مع بدء تخفيف إجراءات الإقفال التام، ثمة خيارات صعبة علينا اتخاذها وتتعلق بأولوياتنا الإقتصادية والاتجاه الذي يجب أن تسلكه استثماراتنا المستقبلية. كيف عسانا نُروج لنهج النمو الأخضر ونُخفض البطالة إلى الحد الأدنى، بوجود جيلٍ شاب معرض بأكمله للخطر فيما يتهيأ لدخول عالم العمل؟
لو أردنا حقاً "إعادة بناء حياةٍ أفضل"، علينا أن نُغير طريقة تفكيرنا بشأن العمل ودوره في يومياتنا. ففي أحسن الأحوال، يمكن أن يشكل العمل مصدراً لرضا الفرد واعتداده بنفسه وبالمساعي المفيدة والمجدية التي ينجزها بمهاراته ومحصلاته العلمية. ويُمكنه أن يكون منبعاً للإحساس بالذات أو بالهوية الشخصية – لا مجرد جواب بسيط على سؤال: "ما هو عملك؟". عدا عن ذلك، يُمكن للعمل أن يمنح شاغله إحساساً بالهدف، غالباً ما يكون مصحوباً بصداقات لمدى الحياة.
أما في أسوأ الأحوال، فيمكن أن يكون العمل تجربة مظلمة ومذلة وغير مجزية واستغلالية في إطار بيئةٍ يُهيمن عليها الإجحاف.
والتحدي الذي سنُواجهه في المدة المقبلة، إذن، ليس هو إنقاذ وظائف وتأمين أخرى، إنما بث الحياة في نظرة المجتمع إلى مفهوم "العمل الجيد".
وفي سبيل ذلك لا بد من تجاوز كثير من العقبات.
ولعل العقبة الأولى هي المساواة والتنوع. فصحيح أن عدد النساء أكبر في مجالس الإدارات ومراكز صنع القرار، وهذه خطوة جديرة بالترحيب، لكن التفاوت في الأجور بينهن وبين زملائهن الرجال بحسب التقارير، قد لا يُجسر قبل 200 عام تقريباً من اليوم لو استمرت رياح التغيير على سرعتها الحالية. هذا ولا تزال مشاركة المرأة في العمل المدفوع تتركز في الوظائف الأقل أجراً والوظائف التي تستحق منا تقديراً أعلى، على غرار أعمال الرعاية. وبالنسبة إلى النساء الحوامل بشكلٍ خاص، فيظهر أنهن لا يزلنَ يواجهنَ خطر المعاملة غير المنصفة والاستغناء الكلي عن خدماتهن، والدليل على ذلك في أعداد المكالمات المتزايدة التي تلقاها مستشارونا عبر خط المساعدة واشتكت من حوادث تمييز بسبب الحمل والأمومة.
ووفقاً لما سلطت عليه الضوء حركة "حياة السود مهمة" وشددت عليه، نحن لا نزال على بعد سنوات ضوئية من إرساء المساواة الحقيقية مع مجتمع غير البيض في المملكة المتحدة من السود والآسيويين والأقليات العرقية الأخرى. ولو إنك من ذوي البشرة السوداء في بريطانيا اليوم، لفهمت قصدي، لأنك على الأغلب عاطل من العمل، والأرجح ألا ترتقي مناصب رفيعة في عملك، والاحتمال الأكبر أن تتعرض للتوقيف والتفتيش في الحي الذي تقطن فيه. ومع تفشي جائحة كورونا، لا شك تأثرتَ بشكلٍ غير متناظر وسلبي بكل ما حصل ويحصل من أحداث، شأنك شأن سائر السود والآسيويين والأقليات العرقية، ولا ننسى طبعاً المعوقين وأفراد مجتمع الميم الذين لا يزالون يواجهون تميزاً، وهذا التمييز هو الذي يحد من فرصهم في الحياة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وللأسف، تستمر حالات اللامساواة على الرغم من الدليل القاطع على فوائد المساواة والتنوع، حيث أظهرت دراسة صادرة عن مركز"ديلويت" (Deloitte) عام 2018، أن اعتماد المؤسسات على ثقافة التنوع والشمول وممارساتها يحسن من أداء الموظفين بواقع ثلاث مرات.
وفي المرتبة الثانية، نحن بحاجة إلى التركيز من جديد على الرفاه والصحة العقلية - النفسية. ففي أحدث استطلاعٍ لـ"هيئة تقديم خدمات الاستشارة والتسوية والتحكيم" (ACAS)، تبين أن اثنين تقريباً من أصل خمسة أشخاص يعملون من منازلهم، يشعرون بالتوتر والقلق ويُعانون من صعوبات نفسية وأن أكثر من 40 في المئة من أرباب العمل أمضوا الأشهر الإثني عشر الأخيرة يعالجون المشكلات النفسية لموظفيهم. ولو سلمنا جدلاً أننا على وشك أن نشهد نقلةً نوعية نحو مزيد من خيارات العمل في المنزل على المدى الأطول، فلا بد من أن نسعى بجد إلى إحقاق توازنٍ سليم بين فوائد المرونة المقرونة بمخاوف بشأن مزيد من العزلة وبين فقدان الهوية أو اللحمة التي تربط بين المؤسسة والعاملين في صفوفها.
وبالنسبة إلى العقبة الثالثة، فتقتصر على كيفية إدارة ما يُمكن اعتباره تسونامي التغيرات المنتظرة للمؤسسات.
وقد تنطوي محاولات العودة إلى العمل بطريقةٍ آمنة تبعث على الثقة في القوى العاملة على إشكاليات وتحديات مباشرة، لكن تأثير التغيرات الطويلة الأمد وإعادة الهيكلة أكثر تعقيداً منها وسيطال (التأثير) مؤسسات لا تعد ولا تُحصى. لذا من الأفضل أن نتعاطى مع المسألة بجدية تامة، وإذا ما أردنا أن نستفيد إلى أبعد مدى من فوائد تحفيز الموظفين وزيادة إلتزامهم، فعلينا أن نحرص على إشراك القوى العاملة إشراكاً حقيقياً وفعالاً. لكن كيف ذلك ولا تزال شركات عدة تعتمد على "القيادة والتحكم" بدلاً من الإصغاء لطلبات الموظفين؟
وعلى بلدنا حل "معضلة الإنتاجية" التي تؤثر سلباً في أدائنا وتتسبب بتخلفنا عن اللحاق بركاب أبرز منافسينا الدوليين. ونحن بحاجة إلى بنى تحتية أكثر تطوراً، واستثمارات مالية ضخمة والاهتمام بتطوير المهارات، مع العلم أن طريقة تنظيم العمل ومهارات المديرين والقادة ودور العاملين والممثلين ومشاركتهم، كلها عناصر مهمة لنجاح عمليات التجديد ونجاح كل مؤسسة.
والمعلوم أن بناء نهج شراكة هو السبيل إلى إدارة التغيير داخل المؤسسات الفردية. لكن من قال إنه لا ينفع لصناعة السياسات الوطنية؟
وفي ظل التوقعات بعمليات تسريح ضخمة في كثير من القطاعات والارتفاع السريع في عدد العاطلين من العمل، أماط مستشار الخزانة البريطانية اللثام عن تدخلاتٍ جديدة من نوعها في سوق العمل. لكن هذه التدخلات وحدها لا تكفي، وثمة حاجة ملحة لمزيد من الإجراءات، المهم أن يُخطط لها بتأن كي تُقلل إلى أدنى حد من استخدام الأموال العامة لدعم الوظائف الثابتة وتحرص على ألا تحل الوظائف المستحدثة محل تلك القائمة.
أما برامج التدريب الجديدة، فلا بد أن تكون رفيعة المستوى حتى تقدم إلى الشباب مهارات حقيقية يُمكن أن تحسن آفاقهم المستقبلية. ومن أجل تحقيق كل ما سبق، من المهم أن نلجأ إلى المسؤولين القادرين على ترجمة الخطط إلى حقيقة.
وقد لعب "مؤتمر النقابات العمالية" و"اتحاد الصناعات البريطانية" دوراً ملحوظاَ في صياغة استجابات الحكومة الطارئة لمواجهة أزمة كوفيد-19، من خلال مشاريع وبرامج من قبيل برنامج التسريح المؤقت. وفي الوقت الحاضر، يُنتظر منهما حشد رؤاهما وحكمتهما لتوجيه دفة الاقتصاد في الاضطرابات المقبلة والعبور به إلى بر الأمان.
(بحلول عطلة نهاية الأسبوع الحالي، يتنحى برندان باربر عن منصبه كرئيس لـ"هيئة تقديم خدمات الاستشارة والتسوية والتحكيم" (ACAS) الذي تولاه منذ ست سنوات ونصف السنة. ويُذكر أن هذه الهيئة هي كيان عام غير وزاري يهدف إلى تعزيز المؤسسات وحياة العاملين فيها).
© The Independent