Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

على خطى أفلاطون وابن خلدون في بحثهما العبثي عن دور سياسيّ

يوم قدّم ليبنتس إلى الفرنسيين مشروعاً لغزو مصر ونصح الألمان بتمدين الصين

حملة نابوليون على مصر بريشة جيروم (موقع ويكيميديا)

طريف بالتأكيد أمر بعض المعلقين العرب من الذين ما إن قرأوا صدفة أن الفيلسوف الألماني ليبنتس قد قدم ذات يوم مشروعاً إلى الملك الفرنسي لويس الرابع عشر يتحدث عن "غزو مصر"، غير آبهين ببعض ما جاء في تفاصيل المشروع الأكثر أهمية، حتى استشاطوا غضباً وراحوا يتحدثون عن صاحب "المونادولوجيا" حديثهم عن "مفكر استعماري بل حتى إمبريالي" غير مدركين أن ذلك النص يعود إلى أواخر القرن السابع عشر، وأن ما تحدث عنه الفيلسوف الألماني إنما كان "طرد العثمانيين من مصر"، ومن ثم الاشتغال على حفر قناة تربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، أي نفس ذلك المشروع الموجود كما يبدو منذ أيام الفراعنة،  الذي سيقصد السان سيمونيون مصر كجماعة أممية اشتراكية لتنفيذه عند بدايات القرن التاسع عشر، بعدما لم يُقيّض لبونابرت خلال حملته المصرية السابقة على السان سيمونيين من الوقت ما يكفيه للبحث فيه، هو الذي يقال إنه قبل وصوله إلى مصر كان قد استمع إلى عدد من علمائه وهم يشرحون له المشروع نفسه بالاستناد إلى الرسالة التي كان ليبنتس قد بعث بها إلى لويس الرابع عشر.

لم يكن استعمارياً بالتأكيد

مهما يكن من أمر، لم يكن الفيلسوف الألماني استعمارياً، ولم يكن يريد الاستيلاء على ديار إسلامية أو عربية. كل ما في الأمر أنه كفيلسوف شغل باله ذات حقبة من حياته، وكما فعل فلاسفة كبار من قبله، مثل أفلاطون وابن خلدون، ببحث المثقف عن دور سياسي يلعبه في الحياة العامة، راح في ذلك الحين يصيغ مشاريع منها ما يتعلق بـ"تمدين الصين"، أو ما يتعلق بتعليم القيصر الروسي كيفية "تمدين شعبه" وغير ذلك من تطلعات وأفكار، لا بد من التأكيد على أن أياً من الملوك الذين وُجّهت إليهم لم يأخذها مأخذ الجدّ، حتى وإن كان الملك الفرنسي قد أمر بحفظها كوثائق ربما تفيد يوماً. ولسوف يستخدمها بونابرت كما رأينا، علماً بأن القاسم المشترك بين نظرة بونابرت، ونظرة الفيلسوف الألماني كان في موقعين، ضرورة التصدي للعثمانيين الذين كانوا يعدون في أوروبا، ومن قبل كثر من المسلمين والعرب أيضاً، قوة استعمارية من ناحية؛ والعمل على شق القناة من ناحية ثانية. ونعرف أن المهمتين قد أُنجزتا كما تصورهما ليبنتس، ولكن بعد زمن طويل من رحيله، وفي زمن كان فيه العالم قد نسي أن المهمتين كانتا من بنات أفكاره، إنما في لحظة غير "جدّية" من حياته. وبالتالي فإنهم كانوا قلة الذين أضافوا ليبنتس إلى كبار المثقفين والفلاسفة الذين دأبوا في حياتهم على البحث عن دور سياسي يلعبونه دون أن يهتموا بأن يكونوا... استعماريين! ولعل من شأننا هنا أن نلفت النظر، وليس دفاعاً عن ليبنتس في مواجهة المعلقين الظرفاء الغاضبين الذين طفقوا يحاربونه في أيامنا هذه باسم قيم ونظريات سادت بعد ما لا يقل عن قرنين من بعد رحيله، بل توخياً للإنصاف لا أكثر، بأن الفيلسوف الألماني لم يتقدم بمشروعه لا إلى سلطات بلاده ولا بلغته الوطنية، بل إلى السلطات الفرنسية، وباللغة الفرنسية. وهنا قد يكون من المفيد أن نذكر أيضاً أن الفرنسية هي أيضاً اللغة التي وضع بها  ليبنتس  كتابه الأساسي "المونادولوجيا"من أجل أوجين أمير سافواي الفرنسي، وكان في الثامنة والستين من عمره.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غزو الصين لتمدينها!

في ذلك الحين كان لا يزال أمام ليبنتس عامان قبل رحيله الذي أنهى حياته الغريبة وأفكاره الطموحة، التي جعلته يتقرب إلى أصحاب القرار السياسي كما قلنا، مرة في فرنسا لإقناع لويس الرابع عشر بغزو مصر للقضاء على الدولة العثمانية، ومرة في روسيا لإقناع بطرس الكبير باتباع خطة تنظيم مدينته وسياسته، ومرة ثالثة في محاولة لإقناع شارل الثاني عشر بغزو الصين لتمدينها(!).

ومهما يكن من الأمر فإن ليبنتس المولود العام 1646 في لايبزغ، الراحل عام 1716 في هانوفر، لم يصرف حياته كلها في السياسة وأحياناً في خزعبلاتها، إذ أنه كان عالماً وفيلسوفاً ولاهوتياً ومهندساً ورياضياً. وقد خلّف، إلى حياته المتقلبة، عشرات الكتب المهمة ومنها، إلى "المونادولوجيا"، "في فن التركيب"، و"منهج جديد لحل مشكلات القانون"، و"طبيعة الاعتراف رداً على الملحدين"، و"مقال في الميتافيزيقا"، و"في إصلاح الفلسفة الأولى ومعنى الجوهر"، و"محاولات جديدة في الفهم البشري"، الذي يعتبر إلى جانب "المونادولوجيا" من أشهر كتبه وأكثرها شعبية خصوصاً أن لغته أتت لغة مبسطة ما يعني أنه إنما كان يحاول في الكتاب مخاطبة الناس العاديين بينما اتسمت بقية كتبه بلغة فلسفية، وتقنية بالغة التعقيد تجعل من العسير ترجمتها إلى لغات أخرى حتى في أيامنا هذه.

عقل بديع غير جدير بالإعجاب

بالنسبة إلى برتراند راسل الذي كتب عنه مطولاً في كتابه العمدة حول تاريخ الفلسفة الغربية، كان "ليبنتس من أبدع عقول البشرية، ولكنه لم يكن كإنسان جديراً جداً بالإعجاب. صحيح أنه كان يتمتع بكل السجايا التي يجب أن يتمتع بها موظف ممتاز. فقد كان شغّيلاً، قنوعاً، صبوراً، ومستقيماً من الناحية المالية. لكنه كان يفتقر كل الافتقار إلى السجايا الفلسفية الرفيعة التي يمكن أن تلحظ لدى سبينوزا مثلاً". أما بالنسبة إلى كارل ياسبرز فإن "ليبنتس شمولي مثل أرسطو، وهو إلى ذلك، أغنى من جميع فلاسفة القرن السابع عشر مضموناً واختراعاً. لا يعرف النصب، ذكي دوماً، ولكن الميتافيزيقا التي ابتدعها تفتقر إلى تلك النفحة الإنسانية التي تبقى في حاجة إليها لتسري في أوصالها كلها"

يقيناً أن راسل حين تحدّث عن ليبنتس، كان يستعرض في ذهنه مجمل سيرة حياة هذا الذي يرى فيه كثيرون أعظم فيلسوف ألماني حتى ظهور "كانط"، بينما كان ما يجول في ذهن ياسبرز موقع الفيلسوف من فلسفة زمنه بالمقارنة مع كبار الفلاسفة الإنجليز الذين زامنوه، واعتبر بعض كتاباته نوعاً من الاستكمال لفلسفاتهم، أو حتى نوعاً من الرد عليهم، ومن هنا نراه يأخذ عليه افتقار كتاب "المونادولوجيا" إلى الميتافيزيقا، هو الذي كان آخر ما وضعه قبل موته، وفيه قدّم ربما خلاصة تفكيره طوال عقود طويلة، وخلاصة اشتغاله على الفلسفة والأخلاق والسياسة، خلاصة حياة. فلئن اتسم هذا الكتاب الذي يُفترض على الرغم من اعتراضات ياسبرز أن يكون ميتافيزيقيّا خالصاً بسمة التقشّف، ولئن اعتبر خلاصة حياة مؤلفه، كيف يمكن بعد، القول عنه إن مؤلفه كان أغنى من جميع فلاسفة زمنه؟ مهما يكن لا شك أن لغة هذا الكتاب قد أتت أكثر بساطة من لغة كتبه الباقية، حتى وإن كانت بشكل عام لغة بالغة الصعوبة والتركيبة، على عكس اللغة المباشرة البسيطة التي صاغ بها المشروع الذي قدمه، بالفرنسية طبعاً إلى لويس الرابع عشر، في لحظة طموح سياسي مسليّة في نهاية الأمر. وحسبنا أخيراً أن ننقل عن الشارح المصري عبد الرحمن بدوي الذي كان متضلعاً بفلسفة ليبنتس، أن الفكرة التي سادت تفكيره كانت دائماً أن "الكون يؤلف انسجاماً، وفيه وحدة وتعدد في آن معاً، ولهذا سادت لديه فكرة التناسق والتفاضل، هو الذي كان يعتبر في نهاية الأمر أن الطبيعة ليست سوى "ساعة الله" أي الضابط الألوهيّ للزمن". وإلى هذا يخبرنا بدوي أن ليبنتس الذي عاش في زمن الحروب الأوروبية الطاحنة، وشاهد ما أسفرت عنه من خراب وشقاء لكل أطرافها، لم يفته أن ينادي بوقف الحروب بين الدول!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة