوغ رؤوسها الأخيرة. ويترجم هذه العملية بجعله المتورّطين فيها يُجْرون تحقيقاتهم الخاصّة المتعلّقة بالجريمة، فتروح ألغازها تتكشّف فصلاً ففصلاً، وتتساقط حجارة الدومينو الروائي تباعاً، إلى أن ينجلي الغموض، وتظهر الحقيقة عارية. ومن خلال هذه الترجمة للأحداث، يبيّن ميسو ثِقَلَ السرّ على حامله، والذنب على القائم به، والجريمة على مرتكبها. ويبلور قدرة الماضي الثقيل على التسلّل إلى الحاضر والمستقبل، وقلب حياة أصحابه رأساً على عَقِب، فما يزرعه الإنسان في ماضيه يحصده في مستقبله.

في العنوان، يعطف الكاتب مفردة "الليل" التي تنتمي إلى الحقل المعجمي للزمان على مفردة "الصبيّة" التي تحيل إلى الحقل المعجمي للإنسان، ليطرح من خلال هذا العطف سؤال الإنسان في مواجهة الزمن. وفي المتن الروائي، تنزاح مفردة "الليل" من المعنى المعجمي لترادف الماضي والحياة والزمن، وتنزاح مفردة "الصبية" من هذا المعنى لتعادل الإنسان. وثمة قرائن لفظية في الرواية تبيّن آليات مواجهة الإنسان للزمن، فنرى أنّها تتمّ بالمرأة الجميلة (ص 334)، وبالكتابة (ص 365)، وبالرواية (244). ناهيك بأن مفردة "الليل" بانزياحاتها المختلفة تتردّد كثيراً في عناوين الفصول وعتباتها.

تدور أحداث الرواية في ضواحي مدينة نيس الفرنسية لا سيّما في منطقتي كوت دازور وكاب دانتيت، خلال العامين 1992 و2017 وما بينهما. وتنخرط فيها مجموعة من قدامى الطلاّب والأساتذة والأهل في معهد جامعي. وتتمحور حول جريمة مزدوجة ارتُكبت في المعهد في العام 1992 بدافع الغيرة، وتعدّد المتورّطون فيها لدوافع مختلفة. فتروح ترخي بظلالها الثقيلة عليهم طيلة خمسة وعشرين عاماً، وتودي بمعظمهم تباعاً في إطار تصفية ذيولها، ما يجعلنا داخل فضاءٍ روائي بوليسي تتعدّد عقده ومساراته، ثمّ تروح تتفكّك شيئاً فشيئاً إلى أن تنجلي الحقيقة في نهاية الرواية.

تُشكّل الدعوة التي يتلقّاها توماس الكاتب الروائي المقيم في مانهاتن الأميركية للاحتفال بالعيد الخمسين لليسيه سانت إكزوبيري في منطقة كوت دازور الفرنسية في 8 مايو (أيار) 2017 نقطة انطلاق في مجرى الأحداث، فيستقل الطائرة للمشاركة في الحفل مدفوعاً برغبة مزمنة في الالتقاء بزملاء الدراسة بعد خمسة وعشرين عاماً على افتراقهم، من جهة، وبقلقٍ غذّاه فيه اتصال صديقه القديم ماكسيم يعلمه فيه أنّه سيتمّ هدم جدار الجمنازيوم ما يهدّد باكتشاف الجريمة التي ارتكباها منذ ربع قرن، وأودت بأستاذ الفلسفة ألكسيس كليمان، وأدّت إلى اختفاء الطالبة الجميلة التي كان يحبّها فينكا روكويل، من جهة ثانية.

نقاط تحوّل

يترتّب على نقطة الانطلاق المذكورة وقائع تشكّل نقاط تحوّلٍ في مجرى الأحداث؛ فالاتصال الهاتفي الذي يتلقّاه توماس في 19 ديسمبر (كانون الأول) 1992 من فينكا التي يحبّها من طرف واحد يدفعه إلى الاشتباك مع ألكسيس كليمان، أستاذ الفلسفة، ظناًّ منه أنّه هو من قام باغتصابها، ما يؤدّي إلى مقتل الأخير بعد تدخّل صديقه ماكسيم في الاشتباك. وغيرة فاني القاتلة من فينكا بسبب استحواذها على اهتمام حبيبها توماس تدفعها إلى دسّ الدواء في فنجان شايها، فتتوهّم أنها قتلتها، وتعيش هذا الوهم طيلة خمسٍ وعشرين سنة. وقيام فينكا بابتزاز أنابيل وتهديدها بفضح زوجها وتفكيك أسرتها تدفعها إلى قتلها بالفعل. ورغبة أنابيل أم توماس وفرنسيس أبي ماكسيم في حماية ولديهما تجعلهما يتدبّران أمر دفن الجثّتين في جدار الجمنازيوم، ورغبتهما في حماية ولديهما ونفسيهما تجعلهما يهدمان الجدار بذريعة الترميم بعد خمس سنوات وإخراج الجثتين منه. والعثورعلى حقيبة المال العائدة لريشار أبي توماس وعليها بصمة فينكا والصور التي تظهرهما في وضعية غرامية تؤدي إلى اكتشاف الابتزاز الذي قامت به.

وقراءة سطر في الكتاب المهدى من ألكسيس إلى فينكا يوحي بمثليّتها يقود إلى أنّ الشخص الذي تنخرط في علاقة حب معه هو ألكسيس نوفل أستاذة اللغة الفرنسية، وليس أستاذ الفلسفة البريء ولا الطالب اليوناني الغني الذي يحمل الاسم نفسه. والعثور على كيس الساعات العائد لفرنسيس المتعهّد مرمياًّ في البحر يدفع إلى الاستنتاج أنّ عملية قتله لم تكن بدافع السرقة بل في إطار تصفية الحساب معه عن دوره في دفن فينكا. واكتشاف اسم المرأة التي اتّصل بها هذا الأخير قبل موته يؤدي إلى اكتشاف توماس أنه أبوه الحقيقي وأنّ ماكسيم هو أخوه وأن فرنسيس وأمّه متحابان منذ الطفولة. ومعرفة ألكسيس نوفل قبل سبعة أشهر من الحفل بهوية المشاركين في مقتل حبيبتها فينكا يدفعها إلى قتلهم أو محاولة قتلهم، بعد إرسال رسائل التهديد لهم، واحداً تلو الآخر، بدءاً بفرنسيس، مروراً بماكسيم وأنابيل، ووصولاً إلى توماس الذي يؤدي تدخّل ريشار زوج أمّه في اللحظة الأخيرة إلى إنقاذه من نيوب كلاب ألكسيس الشرسة وقتلها. وهكذا، تشكّل هذه الوقائع / نقاط التحوّل إشارات مرور تحدّد مسار الأحداث ومصيرها النهائي.

دور المحقّق

هذه الأحداث يلعب فيها توماس الدور المحوري في الرواية، فهو الراوي الذي يسند إليه الكاتب رويها، في معظم الوحدات السردية ما خلا بضع وحدات يتناوب على رويها أنابيل وريشار وجان كريستوف، وهذا الراوي هو قناع الروائي الذي يتقاطع معه في أنّ كليهما كاتب روائي ترجمت رواياته إلى لغات كثيرة، وفي أنّ لكليهما رواية بعنوان "الصبيّة والليل". ولعلّ هذه المحوريّة تكمن في قيامه، مستعيناً برفاق الدراسة القدامى، صديقه ماكسيم، والصحافي ستيفان بانيلي، وحبيبته من طرف واحد الطبيبة فاني، وغيرهم، بإجراء تحقيق خاص لجلاء اختفاء فينكا المفاجئ بعد مقتل ألكسيس كليمان. وفي غمرة التحقيق، يقوم بالاستماع إلى معلومات الأصدقاء، وزيارة الأماكن، والاطلاع على بعض المقالات والأخبار الصحافية،  والمقارنة، وتفقّد محتويات بعض الشقق، وقراءة الصور الفوتوغرافية.

وبنتيجة هذه الأدوات راحت قطع اللغز تتهاوى واحدةً بعد الأخرى حتى جلاء الحقيقة. وخلال هذه العملية المركّبة، تلعب التفاصيل الصغيرة دوراً كبيراً في تحويل مجرى التحقيق من اتجاهٍ إلى آخر، حتى بلغ نهايه المنشودة. والتفصيل قد يكون نظرة أو لقطة أو ملاحظة أو صورة أو سطر، غير أنّ التحوّل الذي يُحدثه قد يكون جذرياًّ، وهكذا، يقوم الراوي بدور المحقّق المحترف ما يمنح الرواية بوليسيّتها بامتياز.

مفارقات

في إطار مهمّة الراوي، وليس المحقّق، التي يُسندُها الكاتب إلى قناعه. يروي مشاهداته وانطباعاته ولقاءاته والذكريات. يزاوج بين سرد الأحداث ووصف الأماكن. يترجم للشخصيات قبل انخراطها في منظومة الأحداث. يرصد التحوّلات التي طرأت على رفاق الأمس، الإيجابية والسلبية. ويقارن بين الماضي والحاضر. وهو يفعل ذلك بسرد رشيق، يقطعه ويتكامل معه حوارٌ خفيف، ويكسر نمطيّته، على مسافات متباعدة، بخبر صحافي أو مقالة أو رسالة أو عنوان أو إهداء أو مقطع شعري أو تمرين رياضي. ويتمخّض عن هذه العمليات مجتمعة نصٌّ روائيٌّ متنوّع. على أن المفارق أن الكاتب يحشر كميّة كبيرة من الأحداث في يوم واحد، فيقوم الراوي بالتنقّل بين الأماكن المتباعدة، والاستماع إلى الشخصيات الكثيرة، وإجراء المكالمات الهاتفية، وقراءة النصوص المختلفة، وتقصّي الآثار المتفرّقة للوصول إلى الحقيقة في يومٍ واحد، الأمر الذي يطرح مدى التناسب بين زمن الأحداث وكمّيتها. غير أنّ براعته تكمن في حبكته البوليسية المتعدّدة العقد وحجم المفاجآت التي تتمخّض على حلّها ما يضفي على نصّه قدراً كبيراً من التشويق، ويحفّز عملية القراءة.     

المفارقة الثانية تكمن في أن سلوكيات الشخوص تصدر، بمعظمها، عن المشاعر الإنسانية والغرائز البدائية وليس العقل، على الرغم من مستوياتها الثقافية المتنوّعة؛ فتوماس يشتبك مع ألكسيس أستاذ الفلسفة بدافع الغيرة، وماكسيم يقتله بدافع الدفاع عن صديقه، وفاني تدسّ الدواء لفينكا بدافع الغيرة، وفينكا تبتزّ ريشار وأنابيل للحصول على المال، وأنابيل وفرنسيس يشتركان في الجريمة لحماية أولادهما، وألكسيس نوفل تصفّي المشاركين في الجريمة تباعاً بدافع الثأر لحبيبتها، وحده الصحافي ستيفان بانيلي يؤثر مهنيّته على عواطفه حين يحاول وضع كتاب يكشف فيه الحقيقة غير عابئ بعلاقات الصداقة والزمالة.

المفارقة الثالثة تكمن في حصول معظم الأحداث بعد خمسة وعشرين عاماً على الجريمة أي أنّ مرور الزمن لم يطفئ نيران الحقد، ولم يخمد جمرات القلق، ولم يهدّئ رياح الخوف. ومع هذا، فإن الشخصيات تحتفظ بالتفاصيل الدقيقة، وتوظّفها في خدمة أهدافها، الأمر الذي يطرح واقعية الرواية على بساط البحث.

"الصبيّة والليل" رواية بوليسية جميلة، تكتنز بمادّة معرفية غزيرة تعكس ثقافة كاتبها المتنوعة المصادر، وبذلك، يصيب عصفورين اثنين برواية واحدة: المتعة والفائدة.

المزيد من ثقافة