Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة "سفينة الموت" منذ انطلاقها من جورجيا حتى الانفجار الكبير في بيروت

"لم يعِ طاقم الباخرة خطورة المواد المحملة، لكنهم كانوا يدركون أنها تستعمل لتحضير المتفجرات"

من ميناء باتومي على البحر الأسود في جورجيا، بدأت مغامرة سفينة "روسوس"، في رحلتها على طريق القراصنة، لتنتهي في عنبر من العنابر الأكثر إثارة للشكوك في مرفأ بيروت، بعد سبعة أعوام من الألغاز في زلزال هز العاصمة اللبنانية، وأزهق أرواحاً بريئة، ذنبها الوحيد أنها كانت تؤدي وظيفتها، أو تقبع وراء مكاتبها، أو أمام شاشات التلفاز على كنبة في منزلها.

لكل طفل، وامرأة، وشاب، وصبية قضوا في ذلك الزلزال حكايته. ولكل حكاية جواب ما عدا الجواب على سؤال يقض مضاجع مئات الآلاف من اللبنانيين "ماذا حصل؟ ومن أين تبدأ رحلة الموت التي يعيش مسببوها اليوم في رخاء، بعدما باعوا بضاعتهم، وذهبوا للاستمتاع بثمنها في بعض المنتجعات البحرية الفخمة"؟

رواية ممزوجة بالدم

لم يكن قبطان "روسوس" الروسي بوريس بروكوشيف، المقيم في قبرص، يدرك أنه بعد أعوام على قيادته سفينة "نيترات الأمونيوم" سيتحول إلى حدث، وسيكون لديه رواية ممزوجة بالدم، صالحة لأن تكون مادة دسمة لمنتجي هوليوود، مدعمة بأوراق ومستندات ووثائق توثّق رحلة باخرة الموت، ولكنها وبكل أسف، لا تجيب على السؤال المطروح، ماذا حصل؟

 من منتجع على ساحل البحر الأسود حيث بدأت السفينة رحلتها البحرية في سبتمبر (أيلول) قبل أن تصل إلى بيروت في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام 2013، يروي بروكوشيف لصحيفة "نيويورك تايمز"، أن السفينة التي كانت ترفع علم مولدوفيا، استأجرها رجل أعمال روسي يدعى إيغور غرينتشوشكين، وهو يعيش في قبرص، لنقل شحنة نيترات أمونيوم تبلغ زنتها 2750 طناً إلى ميناء بيرا في موزمبيق لمصلحة بنك موزمبيق الدولي لشركة"fabrica de explosives".

لكن خلاف البحَّارة في ما بينهم، ومع القبطان حول الراتب أدى إلى توقفها في تركيا، فتم التعاقد مع ربان جديد من الجنسية الأوكرانية، لاستكمال الرحلة من تركيا إلى موزمبيق لقاء مليون دولار. لم يعِ طاقم الباخرة خطورة المواد المحملة، لكنهم كانوا يدركون أنها تستعمل لتحضير المتفجرات.

استغرقت الرحلة شهرين

لم يكن مسار الرحلة مؤمناً، وتشوبه علامات استفهام وشكوك. فصاحب الباخرة أبلغ قبطانها قبيل وصولها إلى معبر قناة السويس، تعذر ذلك بسبب عدم توافر المال. وبدلاً من تأمين المال لإيصال الشحنة إلى وجهتها الأساسية المجهولة، طلب منه التوجه إلى مرفأ بيروت، حيث يمكن تحقيق بعض المال من خلال شحن بعض المعدات من هناك.

استغرقت الرحلة في طريقها من جورجيا إلى بيروت شهرين. ولدى رسوها في المرفأ، بدأت فصول رواية جديدة غير متماسكة تتناقض فيها المعلومات. إذ تعذر نقل المعدات بسبب عجز الباخرة عن تحميلها، فيما عمدت السلطات اللبنانية إلى الحجز عليها بسبب عدم قدرة طاقمها على دفع الرسوم المتوجبة. في هذه المرحلة من الرواية، غاب صاحب الباخرة عن السمع، تاركاً سفينته وطاقمها لمصيرهم في مرفأ بيروت.

هل كان ثمة قرار مسبق بإيصال الباخرة، وحمولتها إلى بيروت، لمصلحة "زبائن" يدركون قيمة البضاعة وجدواها، أو أن القصة بدأت عندما كشفت السلطات على حمولتها، وقررت الإفادة منها طالما صاحبها متوارٍ، والطاقم متروك لقدره؟

لا مال ولا مؤونة

 يُنقل عن بحارة السفينة أنهم تُركوا من دون مال أو مؤونة. وكانوا يتدبرون أمورهم من خلال بيع جزء من البضائع المحملة لقاء مبالغ من المال تؤمن لهم الحاجات الضرورية. بعضهم نجح في مغادرة الباخرة، فيما بقي القبطان وعدد آخر عالقين فيها، غير قادرين على بلوغ البر لأن جنسياتهم لا تسمح لهم بذلك من دون تأشيرات دخول. وطالما أن السفينة راسية، وعاجزة عن المغادرة قبل دفع المتوجب عليها، وصل بهم الأمر إلى بيع وقودها، وذلك من أجل تكليف مكتب محاماة هو مكتب بارودي وشركاه، لتولي قضيتهم، وتأمين عودتهم إلى بلادهم. كان الهم الأساسي هو الحفاظ على الحياة والبقاء. لم تكن البضاعة المحملة في الباخرة مصدر قلق لأي جهة من الجهات، على متن الباخرة، أو لدى السلطات والأجهزة اللبنانية.

وحده مكتب المحاماة استشعر الخطر، وأضاء عليه عبر التنبيه إلى ضرورة التعامل مع المواد الخطيرة الموجودة على متن السفينة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وجاء التعامل مع المسألة من الباب الإنساني، بحيث صدر قرار عن القضاء اللبناني بإطلاق الطاقم، وبتحريف الحمولة في أحد العنابر بعدما وردت تقارير من السلطات اللبنانية تحذر من أن السفينة معرّضة للغرق!

أسئلة محيرة

هل كان اختيار العنبر رقم 12 صُدفة لتفريغ الحمولة فيه، أو أن لهذه المسألة قصة أخرى، تكمل الجانب اللبناني من الرواية؟

لم يمض وقت طويل، ففي (2016)، أي بعد حوالى ثلاثة أعوام على رسوها في المرفأ، غرقت الباخرة فعلاً، ولم تنجح مساعي تعويمها أو ترحيلها.

لم يُسمع منذ ذلك الوقت شيء عن الطاقم، أو عن صاحب السفينة، أو حتى الشاري الذي كان يفترض أن يتسلم بضاعته في موزمبيق!

أسئلة محيرة جداً رافقت هذه القضية "اللغز"، على مدى سبعة أعوام من المراسلات والاتهامات، فيما البضاعة قابعة في عنبر محدد الهوية، على أنه عنبر "حزب الله".

يغرق اليوم اللبنانيون في تساؤلاتهم عما حصل وكيف ولماذا؟ لا أحد يعطي جواباً شافياً لغليل ذوي الضحايا. فيما تتكشف يوماً بعد يوم المراسلات الإدارية والقضائية التي تبيّن بوضوح أن السلطات اللبنانية على جميع مستوياتها الإدارية والجمركية والقضائية والسياسية، كانت على بيّنة من هذه المسألة، ولم تعرها الاهتمام والرعاية الكافيتين، ولم تتعاط معها بقدر المسؤولية التي كان يمكن لها، لو حصلت أن تمنع الانفجار الكبير. ولكن بدلاً من ذلك وقع المحظور، وبدأت معه تتجلى خيوط الجريمة تباعاً، وبحبر اللبنانيين أنفسهم.

باسم الشعب اللبناني!

فضائح المراسلات بدأت تتردد أصداؤها في الإعلام. فأعمال البحث والتحري في السجلات القديمة، وفي التحقيقات والمنشورات كشفت المستور، وأظهرت دولة من ورق!

"باسم الشعب اللبناني"، سطر قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف، قراره بتاريخ السابع من مايو (أيار) 2014، أي بعد مضي نحو ستة أشهر من رسو الباخرة، ومن بدء المراسلات الإدارية حول طلب الدولة اللبنانية ممثلة بوزارة الأشغال العامة والنقل، الترخيص لتعويمها. وقضى القرار بتكليف الكاتب زياد شعبان إجراء تحقيق حول الموضوع، والاستماع إلى ملاحظات كل من أصحاب السفينة، والوكيل البحري، والربان إذا أمكن، للتحقق من تهاونهم في اتخاذ الإجراءات المطلوبة. والترخيص للمستدعية (أي الدولة) بتعويم السفينة بعد نقل المواد الموجودة على متنها إلى مكان مناسب لتخزينها تحت حراستها، ورد طلب الترخيص ببيع السفينة.

وهكذا كان

تعددت المراسلات، وتقاذف القيّمون على الأجهزة المعنية المسؤوليات، وصولاً إلى أعلى السلطة السياسية. وهذا مسار لا يزال مستمراً حيث التحقيقات جارية من دون تحديد حيثيات الانفجار، أو خلفياته، أو مسبباته.

وعلى الرغم من التحذيرات المتكررة، لم تضع الأجهزة الأمنية يدها على الباخرة، أو على حمولتها، علماً أن القانون يحصر مسؤولية أي استيراد، أو التعامل بمواد تتصل بالشأن العسكري بالأجهزة الأمنية. على العكس، راوحت المراسلات بين قاضي الأمور المستعجلة والأجهزة الجمركية بوتيرة بطيئة جداً امتدت لسبع سنوات، كانت البضائع خلالها تركن في العنبر رقم 12 في انتظار أن يحين موعد استعمالها.

أما صاحب البضاعة (شاريها) فلا يزال حتى الآن مجهول الهوية والمصدر.

المزيد من تحقيقات ومطولات