Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"المنديل" عرض سوري بين الفرجة المسرحية والغرافيك البصري

رجل وامرأة ينتقلان دراميا من نعمة العمى إلى بؤس البصر

مشهد من مسرحية "المنديل" السورية (اندبندنت عربية)

يدمج الفنان بسام حميدي بين مفهومي الزمان والمكان في عرضه البصري الراقص "المنديل" جامعاً بين العمارة والديكور والنحت والغرافيك من جهة، وبين فنون الشِّعر والرقص والتمثيل والغناء من جهةٍ أُخرى، منجزاً بذلك مكاناً وسطاً بين فنّي السينما والمسرح من خلال ما يشبه "بيرفورمانس". إنها حكاية رجل وامرأة أعميين يعيشان مع الطبيعة لحظات رومانسية حميمة، لا تلبث أن تُسلب منهما بعد أن تعود إليهما حاسة البصر، لتنقلب حياتهما رأساً على عقب، وتدبّ الخلافات بين العاشقين خاجيك كجه جيان وسماح غانم واللذين قاما بأداء الشخصيتين رقصاً على مدى أربعين دقيقة، مجسّدين مفارقة درامية تمثّلت في نعيم العمى ولعنة البصر في عالم يضجّ بالحروب الكونية والأوبئة والنزاعات المسلحة، حيث ينعم العميان بالسلام والحب، ويتخبط المبصرون في جحيم من صور القتل والدمار والدم.

مقولة أخذت العرض نحو مساحة من التجريب بين الجسد والشاشات الثلاثية الأبعاد التي زرعها مخرج العرض بين عمق وأرضية الخشبة، وبتواصل تقنية الـ "ثري دي" التي نجح من خلالها في تقديم مستويات عدة للعبته البصرية المتحركة. نشاهد العاشقين وجهاً لوجه مع كواكب ومجرّات سحيقة تنبلج من خلال انفتاح بيتهما الكائن في غابة خضراء على سديم من حرائق وانفجارات وثقوب سوداء تبتلعهما، بعيداً من جنة بيتهما المحاط بحديقة وطيور وفراشات حرص "حميدي" عبرها على إظهار التناقض بين الداخل والخارج، مطوّعاً البعد التقني لصالح السينوغرافي، محاولاً التأسيس لبيئة جمالية تزيينية لعرضه المتعدّد الوسائط، مصالحاً بذلك بين فضاء الخشبة المسرحي، وفضاء الشاشة الرمزي.

حفر بصري

زواج الصورة بالجسد الراقص وفنّ الحفر البصري (الغرافيك) قارب أيضاً بين الفرجة المسرحية والمشاهدة السينمائية التشكيلية، إذ بدا ذلك مهمة صعبة لجهة توليف كل هذه العناصر في صيغة هارمونية لعبت فيها موسيقى المايسترو نزيه الأسعد دوراً حاسماً، لاسيما مع هذا الفيض من المواد البصرية التي قدّمها أسامة الخضر وأحمد موره لي مصمما الغرافيك والمؤثرات البصرية. وكان لابد من استحالة عدم تشويش الصورة على التصميم الراقص الذي حقّقه الفنان نورس عثمان، خصوصاً على مسرح بحجم دار الأوبرا السورية، والذي بدا هو الآخر منصاعاً لغابة من رموز وإشارات ودلالات عمل العرض على بثّها بكثافة من خلال جعل الفرجة والمشاهدة تحدثان معاً وفق انخطافات جسدية وبصرية وتشكيلية متناوبة.

المغامرة القصوى في حشد كل هذه العناصر بدت هي الأخرى على هيئة استعراض تقنيّ في جانب من عرض "المنديل" لولا محاولة مؤلفة العرض عبير العودة التعويل على المفارقة الدرامية للإصابة بنعمة العمى، مذكّرة بجحيم العمى الأبيض في رواية "العمى" للكاتب البرتغالي "جوزيه ساراماغو( 1922- 2010) أو حتى في مسرحية "العميان" للبلجيكي "موريس ميترلنك( 1862- 1949) حيث العميان يبحثون عن مخلّص. إلا أن "العودة" حافظت على مسافة أمان بين المسرحية والرواية، مبددةً ذلك بوحشة البصر وأُنس المكفوفين، ساندها في ذلك الإشراف الدرامي للمخرج عروة العربي. إننا أمام تجربة بصرية كان للرقص الحضور الأبرز فيها عبر إنجاز صيغة حركية متبدّلة على مدار اللحظة، وذلك عبر تلك العناقات المديدة والمتكسّرة والمتموّجة في جسديّ الراقص والراقصة، وقدرتهما على التلون والتماهي مع طاقة الصورة وحجم الشاشة العملاقة في عمق المسرح.

تأتي تجربة حميدي بعد عرضه الأول "ضوء القمر"( 2018) والذي أتاح فيه فرصة كبيرة للتعامل مع عناصر مسرحية وبصرية في آنٍ ، وحيث الحرب بآثارها المباشرة قد هيمنت على مقولة هذه التجربة بالشراكة مع المؤلف الموسيقي أيمن زرقان، نحو ما يشبه رثائية عن فتاة تفقد أهلها وبيتها في تفجير انتحاري، لتقرّر الهجرة من البلاد الغارقة في العنف. أما في "المنديل" فنجد تطويراً نوعياً للحركة مع تلك النزعة التصويرية لثنائية "الأنا- الآخر" كمقام لبسط ثنائية "الآن وهنا" أضف إليها - وعبر الصورة - ثنائية "الآن وهناك" التي جسّدها مخرج العرض في علاقة متعددّة ومتنوعة مع الجمهور في زمن الذكاء الصناعي، ليكون العالم اللامرئي في موازاة العالم المرئي وندّاً له. وللتعويض عن "كسر الوهم" من خلال اختراق الشخصيات للشاشة، واللعب داخلها وحولها وخلفها وأمامها، في مناكفة قد تبدو مشروعة لجهة إغناء الحالة الشعورية للمتفرج- المشاهد، والفوز بأكبر قدر ممكن من الغنى الزركشيّ التزيينيّ للعرض، من دون الإخلال بالشرط الفنيّ لكلٍ من فنَّي الخشبة والشاشة.    

رسوم متحركة

من هنا يحسب للفنان بسام حميدي تحديات فنية عديدة خاضها على صعيد الإخراج وتصميم الإضاءة في فضاء مزدحم بالصور المتتالية، وحيث منابع الضوء في الصور تعيق وتشوّش أحياناً على منابع إضاءة المسرح، أو حتى على أحجام الأشياء وتعامل الراقصين معها كي تبدو وكأنهما يتعاملان معها بشكلٍ واقعي. مهمة لم تخلُ من بعض الهنات الصغيرة، والمبالغة أحياناً في ردود أفعال كل من الراقص والراقصة، أو في سذاجة بعض الرسوم المتحركة كالفراشات والعصافير المغرّدة، إلا أنها بدت إلى حدٍ كبير موفّقة في استدراج متعة خاصة لهذا النوع من التجارب المسرحية، ومغامرة تحسب لهذا النوع من العروض التي بدأها كل من أحمد معلا وفصيح كيسو منتصف تسعينيات القرن الفائت، محطمين القوالب الجاهزة للعرض التقليدي. فكانت تجارب معلا من مثل "مرآة بثلاثة أبعاد" أو "تحية إلى سعد الله ونوس" 1997 وتضمنت وقتذاك جداريات من القطع الكبير غلب عليها اللونان الأبيض والأسود، وصوّرت تجمعات وحشوداً بشرية استوحاها الفنان بشكلٍ أو آخر، من نصوص ونّوس المسرحية، معتمداً على وسائط جديدة كالماء والزجاج والإضاءة والموسيقى والرمل. بالإضافة إلى النص، حيث تمثلت جرأة هذا النوع من العروض في "مسرحة" طريقة العرض، وذلك لتقريب المُشاهد من عوالم سعد الله ونوس، ويورّطه في عملية تلقٍ تفاعلية على غرار الأعمال التي تصنّف تحت عنوان الـ" installation" أو ما يسمى التجهيز الفني.

مثله تماماً كانت تجربة المخرج فصيح كيسو الذي عمل على مسرح الجسد والفوتوغراف، مُقدِّماً هو الآخر في عرضه "ليس فقط قماش" 1996 مقاطع بصرية غنية بمفرداتها وإدراكها وظيفة السينوغرافيا، وفي وضع توقيعها الخاص على جُمل وعبارات الممثل والراقص المسرحي. أو كما في عرض كيسو أيضاً المعنون بـ "إنهم يقتلون الراقصات أليس كذلك؟" التجربة التي قدمها الفنان السوري المقيم في أستراليا عن عالم الراقصات الشرقيات، مستخدماً خامات من الأقمشة الفولكلورية من دامسكو وبروكار، جنباً إلى جنب مع شاشات عدة قدّمت حينذاك تسجيلات فيديو آرت مع مقاطعَ من أغنيات شعبية قامت مؤديات بتقديم فقرات من الرقص الشرقي على إيقاعاتها الصاخبة.

المزيد من ثقافة