وقع خبر توجّه مصرف لبنان إلى وقف دعم الوقود والقمح والدواء والمستلزمات الطبية كالصاعقة على اللبنانيين، بينما الحكومة المستقيلة ووزراؤها كانوا على علم مسبق بكارثةٍ تنذر بمجاعةٍ حقيقيةٍ شاملة.
في المقابل، أكدت مصادر بمصرف لبنان لـ"اندبندنت عربية"، أن المجلس المركزي راسل الحكومة اللبنانية قبل استقالتها، وأعلمها أنه سيوقف الدعم، لمنع نزول الاحتياطيات من دون 17.5 مليار دولار، وهو مستوى الاحتياطي الإلزامي خلال مدة أقصاها ثلاثة أشهر، بعد تآكل إجمالي احتياطياته.
وكان المصرف، وعلى الرغم من تدهور سعر صرف الليرة بالسوق الموازية إلى مستويات 7000 ليرة للدولار حاليّاً، قد أبقى على السعر الرسمي عند 1507.5 ليرة للدولار، ما سمح للموطنين بالاستمرار في تسديد قروضهم على السعر الرسمي المنخفض ودفع بوالص التأمين وأقساط المدارس والجامعات.
كما أقرّ المصرف، وبضغط من الحكومة، آلية دعم لاستيراد المواد الأساسية وسلة غذائية كشبكة أمان في بلدٍ أصبح 55 في المئة من سكّانه فقراء، حسب التقرير الأخير لمنظمة الإسكوا.
وبالطبع، سيُعقّد رفع دعم المواد الأساسية الوضع الاقتصادي والمعيشي، في بلد يُعاني تشابك أزمات مترابطة عدّة: جائحة كورونا، والأزمة الاقتصادية، وتعثّر الدولة، وانفجار مرفأ بيروت، إضافة إلى أزمة سياسية خانقة أدّت إلى استقالة الحكومة.
استنزاف احتياطي مصرف لبنان
يُحدّد قانون النقد والتسليف وإنشاء المصرف المركزي ماهية احتياطيات مصرف لبنان من العملات الأجنبية. فالمادة 69 تنصّ على الآتي "على المصرف أن يبقي في موجوداته أموالاً من الذهب ومن العملات الأجنبية التي تضمن سلامة تغطية النقد اللبناني، توازي 30 في المئة على الأقل من قيمة النقد الذي أصدره وقيمة ودائعه تحت الطلب، على أن لا تقل نسبة الذهب والعملات المذكورة عن 50 في المئة من قيمة النقد المصدّر. ولا تؤخذ موجودات المصرف من النقد اللبناني بعين الاعتبار لحساب النسبتين المحددتين في الفقرة السابقة".
وتتألّف هذه الاحتياطيات من: الاحتياطي الإلزامي، أي نسبة من الودائع، تضعها المصارف التجارية في مصرف لبنان، وودائع تضعها المصارف في مصرف لبنان، وأموال مصرف لبنان الخاصة بالعملة الصعبة، وودائع الدول أو المصارف المركزية الأخرى في المصرف المركزي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الدعم بدأ عمليّاً مع الأزمة، إذ إنّ مصرف لبنان يُسلّم الدولار على سعر 1515 لشراء المحروقات والقمح والأدوية، وأمّن الدولار في مايو (أيار) الماضي على سعر 3900 ليرة، لاستيراد سلّة من المواد الغذائية الأساسية.
بالتالي أخذ الاستنزاف من احتياط المصرف من العملات الصعبة بالتراجع نتيجة دعم الاستيراد على سعر 1515 ليرة للدولار للمواد الأولية، وعلى سعر 3900 ليرة للمواد الغذائية والمواد الأوّلية للصناعة والزراعة، وشراء الفيول للدولة اللبنانية، ودفع مستحقاتها من خدمات وغيرها، وضخ الدولار في السوق للدفاع عن الليرة اللبنانية، ومدّ القطاع المصرفي بالدولار، لتلبية حاجات المودعين. أضف إلى ذلك أنه جرى القيام بعدد من التحاويل من لبنان إلى الخارج، أدّت كلها إلى خفض الاحتياط، وأوصلته إلى عتبة حرجة.
وحسب الأرقام فإنّ هذا الاحتياط سيصل إلى مستوى الاحتياطي الإلزامي في نوفمبر (تشرين الثاني) من هذا العام، مع بلوغه مستوى 18.9 مليار دولار في أغسطس (آب) 2020، وتآكل بوتيرة 600 مليون دولار شهريّاً منذ بداية السنة.
عمليّاً، إذا لم تُشكَّل حكومة في القريب العاجل، ويحدث خرق لحالة الجمود والمراوحة السياسية، سيلجأ مصرف لبنان مرغماً إلى وقف الدعم عن السلع والمواد الأساسية، ما سيرفع أسعارها إلى أضعاف عدة، لتصل إلى مستويات لن يكون بقدرة المواطن اللبناني تحمّلها، ما سيؤدّي إلى فوضى عارمة قد تصل إلى حدّ الفوضى الأمنية.
الأزمة بدأت مع خفض تصنيف لبنان الائتماني
يبيّن الباحث الاقتصادي والأستاذ الجامعي البروفسور جاسم عجاقة، أنّ الأزمة الاقتصادية بدأت مع إقرار سلسلة الرتب والرواتب في سبتمبر (أيلول) 2017، التي أدّت إلى ضرب المالية العامة مع استدانة الدولة، لدفع هذه السلسلة واستخدام الموظّفين الأموال في شراء السلع والبضائع المستوردة بشكل ملحوظ.
وسجّل العام 2018 عجزاً قياسياً في موازنة الدولة مع 11.5 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي، نظراً إلى غياب الحكومة تسعة أشهر، تراجع خلالها الاقتصاد والمالية العامّة بشكل انفجر معه الوضع المالي في أغسطس 2019.
ويضيف عجاقة، "في الـ23 من أغسطس من العام الماضي خفّضت وكالات التصنيف الائتماني تصنيف لبنان بالتزامن مع فرض عقوبات أميركية على مصرف لبناني (جمّال تراست بنك)، ما أدّى إلى ضرب الثقة بالقطاع المصرفي والاقتصاد على حدٍ سواء. وانفجرت الاحتجاجات الشعبية في الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول) 2019، ليدخل لبنان في أزمة سياسية خانقة استقالت على إثرها حكومة الرئيس الحريري، وشُكِّلت حكومة برئاسة حسّان دياب التي استقالت بعد شظايا تفجير بيروت".
أخطاء حكومة حسان دياب
ارتكبت حكومة الرئيس حسّان دياب، حسب عجاقة، أوّل أخطائها بوقف دفع سندات الـ"يوروبوندز" في مارس (آذار) 2020، ليدخل معها لبنان مرحلة الانحدار المالي. فقد توقفت مداخيل البلد من الدولارات على إثر هذا التعثّر، وبات المصرف المركزي يعتمد بدرجة أساسية على احتياطياته من العملات الأجنبية، لسدّ حاجات الدولة، التي تتمثّل بشراء الفيول، وتأمين الدولار لاستيراد المواد الأولية (محروقات، وقمح، وأدوية)، وبعدها بدأ دعم سلّة غذائية مؤلّفة من 300 منتج مستورد على سعر 3900 ليرة لبنانية، كما ضخّ الأموال لدعم الليرة اللبنانية في وجه المضاربة الكبيرة التي عصفت بالليرة من سبتمبر (أيلول) 2019 وحتى يومنا هذا.
لدى اندلاع الانتفاضة الشعبية التي بدأت في الـ17 من أكتوبر من العام الماضي، كان الدولار قد أصبح سلعة تداول نادرة، نتيجة الاتهامات بتهريب الدولار إلى الشرق. وأخذ المواطنون والتجار بسحب أموالهم بالليرة اللبنانية، وتحويلها إلى دولارات في السوق السوداء.
طبع العملة يغرق لبنان
نظراً إلى أرقام مصرف لبنان، يرى عجاقة أنّ الودائع بالليرة اللبنانية تقلّ لصالح الودائع تحت الطلب، بالتالي سُحبت هذه الودائع لشراء العملة الصعبة.
وأخذ التجار من جهتهم بفرض استخدام النقد عبر تحويل الاقتصاد من اقتصاد رسمي إلى غير رسمي، زاد فيه الطلب على الليرة اللبنانية لشراء الدولار، ما أدّى إلى طبع الليرة بشكل ملحوظ، من الفترة المُمتدة من أول هذا العام وإلى اليوم بواقع 1.5 تريليون ليرة شهريّاً.
ولم تنجح الحكومة المُستقيلة في لجم عجز الموازنة، حتى وصل إلى أربعة تريليونات ليرة لبنانية في الأشهر الخمسة الأولى من العام 2020، ليزداد معها طبع العملة لتغطية هذا العجز، على الرغم من توقّف دفع مستحقات الدين العام!
هذا الواقع رفع الكتلة النقدية من 11.7 تريليون ليرة لبنانية في سبتمبر 2019 إلى 27 تريليون ليرة في أواخر يونيو (حزيران) 2020. ومعها ارتفع التضخّم (CPI) من 109 نقاط في سبتمبر 2019 إلى 207 في يونيو الماضي.
أرقام تنذر بمزيدٍ من التراجع لسعر صرف الليرة التي خسرت أكثر من 80 في المئة من قيمتها خلال أشهر قليلة، وتدلّ بوضوح على أن الحلول الآنية لم تعد تنفع، وسياسة الحكومة باستمرار طبع العملة، لسد إنفاقها المتمادي، ستغرق لبنان.