Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المياه أرادها العرب صفوا واختارتها الجغرافيا "كدرا وطينا"

نضال سعودي مبكّر لصون المخزون الجوفي منها لكن بأي ثمن؟

الزراعة في مدينة ظهران الجنوب السعودية (واس)

برزت المياه في وقت مبكّر من تاريخ الجزيرة العربية واحدة من عوامل استقرارها وحروبها، فكان كثيرٌ من المعارك بين قبائلها وسكّانها تشتعل على إثر خلاف على المياه والمرعى، حتى فاخر شعراؤهم في مثل الحقبة الجاهلية بأن قبيلته ترد الماء الصفو، ويشرب غيرها "كدراً وطيناً".

ومع أنّ الحضارة الإسلامية شهدت ازدهاراً كبيراً بعد ذلك، وشيّدت مدناً وقنوات مياه، مثل "طريق زبيدة" الشهير، الذي أقيم على طريق الحجيج من العراق إلى الحجاز، فإن شحّ المياه ظل معضلة في شبه الجزيرة، باستثناء الشق الجنوبي منها. وحتى بعد ظهور التقنيات الحديثة في الحفر والتنقيب وتحلية مياه البحر المالحة، تقر دولة مترامية الأطراف مثل السعودية بأن غناها بالنفط وكثير من المعادن الثمينة، مثل الذهب واليورانيوم، يقابله فقر في سر الوجود الأهم في الحياة، وهو الماء.

ووجدت البلاد نفسها محاطة بظروف غير مسبوقة، توازيها حاجات تلبيها من الموارد التي تشكّل عبئاً على مخزونها الاحتياطي، فعلى الرغم من محدودية مياهها الجوفية غير المتجددة القابلة للاستغلال تواجه ظروفاً مناخية قاحلة، وطلباً متزايداً سنويا بنسبة سبعة في المئة، حسب وزارة البيئة والمياه والزراعة.

وتأتي الاستراتيجية الوطنية للمياه، التي أقرّها مجلس الوزراء أخيراً، لتضع حدّاً للفجوات الواسعة في سياسات قطاع المياه والتشريعات، علاوة على التحدي البيئي للاستعمال المرتفع للمياه في القطاع الزراعي، نظراً إلى اعتماده على الموارد غير المتجددة، التي تمثل 90 في المئة من إجمالي المياه المورّدة للقطاع.

ولجأت الاستراتيجية إلى قياس أداء قطاع المياه من خلال خمسة أبعاد رئيسة، تتمثل في "الوفرة والقدرة على تحمّل التكاليف، والجودة والاستدامة البيئية، والاستدامة الاقتصادية"، معيدة تقييم المياه الجوفية غير المتجددة وفقاً للاحتياطي الحالي القابل للاستخدام، والقيود في كل منطقة، ورسوم إعادة تغذية المياه الجوفية السنوية.

دراسات موازية للحفر

وتعمل الدولة من خلال أجهزتها المعنية على تهيئة 14 مشروعاً لحفر 84 بئراً، بلغت تكلفتها نحو 40.776.543 ريال أي بنحو 10.871.544 دولار لتوفير مياه الشرب بطاقة إنتاجية تبلغ 60 ألف م3 في اليوم، كما طرحت 22 مشروعاً ضمن مبادرة تعزيز مصادر المياه الجوفية.

وبالموازاة تعدّ أربع دراسات مائية، تهتم بدراسة إنتاج الطاقة الحرارية من الحرات، ودراسة حصر وتصنيف الدحول في السعودية، التي تهدُف إلى حصر الدحول والاستفادة منها في تعزيز الإمداد المائي، ومشروع آخر لدراسة تحديد مستوى الاستهلاك الرشيد، وتحديد تعريفة للاستهلاك الزائد في القطاعات الزراعية، حسب التقرير الوزاري 2018.

نهج الاستنزاف

مع بداية خطط التنمية في البلاد عام 1970 أكدت بعض الدراسات أن مخزون المياه الجوفية في السعودية يكفي أكثر من مئة عام، حسب وزارة التخطيط، وعقبها تتابعت الدعوة للتوسع في التنمية الزراعية والاكتفاء الذاتي من زراعة الحبوب والأعلاف.

وبعد فترة تراوحت ما بين 10 إلى 20 عاماً بدأت مظاهر المياه الجوفية من ينابيع وآبار تقليدية تختفي، وبشكل سريع في الأحساء والخرج والأفلاج والقصيم والسّر والمدينة المنورة، وفي معظم مناطق الرف العربي، وانتشرت الآبار الأنبوبية عوضاً عنها على نطاق واسع، فبلغ عددها عام 1999 أكثر من 100.490 بئراً تستنزف ما مقداره 88 في المئة من ميزان المياه الوطني للسعودية، حسب بيانات وزارة التخطيط.

الاكتفاء يتأرجح من 100 سنة إلى 12

أدّى الاستنزاف من الطبقات الجوفية إلى انخفاض نوعية المياه، وارتفاع نسبة الأملاح فيها، يُضاف إلى ذلك وصول ملوثات إلى بعض التكوينات الجوفية الحاملة المياه من خلال مصادر متعددة، كما يوثق الباحث عبد الرحمن بن عبد العزيز النشوان، في دراسته "أثر التنمية في موارد المياه الجوفية بالسعودية".

ويبين أن البلاد وعت الخطر الذي يهدد مخزون المياه الجوفية، وعدم تحقق ما أظهرته الدراسات بداية خطط التنمية من أن موارد المياه الجوفية ستكفي مئة سنة، وأن ذلك لم يتحقق، وظهرت الآثار السلبية لخطوات التنمية السريعة، خصوصاً بمجال التنمية الزراعية، في موارد المياه الجوفية، باستنزافها وتلوّثها.

مبيناً أن السعودية باشرت سنّ القوانين والنظم الخاصة بحماية موارد المياه، محاولة الحد من هذا الاستنزاف بتقليص المساحة الزراعية، وخفض عدد الآبار الأنبوبية، وإصدار نظام منع تصدير محاصيل الحبوب والأعلاف، ووقف بعض الإعانات المالية والعينية، بعد أن تبين أن استنزاف المخزون في شكله الحالي يهدد بنفاده في عديد من المناطق في غضون 12 سنة.

 

ابتداء الوصول إلى الجوفية  

يعود أصل نشأة المياه الجوفية في السعودية إلى العصور المطيرة التي قدّرت أمطارها بخمسة أضعاف ما عليه الأمطار اليوم، وأدّت إلى تخزين كميات ضخمة من المياه الجوفية في طبقات الصخور الرسوبية المتمثلة في الرف العربي الذي يغطي 1.600.000 كيلومتر مربع، وهو ما يعادل 70 في المئة من مساحة السعودية، حسب الباحث النشوان.

كان أول بئر أنبوبية حُفرت في المياه الجوفية بالسعودية عام 1936 من قِبل شركات التنقيب عن النفط بالقرب من مدينة الظهران، تلا ذلك اكتشافات متتالية لكميات كبيرة من المياه الجوفية، وكانت معظم التكوينات التي يجري حفرها ذات مياه محصورة يندفع منها الماء مباشرة.

واتجهت البلاد إلى حفر آبار أنبوبية لأغراض الشرب في المدن الرئيسة، وأنشئت  وزارة الزراعة والمياه عام 1954 موكلة إليها تطوير وتنمية مصادر المياه، وتسارع تطوير الآبار بشكل متزايد بعد عام 1985 من قِبل القطاعين الحكومي والخاص.

استراتيجية لتحديد الموارد

وتعدُّ السعودية أحد البلدان المهددة بالضغط المائي، إذ ارتفع فيها إجمالي الاحتياج إلى المياه بمتوسط سبعة في المئة خلال الفترة من 2011 إلى 2015، ليصل إلى 24.6 مليار متر مكعب في 2015، وكانت حاجات القطاع الزراعي الأسرع نمواً بمعدل سبعة في المئة، يليه الحضري ستة في المئة، ثم الصناعي خمسة في المئة، حسب الاستراتيجية الوطنية للمياه 2030.

وتعتمد البلاد في مواردها، حسب الاستراتيجية الصادرة عن وزارة البيئة والمياه والزراعة، على المياه المحلاة عبر 36 محطة، تنتج قرابة 6.28 مليون متر مكعب يوميّاً، والمياه الجوفية غير المتجددة المتجمّعة في أكثر من 20 طبقة على مستوى السعودية، والمياه الجوفية المتجددة المقدّرة بنحو 2.8 مليار متر مكعب سنويّاً، والمياه السطحية البالغ احتياطيها نحو 1.6 مليار متر مكعب سنويّاً، ومياه الصرف الصحي المعالجة، وبلغت في 2015 قرابة 0.61 مليون متر مكعب.

وتبنت السعودية نهجاً محافظاً في اعتمادها المستقبلي الذي يراعي توقعاتها لمصادر الإمداد محددة في 2030 إمداد حاجاتها بقرابة 17.5 مليار متر مكعب، يأتي نحو 50 في المئة منها من المياه الجوفية غير المتجددة، بدلاً من 80 في المئة خلال 2016، و19 في المئة من المياه الجوفية المتجددة بدلاً من تسعة في المئة خلال 2016، و13 في المئة من تحلية المياه المالحة، و13 في المئة من مياه الصرف المعالجة لغير الاستخدامات البشرية، وخمسة في المئة من المياه السطحية.

تحديد الحاجات المستهلكة

ووفق النهج المحافظ الذي اعتمدته الخطة الاستراتيجية المذكورة فقد شكّلت حاجات المياه في القطاع الزراعي 80 في المئة إلى 85 في المئة من إجمالي حاجات السعودية في 2015، وعلى غرار توقعات حاجات المياه في القطاع الحضري يفرض السيناريو المحافظ تطبيقه وتعديل الحوافز المقدّمة ابتداءً بإيقاف زراعة الأعلاف في المزارع التي تتخطى مساحتها 100 هكتار، وتستبدل بمحاصيل أخرى، وتطبيق مبادرات تحسين الري، وإنجاز كامل التحسينات في ممارسات الري بحلول عام 2030.

بدائل تقنية حديثة

ويبحث مركز تحلية وإعادة استخدام المياه (WDRC) في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية "كاوست" بالسعودية طرقاً جديدة لمعالجة المياه، إذ يعمل على ثلاثة محاور بحثية رئيسة، تتمثل في: تحلية المياه بطريقة أكثر مراعاة للبيئة، وأمن المياه، وتحويل النفايات إلى موارد، ويهدُف المحور الأخير إلى الاستفادة من مياه الصرف الصحي، واستخلاص المياه والطاقة والمعادن والعناصر الغذائية منها.

وتوجد طريقتان رئيستان لتحلية المياه: التحلية الحرارية والتحلية بالأغشية، وتتطلب الطريقتان طاقة كبيرة، وتعملان بالنفط غالباً، فضلاً عن كونهما تتسمان بعدم الكفاءة، وتتولى شركة "مداد" الناشئة الابتكارية، التابعة لكاوست، اتخاذ خطوات، لتحسين كفاءة التحلية الحرارية، بإنشاء عملية مختلطة أو هجينة، كما أضافت مرحلة في نهاية العملية التقليدية هي المرحلة المضافة، التي تُمتّصُ فيها جزيئات الماء في هلام السيليكا، ما يخفّض درجة حرارة التكثيف، وهذا يعني أنه يمكننا استخراج مزيد من المياه العذبة، باستخدام كمية الطاقة نفسها.

مشكلة عامة لنحو 48 دولة

إلى ذلك تربط دراسات عدّة معاناة منطقة الشرق الأوسط من جراء ندرة المياه ابتداءً من عام 2025، بمصير محتوم لنحو 48 دولة، بينما سيتزايد عدد السكان الذين سيعانون إلى 4.1 مليار نسمة، معظمهم بالدول الأقل نمواً، ويوجد نحو ثلاثة مليارات نسمة سوف يعيشون في بلدان ضغط مائي في عام 2035، إضافة إلى أن بلداناً عدة من ذوات المياه المحدودة سوف تعتمد على مياه مشتركة، ما يزيد من احتمال تزايد المخاطر "كما في حالة أنهار الفرات والأردن والنيل".

ويقول الباحث حسام الدين ربيع الإمام، في دراسته المعنونة بـ"البنك الدولي والأزمة المائية في الشرق الأوسط"، الصادرة عن مركز الإمارات للدروس والبحوث الاستراتيجية 2004، إن البنك الدولي سجّل في تقريره منذ عقود أن بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تقارب خمسة في المئة من سكان العالم تمتلك أقل من واحد في المئة من المصادر المائية المتجددة في العالم. كما يعود في تقريره "البنك الدولي والمياه مارس 2001" للتنبيه إلى أن التحدي لمستقبل إدارة المياه يتزايد، ففي عام 1995 عانت 29 دولة، يبلغ تعداد سكانها 436 مليون نسمة، من جراء شبح الندرة.

ويذكر أنتوني آلان، في إحدى دراسات البنك الدولي، أن "توفير متر مكعب من مياه الشرب للفرد سنويّاً يعتبر إلى حد كبير تهديداً غير بسيط في الشرق الأوسط، وبينما توقفت معظم اقتصادات المنطقة عن توفير الطعام لنفسها منذ أوائل عام 1970، فإن دولاً كثيفة السكان مثل الصين والهند استطاعت أن تصلح المتاح من الطعام للفرد، ولم تحتج إلى استيراده من الخارج".

المزيد من تحقيقات ومطولات