Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كتاب سوريون مضطهدون لجأوا إلى بيروت وكتبوا روايتها

غادة السمان وحنا مينه وحليم بركات جعلوا من المدينة حلم الحرية

بيروت الستينيات الملجأ المفضل لكثير من المثقفين (أ ف ب)

يدفعني ما خبرته من العيش في أنحاء سوريا كلها، إلى القول إن حضور بيروت فيها يكاد أن يماثل حضور الشام/ دمشق. فبيروت هي الحاضرة الفاعلة في حياة وذاكرة ومخيلة من تقاطروا إليها من أنحاء سوريا، ممن يمكن وصفهم بعمال التراحيل، لا فرق بين من هو من جبل حوران (الدروز) ومن هو من جبل العلويين، أو من جبل النصارى، أو من أرياف دير الزور وإدلب وحلب. وبيروت هي الحاضرة في حياة وأدب بدوي الجبل أو نزار قباني أو أدونيس أو محمد الماغوط أو...، أما في السياسة، فلا تسل عن الحبل السري بين بيروت والشام، ليس ابتداءً بالزوجات السوريات لمحمد جميل بيهم ورياض الصلح وصائب سلام وابنه تمام وعبدالله اليافي وصولاً إلى وليد جنبلاط وبشير الجميل وسعد الحريري، وليس انتهاءً بمن كانت بيروت ملجأً للهارب من نيران دمشق: القائد القومي السوري غسان جديد – مثلاً – وفي بيروت اغتيل، القائد البعثي المؤسس شبلي العيسمي – مثلاً- الذي اختُطف في بيروت وهو في الثامنة والثمانين، أكرم الحوراني وأديب الشيشكلي وأفواج من المعارضين من كل جيل ولون وصولاً إلى أفواج اللاجئين بعد زلزال 2011.

ولأن الأمر كذلك، يكاد يكون حضور بيروت في الرواية السورية أن يماثل حضور الشام/ دمشق. ومن ذلك ما كتبه من كانت بيروت ملجأه/ ملجأها من العسف. فهذه غادة السمان التي حملت مجموعتها القصصية عام 1963 هذا العنوان "لا بحر في بيروت" يمنعها ضابط في الاستخبارات من السفر إلى لبنان إن لم تمتعه بسهرة، فتهرب إلى بيروت، ولا تعود إلى دمشق حتى اليوم. وبينما كانت شرارة الحرب اللبنانية تندلع، أصدرت غادة السمان روايتها "بيروت 75"، فجاءت بالشخصيات المحورية من دمشق إلى بيروت التي ما إن أطلت عيونهم عليها حتى تعلقت بهذه "الغابة الحجرية المضيئة الممتدة أمام عيونهم".

ياسمين الدمشقية

هي ذي ياسمين المدرّسة الدمشقية الهاربة من سجن جسدها ومجتمعها، يتلقفها في بيروت نمر السكيني، ويغرقها في يخته باللذات على إيقاع أصوات الطيران الإسرائيلي. وحين يتخلى عنها تحار بين البقاء في بيروت والعودة إلى فقر ذويها، فتختار التوغل في بيروت حيث تكتشف "معادلات أخرى كثيرة تتحكم بهذه المدينة، وتودي بكل من يمنح بعفوية إلى الدمار". ومثلها يحضر من دمشق فرح الدوماني حالماً بالمجد.

وفي الحمرا يتفرج على القرد والقراد وسط الجمهور غير المبالي بأصوات الطيران. ويمتلك فرح من قصده لييّسر له تحقيق أحلامه، فيكتشف أن المال هو الذي يحيي الفن والأدب في بيروت ويميتهما. ويعصف الجنون بفرح فيهتف: "ما أجمل هذه المدينة من بعيد". ويراها سدوم وعمورية، سوى أنها معلبة، يقرأ على أبوابها ما كتب دانتي على باب الجحيم: "يا من تدخل إلى هنا تخلّ عن كل أمل". وفي منتهى الرواية ينزع فرح لافتة مستشفى المجانين ليضعها على مدخل بيروت، وهذا ما يظهر في رواية غادة السمان التالية "كوابيس بيروت" - 1977، والتي كتبتها في عصف الحرب، وتكتب هذا العصف، فترى الضحايا يخرجون من قبورهم ويقصون قصصهم، وترى دمية تخرج من إحدى واجهات شارع الحمرا، لتفضح مسرحية الازدهار، وترى الأطفال ينصبون حاجزاً ويقتلون مرة، ومرة يغيرون على مخزن اللعب، بينما تردد الببغاء في متجر الحيوانات ما يلقنها صاحبه عن الغريب والتخريب.

بعد سنوات، وفي حمأة الحرب أيضاً، تأتي رواية غادة السمان "ليلة المليار"- 1986، لكن فضاءها يكون في جنيف، وزمنها هو احتلال إسرائيل بيروت عام 1982، حيث يهرب خليل الدرع وأسرته من بيروت إلى قلعة الذهب/ قصر رغيد الزهران. وتحضر بيروت إلى القصر مرموزةً بالفتاة بحرية، وبينما تردّد زوجة خليل: "بيروت هي الجحيم" يهرب هو مع ولديه، ولكن إلى بيروت. وإذ يرى قرب الشاطئ باخرة تقلّ مهاجرين، ينشج سؤاله: "أين المفر". ومن صور بيروت في مصورة خليل تظهر كرقعة شطرنج، كمقبرة، وهي سويسرا الشرق التي تحترق، ومثلها مثل الفضاء العربي: مسرح اللامعقول الذي لا فكاك لأحد فيه من الجنون.

بعد هذه الروايات الثلاث تكمل غادة السمان رباعيتها عن بيروت الحرب، برواية "سهرة تنكرية للموتى"- 2003، ويعود فيها من باريس إلى بيروت سبعة مهاجرين، بينهم الكاتبة الشهيرة ماريا التي لجأت إلى لبنان من بلدها الأصلي، ثم فرّت من الحرب، وها هي تعود مع الآخرين "كأن العودة إلى بيروت عودة إلى الفردوس المفقود". لكن العائدين الذين لا يرون في بيروت حرباً، يرون ما يعدونه أسوأ من مافيات السلم وحيتان الاقتصاد وزعماء المافيا، فيكون للرواية عنوان آخر "موزاييك الجنون البيروتي" ويلوب السؤال: أهذه بيروت أم دمعة متحجرة أم صرخة مذبوحة الحنجرة؟.

قبل ذلك كانت رواية غادة السمان السيرية "الرواية المستحيلة – فسيفساء دمشقية" قد صدرت عام 1997. وفي عام 2015 جاء الجزء الثاني لهذه الرواية "يا دمشق وداعاً – فسيفساء التمرد". وفي هذه الرواية التي ينادي عنوانها عنوان رواية إلفة الإدلبي (1912 - 2007)، وهو "وداعاً يا دمشق" - 1963 تتابع بطلة الجزء الأول (زين) سرد حياتها المتمردة في بيروت الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. إنها بيروت الهورس شو (ملتقى الكتاب والشعراء) ومطعم فيصل (ملتقى الساسة)، بيروت الثورة الطالبية والصراعات الثقافية والمغامرة المفخخة، بيروت التعددية والنساء في المقاهي، (بيروت عاصمة الحرية) كما هو عنوان أحد فصول الرواية التي حرصت على أن توضح في الهوامش الأسماء الجديدة لمقاه وشوارع وفنادق سكنت زين منذ عهد الصبا.

هروب حنا مينة

من الكتاب السوريين الذين لجأوا إلى بيروت حنا مينه (1924 - 2018) في سياق ملاحقة الأمن للشيوعيين، إبّان الوحدة السورية المصرية (1958- 1961). وقد كان ذلك قوام رواية مينه "الثلج يأتي من النافذة" - 1969. ولا تخفى السيرية في الرواية، وإن يكن الكاتب قد تقنّع باسم بطله الكاتب (فياض) الذي تخفّى في بيروت أيضاً، لأن السلطة فيها آنئذٍ كانت متحالفة مع دمشق. وكان حنا مينه قد مضى من اللاذقية إلى بيروت عام 1946 – وثمة من ذكر عام 1948 – بحثاً عن عمل، ثم آب إلى دمشق. أما فياض فقد عمل "مارماتون" في مطعم، وارتسمت عبر سنوات لجوئه صورة خاصة لبيروت، تجسدت في بعض الشخصيات، مثل جوزيف الفخور بأصله الكسرواني، أو الأرملة الكهلة المعيلة التي تعمل في ورشة لتوضيب عروق السوس.

 

يهجس فياض بالتفاوت الطبقي بين كرم الزيتون وشارع الحمرا، كما يهجس بأن لبنان ليس مطعم الجبل، ولا ساحة البرج، بل هو كسروان وطرابلس وصيدا وصور، وبيروت نفسها. وتبدو بيروت في الرواية التي تشرّح الرأسمالية اللبنانية، تلك الفاضلة البكر التي لا سبيل إليها إلا بالـ devise (العملة الصعبة). فالمال هو الخاتم السحري، وكل رذيلة ممكنة إنْ دُفع ثمنها، وتتملك الجميع رغبة مجنونة في الإثراء بأية وسيلة، ورغبة مماثلة في التبرؤ من الأصل/ المنشأ. إنها ميكافيلية صريحة بحسب هذه الأهجية الروائية التي تبلغ مداها في صورة الكنائس التي تمتلئ بالمصلين الذين يطلبون في ختام صلواتهم غسالات وثلاجات وسيارات.

وإذا كان فياض يعود إلى دمشق بعد انفصال سوريا عن مصر عام 1961، فسوف يمضي من بيروت إلى بكين زبيد الشجري بطل ثلاثية حنا مينه "حدث في بيتاخو" - 1995. وزبيد كاتب سوري شيوعي أيضاً، يلجأ إلى بيروت فراراً من قمع السلطة السورية. وفي بيروت يساعده شيوعيون يعملون في الأمن اللبناني، على المضيّ إلى بكين، مثلما يساعده الكاتب اللبناني جورج حنا، بحسب ما جاء في هامش من الرواية، وليس ذلك بالتوكيد الوحيد على السيرية فيها.

المدينة الملونة

ليست السياسة وحدها ما يُلْجِئ السوري إلى لبنان، فشظف العيش سبب أكبر أيضاً. وهذا ما قذف بحليم بركات طفلاً من قريته الكفرون إلى بيروت مع أسرته سنة 1942، كما كتب في روايته السيرية "المدينة الملونة" - 2004. ومن قبل كانت السيرية وبيروت قد حضرتا في روايته "طائر الحوم" – 1998. من نهاية القرن العشرين تعود "المدينة الملونة" إلى بيروت منذ خمسينيات القرن العشرين. وكان الكاتب قد دأب على العودة من مقامه الأميركي، سنوياً، إلى بيروت بعد الحرب، يتأمل دمار المدينة ومحاولتها أن تنهض من جديد.

من القبو الذي آوى الأسرة الفقيرة المهاجرة، في حيّ راس بيروت، تبدأ الاستعادة الملفوحة بحرارة بالنوستالجيا. وقد تقنّع الكاتب باسم نادر الكفروني. ومن العقود الطويلة التي تمور بها الرواية، يرجّ السؤال نادر/ حليم: "هل دخلت بيروت من بوابة ألف ليلة وليلة، أم دخلت عالم حكايات ألف ليلة وليلة من بوابة بيروت"، وبالتالي: هل أراد نادر/ حليم أن يسجل سيرة بيروت أم سيرة شبابه؟

يشتبك في الجواب/ الرواية ما جعله الدمار يسأل عما إذا كانت بيروت ست العجائب أم ست الخرائب، ويستذكر ما كان يردّد مع نزار قباني من أن بيروت هي عشتار، وحقل لؤلؤ، وقصيدة ورد، لا مثيل لها، لا قبلها ولا بعدها. كما يردّد نادر الكفروني مع محمود درويش: بيروت تفاحة البحر. إنها زهرة المدن، وزهرة الشرق التي دمرتها الحرب، وحلم الشرق. وهي لنادر الكفروني بيروت القراءة (جبران، أنطون سعادة...) والانتساب إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، ومغادرته. إنها بيروت الانقلابات والاغتيالات، وبيروت العاشق لرفيقته في الحزب صبا التي تنادي بكره زعيم الحزب.

على الرغم من الكلح الذي لبيروت في "المدينة الملونة"، ومن قبل في روايتي حنا مينه، وفي روايات غادة السمان، إلا أن بيروت في هذه الروايات، كما في عشرات الروايات السورية الأخرى، أكثر من مكان أو جغرافيا أو فضاء أو ذكريات مقبضة. إنها أولاً وآخراً ما يستذكر حليم بركات في روايته من أدونيس: جسد، ولبان، ومسك "فأرّخْ هذا الزمان باسم هذا المكان".

المزيد من ثقافة