Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مكتبة "شكسبير أند كو" معقل الثقافة الإنكليزيّة في باريس منذ العام 1919

أقفلت أبوابها في الإجتياح النازي لفرنسا... وهمنغواي وجويس أمضيا فيها أياماً

 مكتبة "شكسبير أند كو" معقل الثقافة الإنكليزيّة في باريس (اندبندنت عربية)

عُرِفَت الضفّة اليسرى في باريس على مرّ التاريخ بعلاقتها الوطيدة بالكتّاب والمثقّفين والمفكّرين، فقد طالما زخرت بالمقاهي والصالونات الأدبيّة التي يرتادها الفنّانون والأدباء المغمورون والذائعو الصيت على حدّ سواء. وضمن هذه الضفّة المخمليّة بتاريخها وقصصها، تقع الدائرة الخامسة من دوائر باريس العشرين، وهي إحدى أجمل الدوائر وأعرقها. وقد يظنّ المرء أنّ باريس منارة الثقافة والفكر حكر على الثقافة الفرنسيّة وحدها إنّما يتجلّى الواقع عكس ذلك. فتضمّ الدائرة الخامسة، إحدى أبرز المكتبات الأنغلوفونيّة في فرنسا وأكثرها شهرة: "شكسبير أند كو".

وكما يكرّس الأدب العالميّ شكسبير (1564-1616) ويقدّمه كأعظم الشعراء والكتّاب المسرحيّين الإنكليز، وكما يعترف بعبقريّته النقّاد ومؤرّخو الأدب جميعهم، ويعاملونه معاملة حامل شعلة الأدب الإنكليزيّ ورائده؛ كذلك تحتفي به باريس على طريقتها. فتظهر مكتبة "ِشكسبير أند كو" إحدى أجمل المكتبات الباريسيّات العريقة. مكتبة فيها ما فيها من النوستالجيا والحميميّة، وتحمل اسم الكاتب شكسبير ورائحة زمنه الذهبيّ الذي يحنّ إليه كلّ قارئ حالم.

"لا تسئ معاملة الغرباء"

تثبت مكتبة "شكسبير أند كومباني" نفسها كمعقل الأدب الإنكليزيّ والأميركيّ في العاصمة الفرنسيّة باريس. فما إن يطأ زائرها محيطها ويجلس في المقهى القريب منها، حتّى تتلاشى اللغة الفرنسيّة برنّتها الأرستقراطيّة ورائها المميّزة وتحتلّ اللغة الإنكليزيّة المشهد. يتوافدون بالمئات يوميًّا ليلقوا نظرة إلى هذه المكتبة الأسطوريّة التي أدّت دورًا مهمًّا في تاريخ باريس الثقافيّ. زوّار وسوّاح وطلاّب يأتون إلى هذه المكتبة لأهداف متعدّدة. يتحادثون، يتجادلون في مسائل الكتب، يستطلعون بعضهم آراء بعض وكأنّهم أصدقاء طفولة، وكأنّهم يعرفون بعضهم بعضًا منذ نعومة أظفارهم. يتبادلون الأخبار والنكات وأخبار الكتب والكتّاب، ثمّ يغرقون مجدّدًا في الصفحات التي بين أيديهم. منهم مَن علم بشأن مكتبة "شكسبير أند كو" عبر الإنترنت وأصرّ على إدراجها ضمن برنامج نشاطاته السياحيّة، ومنهم مَن رآها في أحد المسلسلات التي يتابعها، ومنهم مَن يعشق الأدب الإنكليزيّ ويهواه ويأتي إلى هذه المكتبة ليقتني كتبًا قد لا يجدها خارج هذه الجدران الخشبيّة الدافئة، ومنهم مَن تدفعه الحشريّة البحتة لزيارة هذه الأمتار القليلة واكتشاف كنوزها.

قرّاء حالمون، مثقّفون محنّكون، أساتذة وأكاديميّون، جميعهم يلتقون إلى مائدة الأدب الإنكليزيّ في مكتبة تضمّ من الكتب الكمّ الهائل، حتّى أنّ البائع يقول بفخر واضح إنّ كتبًا كانت ممنوعة في الولايات المتّحدة في أزمنة غابرة وُجِدت على رفوف هذه المكتبة من دون أيّة رقابة أو مانع. وتعبّر سائحة أميركيّة عن فرحتها بهذه المكتبة قائلةً: "أنا معلّمة وأعشق المكتبات، لقد زرتُ هذه المكتبة مع عائلتي عندما كنتُ صغيرة وها أنا أعود إليها بعد أكثر من عشرين سنة! إنّما للأسف بوجود موقع أمازون الآن لم تعد زيارة المكتبات ضروريّة أو مهمّة. لقد أعادتني هذه المكتبة إلى أيّام جميلة أتمنّى لو تعود!"

زوّار كثر يدخلون ويخرجون، يقرأون العناوين، يبحثون عن مؤلّفات معيّنة، تسحرهم الأغلفة العتيقة المذهّبة، تجذبهم الجدران القديمة التي تحمل ألف ذكرى وذكرى، يقلّبون الصفحات، يسافرون إلى أزمنة بعيدة، يجلسون بهدوء لقراءة قصيدة أو قصّة قصيرة، يربّتون ظهر القطّة السوداء القابعة بين الكتب والتي تأتي لتتدلّل في أحضانهم. وزوايا هذه المكتبة الخشبيّة متعدّدة الوظائف والخصائص. طابقان اثنان يقدّمان بغرفهما الدافئة والحميمة عدّة احتمالات. كنبات، كراسٍ، مقاعد خشبيّة، كلّها موضوعة لخدمة الزبائن وتوفير الراحة للقرّاء. زوايا متفرّقة تطوف فيها صور كتّاب وأدباء يتجوّلون بين الرفوف بحرّيّة وهدوء.

وعلى لوح خشبيّ عتيق معلّق على حائط كبير، رسائل كثيرة. أوراق بالمئات يلصقها القرّاء والزوّار. أسماء، جمل، أبيات شعر، وعود بالحبّ، بطاقات مترو، كلمات جالسة في هذه المكتبة منذ سنوات تذكّر بوجوه مرّت وتركت خلفها أثرًا صغيرًا مكتوبًا على عجلة. رسائل تذكّر بكلّ أولئك الذين زاروا هذه المكتبة وتركوا فيها قطعة من أنفسهم. من بلادهم.

يدخل الزائر المكتبة فتلفحه رائحة الكتب المعتّقة، تسكنه أطياف الكتّاب، وتذهله المقولات المنثورة على الجدران وفوق عتبات الأبواب الخشبيّة. مقولات مستلّة من روائع الأدب العالميّ، أوّلها جملة " لا تسئ معاملة الغرباء، فقد يكونون ملائكة من دون أن تعلم". الدَرَج الحلزونيّ نفسه الذي ينقل الزائر إلى الطابق الثاني يحمل على درجاته مقولة لحافظ الشيرازي. وتقول شابّة ألمانيّة بابتسامة لا تفارق وجهها: "المكتبة مذهلة بجوّها وطيبة أناسها وموظّفيها وكتبها الكثيرة. جئتُ لأزور المكتبة وإذا بي أشتري كتبًا بمئة يورو. لا أملك حتّى مكانًا لأضعها في حقيبتي!"

كتب مرصوفة بمهارة ودقّة. أدب وفلسفة وتاريخ، نقد وسياسة وشعر، كلّها تتشارك الرفوف، كلّها تتهامس مع مرور كلّ قارئ.

تحدّ ومواجهة

يعود تاريخ هذه المكتبة إلى مئة عام تمامًا. فقد أنشأت سيلفيا بيتش (Sylvia Beach) مكتبة "شكسبير أند كو" أواخر العام 1919، وكانت المكتبة بمثابة ملتقى أدبيّ للضفّة اليُسرى يضمّ أبرز الكتّاب، كمثل همنغواي وجايمس جويس وغيرهما. وتميّزت هذه المكتبة بنشاطاتها وحلقاتها الثقافيّة وبسماحها للكتّاب الذين لا يملكون مسكنًا أن يقيموا فيها ويناموا في طابقها الأخير بشرط أن يساعدوا في أعمال البيع والتنظيم والتنظيف.

ومع دخول الألمان إلى فرنسا في الحرب العالميّة الثانية (1939-1945) واحتلالهم العاصمة باريس، تمّ إغلاق المكتبة العام 1941. وتقول الإشاعات بأنّ السلطات الألمانيّة أجبرت سيلفيا بيتش على إغلاق مكتبتها لرفضها بيع كتاب لجنديّ ألمانيّ. لتصبح مهنة بيع الكتب طريقة ثورة وتحدٍّ ورغبة جامحة في رفض الظلم والاستبداد.

وبعد عشر سنوات، عادت مكتبة "شكسبير أند كو" لتفتح أبوابها في باريس إنّما هذه المرّة مع الأميركيّ جورج وايتمان. فأعاد وايتمان افتتاح المكتبة العام 1951 في الموضع التي هي فيه الآن، وأعاد إليها رونقها ومكانتها ووهجها. فتوافد عليها المثقّفون في النصف الثاني من القرن العشرين وأبرزهم أنايس نين، وريتشارد رايت؛ حتّى أنّ هنري ميلر لقّب المكتبة بـ "أرض الكتب العجيبة." وأقام عدد من الكتّاب في أروقة المكتبة مقابل العمل فيها تمامًا كما كانت الحال أيّام المكتبة الأولى. أكثر من ثلاثين ألف كاتب وكاتبة نزلوا هذه المكتبة وغفوا بين كتبها وأفادوا من ضيافتها ووضعوا على أغلفة مؤلّفاتهم مكان التأليف: "مكتبة شكسبير أند كو".

واليوم تدير سيلفيا بيتش هذه المكتبة. سيلفيا بيتش وايتمان، ابنة جورج وايتمان، المسمّاة تيمّنا بالمؤسّسة الأولى للمكتبة. وقد أضفت سيلفيا بيتش الثانية المزيد من الرونق على هذه المكتبة العتيقة، فافتتحت صالون الأحد الثقافيّ، وأسّست ما عُرف ابتداءً من العام 2003 بالمهرجان الثقافيّ، وهو مهرجان يُقام مرّتين سنويًّا في الحديقة العامّة الملاصقة للمكتبة ويجمع نخبة من المثقّفين والكتّاب، كما راحت بيتش تقيم ورش عمل للكتّاب والمثقّفين في أروقة المكتبة، بالإضافة إلى الأنشطة الأسبوعيّة، والجائزة الأدبيّة التي تبلغ قيمتها العشرة آلاف يورو والتي تُمنح منذ العام 2010 لقصص قصيرة غير منشورة.

وقد يستغرب زائر باريس هذا الاهتمام المُعطى لمكتبة أنغلوفونيّة تقع في عاصمة الكتب والأدب والثقافة الفرنسيّة. إنّما لا بدّ من الإشارة إلى أهمّيّة هذه المكتبة وتاريخها ومكانتها الثقافيّة والإنسانيّة. فليس جمال المكتبة وجوّها الدافئ والحميميّ والأنيق هي فقط ما يجعلها مميّزة مشرقة. فهذه المكتبة ضرب من ضروب التأريخ لحقبة مرّت بباريس وبأهلها وبكتّابها. فلم يكن أيّ كاتب ليُكرَّس في القرن العشرين ما لم يمرّ بباريس، وجاءت هذه المكتبة وساهمت بطريقتها الخاصّة في صقل المشهد الأدبيّ وجذب الأدب الإنكليزيّ إلى دائرة الضوء والثقافة. وقد نشرت مؤسّسة "شكسبير أند كو" كتابًا يؤرّخ لمختلف الحقبات والعقود التي عاينتها المكتبة، كما يحتوي هذا الكتاب الذي يباع في المكتبة، على صور ومذكّرات ورسائل تناقلها الكتّاب والمثقّفون والأدباء والفنّانون في الفترة الممتدّة من العام 1919 حتّى يومنا هذا.

وتظهر المكتبة في عدد من الأفلام المصوّرة في باريس وفي مسلسلات تلفزيونيّة وفي عدد من الروايات، تظهر في نصوص أدبيّة وفي مذكّرات عدد هائل من الكتّاب، لتتحوّل مكتبة "ِشكسبير أند كو" إلى معلم ثقافيّ متوهّج يضيف بإشعاعه خيط نور جديد إلى المنارة الثقافيّة التي هي باريس.

المزيد من ثقافة