Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الدانماركية نايا ماريا آيت أمام فداحة المأساة البشرية

نصوص شعرية وسردية ترثي فيها الشاعرة ابنها الراحل

الشاعرة الدانماركية نايا ماريا آيت (موقع الشاعرة)

في الكتاب الجديد المنقول إلى العربية "إن أخذَ الموتُ منكَ شيئا ردّه إليه"  للكاتبة الدانماركية نايا ماريا آيت (آيدت)، والصادر بالعربية، عن دار المتوسّط  في ترجمة الكاتبة دنى غالي، ما يمكن إدراجه في نوع خاص، لا بد من تفصيله لاحقاً. ولكن قبل المباشرة بالحديث عن الكتاب المستمدّ عنوانه من إحدى مراثي الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه، لا بدّ من التعريف بالكاتبة التي تطلّ على اللغة العربية للمرة الأولى، ربما، من خلال هذا الكتاب المترجم.

إذاً، الكاتبة الدانماركية نايا ماريا آيت (آيدت) ذات شهرة واسعة في بلادها، وقد نالت جوائز عديدة على أكثر من عمل أدبي لها؛ وهي وإن اشتهرت بكونها شاعرة، ولها إحدى عشرة مجموعة شعرية، في رصيدها إلى اليوم، كانت قد بدأتها بكتاب عنوانه "ما دمتُ شابّة"، فإنّ لديها العديد من المجموعات القصصية، وأكثرها شهرة وترجمة هي "بابوين"، بالإضافة إلى مسرحيات عديدة، وقصص للأطفال، بحيث تربو أعمالها الأدبية على الثلاثة والخمسين كتاباً. ولا يكاد الجمهور العربي يعرف للكاتبة شعراً مترجماً عن لغتها الدانماركية، علماً أنّ أعمالها مترجمة إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها. وقد يكون كتابها المترجم إلى العربية هذا مدخلاً إلى التعريف بعالمها الشعري، وكتابتها، تمهيداً للتعريف بعالمها القصصي والمسرحي، من خلال أعمال لها.

وإن شاء القارئ وضع الكتاب "إن أخذ الموتُ منكَ شيئاً ردّه إليه" في باب الرثاء، هذا الغرض الإنساني (الكوني) المتجلّي شعراً، والذي عرفته البشرية منذ ما قبل الألف الثالث قبل الميلاد، وإدراك الإنسانية فداحة مأساتها في الموت المحتّم، وسعيها الحثيث إلى الخلود (أساطير المصريين وآلهتهم، وتحنيط الملوك الموتى)، وإعلاؤها الندبَ على أبطال الأمّة الذين عاجلهم الموت في عزّهم (رثاء أنكيدو، في ملحمة جلجامش)، وصولاً إلى أول رثاء في شعر عربي بلغة قريش - مع حفظ اعتراض طه حسين على انتحاله - قالته الخنساء في مقتل أخيها صخر:

"يا عينُ جودي بالدّموعِ الغزارْ    وابكي على أروع حامي الذّمارْ

منْ كان يوماً باكياً سيّداً         فليبكِ  بالعبَراتِ  الحرارْ"

بالطبع، ليس المجال ههنا متاحاً للكلام على الرثاء في الشعر العربي الذي اتّخذ له أمداء واسعة في التراث الشعري العالمي، والعربي قديمه وحديثه، وإنما قصدتُ الالتفات إلى أمر أدركته الكاتبة نايا ماريا آيت، من دون كثير إمعان؛ وهو أنّ التعبير عن فاجعة فقد الابن ظاهرة إنسانية شاملة، وأنّه لا بدّ لها من ربط نشيجها وغنائيتها العالية وتفجّعها الصارخ، بنشيج من سبقها من الشعراء، وبغنائيتهم وتفجعّهم الصارخين على من فقدوا من فلذات أكبادهم. لذا نراها تستحضر شعراً لكلّ من مالارميه في رثاء ابنه، وريلكه في مرثياته، ووالت ويتمان، وروبو، وصامويل باربر، وإميلي ديكنسون، وكوشانويسكي، وكريستنسن، وملحمة جلجامش في رثاء أنكيدو، وغيرهم.

كينونة شعرية

وعلى الرغم من أنّ الكتاب ليس كله شعراً خالصاً، فإنّ كينونته هي شعرية، غنائية، بل تفجّعية وجنائزية بامتياز، تُرسل فيه الكاتبة - الأمّ المفجوعة بابنها ذي الخمسة والعشرين ربيعاً، كارل، الكلام بين السرد البسيط والذكرى، واليوميات الموجزة، والتعليقات، والوصف، ترسلها كيفما اتفق، ومن دون هندسة معلومة تُنمى إلى نوع السرد أو القصة القصيرة أو الرواية، وتُتبع كلّ مقتطف من هذه الأنواع بشعر مستلّ من هؤلاء الشعراء السابق ذكرهم.

ولمّا كان الكتاب كلّه، بحسب الكاتبة - الأم، مخصّصاً لرثاء ابنها الأصغر، كارل ومهدى إليه من العنوان، على جاري تقليد في الأدب الدانماركي، فقد كان بديهياً أن تروي لنا، بلغة قليلة التماسك وشديدة الإيجاز، وبمقدار ما تتيح لها مأساتها العاصفة في دواخلها التعبير، كيف بلغها خبر موت ابنها، كارل، بفعل سقوطه من الطابق الرابع، حيث كان مقيماً مع زميل له، في أحد أحياء كوبنهاغن. وكان تبيّن لها، من كلام صديقه، أنّ كارل، النباتيّ وغير المدمن على الكحول أو المخدرات، كانت قد أصابته من مثابرته على تناول الفطر حالة من الهذيان الشديد، أخرجته عن طوره، فاندفع الى القفز عارياً، ومات من جرّاء النزيف الحاد في جمجمته وكسور في مرفقيه وقدميه.

 

إذاً، يشكلّ الشعر الغنائي، والجوّ الجنائزيّ، لبّ الكتاب، وخلاصته التعبيرية، سواء في تدوين الشاعرة أهمّ محطّات ابنها المرثي، أو في تسجيلها المتلجلج والمبعثر – نظير البعثرة الأسلوبية لدى مالارميه – للعصف والتدمير الكياني الذي أصاب روحها بفعل موت الابن. "ولكنّك كنتَ منسحباً أيضاً أو بعيداً أو غيمة./ ولكنّك كنتَ ممتلئاً بالفرح أيضاً./ ولكنّك كنتَ رقيقاً وحسّاساً أيضاً./ ولكنّك كنتَ قويّاً أيضاً./ ولكنّك كنتَ باحثاً عن المعنى في كلّ شيء أيضاً./ ولكنّك كنتَ مستقرّاً أيضاً./ ولم يكن في داخلكَ الكثير من الغضب..." (ص:12)

سيرة الإبن

وقد كانت الكاتبة - الشاعرة - الأمّ، وهي تفصّل في الحديث عن ابنها، منذ ولادته عام 1989، تعاود رسم ملامحه لنفسها، قبل القرّاء، طفلاً، ثم فتى، وشاباً، جميلاً، مشرقاً، ثمّ تخاطبه مستحضرة الطلاق بينها وبين زوجها (أبيه)، واستشعارها المثقل بالذّنب لما آل إليه حالها بعد موته، أو لما سببته شخصيّتها المتسيّدة، وربما إهمالها إياه: "أطرقُ/ لا صوت/ أصيحُ/ لا صوت/ أصرخُ/ لا صوت/ ستارةٌ داكنة/ على وجهي". (ص:28)

وفي مواضع أخرى من الكتاب، إذ تعاود الأمّ استذكار فقيدها، والتعليق على صوره من مرحلة الروضة، وعشقه مربّى التوت، والألعاب، وحتى عمر الفتوة والشباب، فإنها تستتبعها برؤيا وتمثّلاتٍ وأماني مستحيلة من مثل رغبتها في أن يخفّف لها معالج روحانيّ من حزنها، أو يفلح شامانيّ، من خلال أحابيله، في إحياء طيف ابنها الفقيد، ولو لثوانٍ معدوداتٍ.

ثمّ لا تلبث أن تستذكر رحلة قامت بها العائلة إلى جزيرة سالت بوند، حيث زلّت قدم كارل وتجرّحت قدمه، وسال منها الدم غزيراً، وكان قبل ذلك يقف عند كلّ منزل مهجور دقيقة صمت حداداً على من مات من أهله. وسرعان ما تعود الكاتبة - الأمّ إلى الحادثة الأشدّ مأساوية وقتاماً، عنيتُ رقاد الشاب كارل، ذي الستة وعشرين ربيعاً، مهشّم الجمجمة، ومحطّم الساقين، في الطابق التاسع من مستشفى الغيزهوستبيتال، غارقاً في غيبوبة ما قبل الموت. وتكاد الأم تفقه شيئاً من طلب الطبيب المشرف إلى العائلة بلزوم التبرّع  بأعضاء الميّت كارل، لمن تلزمهم، إلى أن يأتيهم الخبر المشؤوم بموت دماغه.

كتاب كارل عابق بالحزن واللوعة على الابن الحاضر دوماً في الروح. وللحقّ، ما كان لقارئ الكتاب، وكاتب هذه السطور، أن يتحمّل قسوة المشاعر التي يستدعيها رثاء الابن الفقيد، والحبيب، لولا بعض النأي عن المأساة الحقيقية، وموت ابن الكاتبة الحقيقي وليس المتخيّل.

وأياً تكن هذه التجربة الإنسانية، فقد تجاوز التعبير عنها الحدود التي رسمتها الأجناس الأدبية، بل صيّر التعبير بعضاً من السرد، والوصف، والتعليق، واليوميات، والذكريات، والهوامش، والاقتباسات، التي كانت تتوالى، حيناً بعد حين، خدمة للشعر الغنائي، العالي النبرة، والحادّ حتّى الصراخ والنشيج العبثي والأليم. ذلك هو شعر نايا ماريا آيت. وكتاب رثاء ابنها كارل ماثل للقراء ولمن شاء المواساة أيضاً، في زمن الأحزان العربية الكبرى. "إن أخذَ الموتُ منكَ شيئاً/ فردّهُ إليه/ رُدّه إليه/ هذا الذي/ حصلتَ عليه من ذلك الميتِ/حينَ كان ذلك الميتُ قلبَك/ ردّهُ الى وردة جوريّة/ قارّة يوم شتائي/ ولدٌ يرقبُكِ عبر عتمة الكبّوس (الطاقية)/ إن أخذ الموتُ منكَ شيئاً/ فردّه إليه/ ردّه إليه..." (ص:140)

المزيد من ثقافة