Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تحية ألكسندر كالدر للفلسفة المادية اليونانية في "العناصر الأربعة"

قد يتحرك الفن عندما تهب الريح لكنه ليس لعبة أطفال

نصب "العناصر الأربعة" لألكساندر كالدر – المتحف الحديث ستوكهولم (موقع المتحف)

يروي لنا صديق أنه ذات مرة، ولكي يقنع ابنه الصغير بأن يزور معه مركز جورج بومبيدو (بوبور) في وسط العاصمة الباريسية، ذكّره بكم أنه صوّره أمام نصب معدني تتحرك على شعابه ألواح ملونة يبدو أن الصبي كان فُتن بها بالفعل. وهكذا ما إن تذكر هذا الأخير منظره وهو يلعب ويركض حول النصب حتى رافق أباه قاصداً معه المركز الثقافي الفرنسي الكبير. صحيح أن من سوء حظه أن النصب كان قد رفع من مكانه لإجراء بعض التصليحات في المكان، لكن الفتى لم يهتم في نهاية الأمر بذلك... ففي المكان أشياء كثيرة تسلي صغاراً مثله. بيد أن ما لم يكن الطفل يعرفه هو أن النصب المذكور بالذات، لم يكن لعبة أطفال بل هو عمل فني من إنجاز واحد من أكبر فناني القرن العشرين. والمبدع الذي تمكن من أن يضفي على "المنحوتات" حركة كانت واحدة من أكبر التجديدات التي طرأت على الفن في القرن الفائت: كان النصب من عمل ألكساندر كالدر، الفنان الذي تحمل توقيعه عشرات الأعمال المشابهة الموزعة في أنحاء عدة من العالم اليوم، وتتجاور عادة مع مؤسسات ضخمة ومتاحف، تشكل جزءاً منها. ولنقل أن جزءها المنتشر في الهواء الطلق يتحرك بتحرك الريح جاذباً معه متعة بصرية لا شك فيها، ولكن أيضاً تساؤلات عن مآل الفن الحقيقي وسط هذه "الحداثة" الصاخبة.

هدية فنان إلى مدينة مبهورة

والحقيقة أن المرء يحتار عادة ما الذي يختاره للحديث عن أعمال كالدر، لكن نصباً يوجد اليوم في ستوكهولم عاصمة السويد قد يفي بالغرض هنا، حيث يشمخ هذا النصب هناك في الهواء الطلق عند مدخل حديقة عامة ملاصقة لـ"المتحف الحديث" moderna museet منذ انتهى عرضه الأول داخل المتحف في العاشر من سبتمبر (أيلول) 1961. يومها بفضل النجاح الهائل الذي حققه عرضه طوال أشهر الصيف في المتحف المذكور، تقرر الإبقاء عليه في عهدة المتحف كعرض دائم، ما جعل لستوكهولم بدورها عملاً لكالدر الذي كانت عواصم العالم تتنافس لاقتناء أعماله في ذلك الحين.

عنوان النصب "العناصر الأربعة"، ويتألف من أربعة أقسام ترتفع معاً عن الأرض نحو ثلاثين قدماً وتتفاوت في أشكالها وألوانها، بل حتى في اتجاه تحركها بفعل هبوب الهواء، ليعبّر كل قسم منها عن نظرة الفنان إلى كل واحد من العناصر المعنية: الريح والنار والماء والتراب. ومن المعروف أن كالدر، الذي قدم "المنحوتة" مجاناً لمدينة ستوكهولم، وكذلك فعل شريكه في العمل، المهندس المعماري آلان سكارني، بدءاً من عام 1967، بعدما كان موضوعاً في العاصمة السويدية على سبيل الإعارة، كان قد حقق النصب - بقطعه المفككة التي يعاد تركيبها كيفما تدعو الحاجة-، عند بدايات عام 1961 الذي عرض فيه في نيويورك أولاً قبل أن ينقله بونتوس هيلتين، مدير المتحف السويدي حينها، إلى ستوكهولم، وذلك إنطلاقاً من نموذج أول كان صممه في عام 1938 ثم انتظر سنوات طويلة قبل أن يحوله إلى نصب مرتفع كتحية منه لتلك العناصر "المؤسسة للوجود" بحسب الفلسفة اليونانية المادية القديمة.

اهتمام متأخر بالفن

على رغم أن أباه وجدَّه كانا نحاتين مشهورين، وهما للمناسبة يحملان الاسم نفسه الذي يحمله، وعلى رغم أن أمه كانت رسامة، فإن ألكسندر كالدر لم يبدأ اهتمامه الفعلي بالفن إلا في 1922 وكان قد أضحى في الرابعة والعشرين من عمره، وكان خلال سنواته الدراسية قد اكتفى بدراسة الهندسة الميكانيكية وقد آلى على نفسه أن يبتعد كلياً عن طريق الفن الذي اتبعه آباؤه، للانخراط في حداثة القرن العشرين الميكانيكية. ولكن لئن كانت دراسة الميكانيكا لم تقده إلى العمل في هذا المجال فإنها دفعته في اتجاه إضفاء الحركة على الفن التشكيلي فكان من مؤسسي فن الحركة في العصر الحديث.

ولقد بدأ لديه ذلك الاتجاه، الذي عرف به لاحقاً، منذ 1923 حين التحق بمدرسة رابطة طلاب الفن في نيويورك، وكان من ضمن التمارين التي قام بها مع رفاقه الطلاب، تحقيق رسوم سريعة في الطرقات ومحطات المترو. ولقد لفت كالدر الأنظار يومها بقدرته على خلق حركة عبر إحداث قطع في خط يرسمه. ولقد قاده ذلك إلى البدء بتحقيق المنحوتات المتحركة، عبر ذلك الأسلوب الذي أحدث ثورة حقيقية في عالم النحت في القرن العشرين. المنحوتات المتحركة بدأ كالدر بتحقيقها منذ 1925، وفي 1927 حول ابتكاره الأسلوبي إلى نوع من الصنعة حيث راح يصنع نوعاً من الدمى المتحركة أحياناً على شكل حيوانات وأحياناً بأشكال تجريدية. وخلال سنوات الثلاثين راحت شهرة كالدر تتجاوز الولايات المتحدة لتصل إلى أوروبا، حيث كانت مرحلة راح فيها يحقق منحوتات ولوحات تجريدية يمتزج فيها اللون بالحركة والأشكال الدائرية بشتى أنواع الأشكال الهندسية، وفي مرحلة من المراحل راحت لوحاته تشبه وإلى حد بعيد لوحات الإسباني المقيم في فرنسا خوان ميرو، ومن هنا ربط النقاد الأميركيون بين كالدر والحركة السوريالية. أما هو فراح يبتعد عن السوريالية بالتدرىج لينخرط اعتباراً من 1931 في "حركة الابداع التجريدي"، وفي العام نفسه حقق أولى منحوتاته المتحركة التجريدية التي لا تحمل أية أصالة شكلية على الإطلاق. ولقد أطلق الفرنسي مارسيل دوشا وجان آرب على منحوتات كالدر اسم "المتحركات" وانطلقا يتبعان ذلك التيار عبر إمعانهما في إضفاء طابع سوريالي على ما كان يتسم لدى كالدر بالتجريدية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"متحركات بأبعاد أربعة"

وكانت الحركة في منحوتات كالدر تتم عبر تحريك المنحوتة باليد أو بآلات محركة. وتتألف المنحوتة بشكل عام من أشكال خشبية أو معدنية مجردة الشكل وملونة، تربط إلى بعضها البعض بخيطان رفيعة تحافظ على نوع من التوازن بينها، لكن أقل نسمة ريح تكون قادرة على إحداث تغيير في الشكل العام للمنحوتة، من دون أن تحدث - بالطبع - أي تغيير في التفاصيل. وكان كالدر نفسه يطلق على منحوتاته اسم "رسوم ذات أربعة أبعاد". ولقد ذكر كالدر نفسه في رسالة بعث بها إلى دوشام أنه إنما يرغب في نهاية الأمر في إضفاء الحركة على أعمال تنتسب إلى عالم بيات موندريان. وكان كالدر قد قام بزيارة لموندريان في 1930 أحدثت في نظرته إلى الفن تأثيراً كبيراً، وجعلته يقرر إضفاء الحركة والتغيير الضوئي واللوني بالتالي على الأشكال الهندسية التي كانت تتألف منها لوحات موندريان.

وطوال السنوات التي عاشها كالدر بعد ذلك، وحتى أواخر 1976 حيث كان رحيله عن عالمنا، ظل الرجل محافظاً على أسلوبه الفني موزعاً وقته بين النحت المتحرك، واللوحات التجريدية. وهو في بعض الأحيان مزج بين النوعين، لا سيما في أعمال عريضة الأبعاد منها مثلاً المنحوتة/ المرسومة التي يحركها محرك خاص، والموجودة اليوم في مطار دالاس، ويبلغ عرضها 14 متراً، وعنوانها "أحمر أسود وأزرق" (1967). وبشكل عام تعتبر منحوتات كالدر المتحركة (وهي تفوق في قيمتها لوحاته التي تعطي دائماً الانطباع بأنها قد شوهدت من قبل)، تعتبر الأساس الذي قامت عليه مدرسة الفن المتحرك Kinetic Art. كما يعتبر كالدر الرائد الحقيقي في مجال إدخال الحركة في الفن. غير أن ما يميز كالدر عن بقية رواد تلك الحركة فهو الحرية التامة التي تهيمن على أعماله في حركيتها ما يجعلها تنتهي إلى أسلوب فني دائم التغيير، حيث يمكن لأية حركة ولأي تغيير في درجة واتجاه الضوء أن يبدل كلياً من تشكلية العمل نفسه، وهو ما لا يتفق مع أسلوب تيار الفن المتحرك الذي تكون حركته ثابتة غير متغيرة إلا بمقدار ما يغير المتفرج من مكان رؤيته للعمل (أعمال سوتو، مثلاً). ومن ناحية أخرى نذكر أن كالدر اهتم بوضع تصاميم للأبسطة، كما رسم الكثير من اللوحات المائية والتصميمات، لكن مجال النحت المتحرك ظل على الدوام مجاله الأثير ومبعث شهرته.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة