Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجميزة قلب بيروت النابض استحالت دمارا جراء الانفجار

كتب ريتشارد هول: منطقة تضمّ مباني تاريخية وبيوتاً سكنيّة وحانات ومطاعم ومعارض فنيّة وموارد رزق... هذه المنطقة قد لا تتعافى أبداً من الانفجار الذي ضرب العاصمة اللبنانية

إن كان لبيروت قلب نابض، فهو بالتأكيد ليس "الداونتاون" (وسط بيروت) الرتيب الخالي من الروح في وسط المدينة البراق والمقفر والذي غالباً ما يكون مقفلاً أمام العامة إفساحاً في المجال أمام حفنة من الأغنياء للتجوّل براحة في متاجر المُصممين من دون أن يزعجهم أحد.
ذلك اللقب، قلب بيروت، يعود من دون شكّ إلى منطقة الجميزة المتاخمة.
هناك في الجميزة دبيب الحياة. أو أقلّه، كانت تنبض بالحياة. يوم الثلاثاء، انفجر أكثر من 2700 طن من نيترات الأمونيوم التي كانت مخزّنة في أحد عنابر مرفأ بيروت وتردّدت ارتداداته في أنحاء العاصمة اللبنانية.
تسبّب الانفجار بمقتل 145 شخصاً على الأقل وتشريد 300 ألف آخرين. والجميزة في مثابة ممرّ طويل يمتد على مساحة ميل شرق وسط المدينة، وكانت في مرمى الدمار المباشر كونها لا تبعد أكثر من 800 متر عن موقع الانفجار.
إنّ النظر إلى ما دُمّر في الجميزة يسمح بفهم ما خسرته بيروت: هي لم تخسر أرواحاً وأفراد عائلاتٍ وأصدقاء فحسب، بل فقدت جزءاً من روح العاصمة. منازل وحانات ومطاعم ومعارض فنيّة وموارد رزقٍ ومبانٍ تاريخيّة، كلّها تبددت في لحظة واحدة.
"الجميزة هي الحرية"، تقول هلا عقيلي، 33 سنة، وهي تعيش وتعمل في المنطقة. "هنا ترتدي ما تريد وتقول ما تريد وتقبّل من تريد وتفعل ما تريد. إنّه مكان جميل ولهذا اخترت الإقامة فيه".
كانت عقيلي تقود سيارتها في طريق العودة إلى منزلها عندما دوّى الانفجار. حياتها كلّها كانت هناك: زوجها ومنزلها وعملها وعمل زوجها. نجا الزوج ودُمّر كلّ ما تبقى.
"وصلت وكان كلّ شيء مدمّراً" تخبرني هلا. "الناس ينزفون، جيراننا، هي وجوه أعرفها. شبّان ينزفون من كلّ أعضائهم المدماة".
وقصّة عقيلي تشبه قصّة المنطقة التي تعيش فيها، هي قصّة الأمل والتجدّد، والآن الخسارة. هلا تشبه كثيرين من الشباب اللبناني الذين امتلكوا العلم والسُبل لتحقيق أيّ شيء والذهاب إلى أيّ مكان بعيداً من بلدهم ولكنّهم اختاروا بذل قلوبهم في بيروت، ديارهم.
بعد التدرّج كمحامية في فرنسا وممارسة المحاماة ثماني سنوات، تركت عقيلي المهنة وفتحت استوديو لليوغا في وسط المنطقة في العام 2016. كان "سارفام يوغا" مركزاً مكتظاً ومزدهراً. وكذلك كان المقهى الذي أنشأه زوجها عمر على بعد بضعة أمتار. أراد عمر جذب جيل جديد من محبّي القهوة وهو يستورد بذور البنّ إلى لبنان من أنحاء العالم. "كان لدينا الخيار بالمغادرة ولكننا آثرنا البقاء وإحداث تغيير"، تتابع عقيلي. "أنا محامية، تركت عملي وقلت في نفسي إنني أودّ افتتاح استوديو لليوغا لأنّ الناس هنا بحاجة لذلك. فهم يحتاجون لبعض السلام الداخلي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


أدرك الزوجان عقيل المخاطر المرتبطة بقرارهما. فالبدء بعملٍ من الصفر في أيّ مكانٍ في العالم يتطلّب نوعاً خاصاً من الشجاعة. ولا يزال لبنان، على الرغم من التعثر والفساد، قِبلة روّاد الأعمال.
كانت الجميزة تضجّ بهؤلاء الروّاد. لم تنفكّ مطاعم جديدة تفتح أبوابها طوال الوقت، هم شبّان لبنانيون سافروا إلى أصقاع العالم وجلبوا معهم ألذّ المطابخ والمأكولات. وكانت كذلك هذه حال المعارض الفنية والحانات الجديدة مع كوكتيلاتها المميّزة. كانت الجميزة أرض الفرص لروّاد الأعمال والحالمين وتضاهي أيّ شارعٍ في نيويورك جرأة وتنوّعاً.
مع حلول المساء، كان شارع غورو الذي يقع في وسط المنطقة، بؤرة حركة روّاد يملؤون الحانات والأرصفة لا تهدأ قبل ساعات الصباح الأولى. وغالباً ما كانت تتبدد الحدود بين هذه الأرصفة وبين الطريق. وكانت أدراج شديدة الانحدار مطليّة بألوانٍ زاهية تربط بين الطريق الرئيسية والتلة. في الصيف، تستضيف هذه الأدراج حفلات موسيقية ومهرجانات سينمائية في الهواء الطلق.
وكانت معالم ماضي المدينة المجيد ترتسم في واجهات المتاجر المفعمة بالأمل. قصور مذهلة تعود إلى العصر العثماني مع شرفاتٍ تطلّ على الشارع. ومساكن مزخرفة مع نوافذ واسعة تعود إلى الانتداب الفرنسي عندما اكتسبت المدينة لقب "باريس الشرق الأوسط". بعض هذه المنازل انتقلت من جيلٍ إلى جيل ضمن العائلة الواحدة. وكان كبار السنّ، وهم الأجداد المتحدورن من طبقة العمال، يعيشون جنباً إلى جنب الشبّان من أصحاب الكفاءات.
وتعيش عقيلي في واحد من هذه المنازل. هو مبنى عمره 300 سنة يقع على الشارع العام ودُمّر بالكامل. وطوال يومين، ساعدها أشخاص غرباء على إخراج أشيائها من المبنى المتصدّع. العديد من هذه الممتلكات تضرّر إلى درجة يصعب إصلاحها. وتضيف هلا: "نخجل من الحديث عن الخسائر المادية لأنّ الكثيرين فقدوا أرواحهم. نعرف بعض الضحايا الذين توفوا. ولكنه مكان جميل. كلّ الإرث وكلّ المباني الجميلة اندثر. نعلم أنّهم سيقومون بهدّمها لأنّ أحداً لن يرمّمها. الجميزة التي نعرفها لن تعود إلى سابق عهدها."
هبة قانصوه التي عاشت في الجميزة لثلاثة أعوام كانت خارج البلاد عندما تلقّت اتصالاً من قريبها يوم الانفجار. "لم يتوقّف عن القول "ضاع كلّ شيء، ضاع كلّ شيء". أُصبت بالصدمة" تقول هبة البالغة 33 سنةً.
بعد الاتصال بعائلتها للتأكّد من سلامتهم، وضعت لائحة بالأماكن في المنطقة التي كانت تزورها يومياً والتي لم تعد موجودة للسؤال عن الأشخاص الذين قد يكونون تعرّضوا للأذى. وتقول هبة "أستطيع الكلام عن كل شيء ولكن هنالك الكثير من الدمار والكثير من الأشخاص الذين تضرروا جراء ذلك. أدركت أنّ هذه المنطقة ستتغيّر إلى الأبد بما فيها منزلي الذي دُمّر. تضرّر كلّ المباني من دون استثناء وتدمّرت معه الكثير من الهندسة التاريخية الرائعة".
كانت الجميزة تشبه أيّ شارع في مدينةٍ عصريّة، الجميع هنا يعرفون بعضهم بعضاً. كانت الجميزة تتمّيز بطابعٍ مميز.
في وسط المنطقة، يقع مطعم "لو شيف" Le Chef الذي تأسس منذ عقود ويقدّم المأكولات اللبنانية. كان ذلك المطعم البسيط غير المتكلّف يمتلىء كلّ ليلة بالزوّار المحليين والأجانب على حدّ سواء. هنا شربل باسيل، رئيس الطهاة في المطعم، كان يستوقف المارّة بصوته المرتفع قائلاً "أهلاً وسهلاً" في محاولته لاستضافتهم في المطعم المنير.
كان باسيل موجوداً في مطعمه عندما هشّم الانفجار نوافذ "لو شيف". أُصيب بجروحٍ مع اثنين من موظّفيه وأحد الزبائن. "اختبرنا الجحيم على الأرض. ولكن نشكر الله أننا ما زلنا على قيد الحياة" يقول باسيل الذي يتعافى اليوم في المنزل ولكنّه غير واثق إن كان سيفتح أبواب مطعمه مجدداً أو كيف سيفعل ذلك. ويضيف قائلاً "تبدّدت أحلامنا بعد هذا الانفجار. فقدنا كلّ المشاعر وليس في وسعنا القيام بأيّ شيء. نحن زوّار في وطننا. لا مستقبل لنا."
تشعر عقيلي بالمثل. شأن كثير من اللبنانيين، هي لا تثق بأن قادة لبنان سيبذلون جهداً في إعادة بناء كلّ ما تهدّم مجدداً. حتّى قبل الانفجار، كان لبنان على شفير الهاوية إذ دُمّر اقتصاده بسبب سنواتٍ من الفساد الذي مارسته الطبقة السياسية في البلاد. "أخذوا منّا كلّ شيء"، تضيف عقيلي. "أموالنا وأحلامنا وحتّى بيوتنا وأرواحنا. ونحن نواصل الكفاح."
ولكن قد يكون هذا الانفجار القشّة التي قصمت ظهر البعير. "يستحقّ شعب هذه البلاد حياةً أفضل. هم مبدعون وموهوبون وقادرون على الصمود. هم شعب سعيد مفعم بالحياة والحبّ. خلال عامٍ واحد، فقدنا كلّ مدّخراتنا وبيتنا وعملنا. وكنت على وشك فقدان زوجي. ما الذي سأفقده بعد؟ إن لم تحدث أيّ أعجوبة، لن يكون أمامي سوى الرحيل. لم أعد أملك القوّة. قد أخسر كلّ شيء المرة تلو الأخرى."
باسيل وعقيلي، شأن ماضي بيروت ومستقبلها، وهما من رموز آمالها وصمودها، صارا مُعدمين من الأمل.

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات