Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 بحثا عن لهب الإبداع وسط دخان الاضطراب النفسي

شاكر عبد الحميد يعارض "تاريخ الجنون" لميشال فوكو ويقارب أعمالا إبداعية

فان غوخ رسام العبقرية والجنون (موقع الرسام)

ينطلق  الناقد شاكر عبد الحميد أستاذ علم نفس الإبداع في أكاديمية الفنون المصرية، في كتابه "الدخان واللهب: الإبداع والاضطراب النفسي"، الصادر حديثاً عن دار "العين" في القاهرة، مِن إشارات الطبيب البريطاني توماس ويليس (1621- 1657) البلاغية إلى مرضى الهوس والاكتئاب، ليستلهم عنوان ذلك الكتاب، بانياً على أفكار ميشيل فوكو في السياق ذاته ومعارضاً لها في الوقت نفسه، والواردة في كتابه "تاريخ الجنون" الصادر في العام 1961.

شبَّه ويليس الاكتئاب بالدخان، والهوسَ باللهب، ورأى بينهما ارتباطاً بديهياً، "فإذا أمكن القول إن الأذهان الحيوانية تكون في حالة الاكتئاب مجلَّلة بدخانٍ كثيف، فإن الهوس يُشعل حريقاً مفتوحاً داخلها" (الكتاب صـ9). وبعد ذلك بأكثر من ثلاثة قرون جاء ميشيل فوكو (1926- 1984) ليتأمل ما ذهب إليه ويليس؛ الطبيب المتبحر في علوم التشريح والأعصاب والطب النفسي، وقال معلقاً على تصويره البلاغي هذا: "إن اللهب في حركته الحيوية يبدد الدخان، إلا أن الدخان عندما يسقط فإنه يخنق اللهب ويخمد وضوحه".

في كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" (ترجمه سعيد بنكراد إلى العربية، المركز الثقافي العربي عام 2006) يناقش فوكو الأفكار والممارسات والمؤسسات والفنون والآداب المتعلقة بالجنون في التاريخ الغربي، منطلقاً من العصور الوسطى، فيما يزخر كتاب عبد الحميد بنماذج لمبدعين ينتمون إلى الغرب، عانوا من "الجنون"، وانتهى الحال بكثير منهم إلى الانتحار، ومن ثم جاء الكتاب نفسه خالياً من التعمق في نماذج مماثلة في الثقافة العربية قديماً وحديثاً، مثلاً، وإن كان عبد الحميد قد أشار سريعاً إلى بعضها مستنداً إلى كتاب للشاعرة اللبنانية جومانة حداد.

مشروع بحثي

وعلى أية حال فإن كتاب شاكر عبد الحميد هذا، يدخل في صلب مشروعه البحثي الممتد والمرتبط بتخصصه الأكاديمي، وقد تضمّن عدداً من كتبه المهمة ومنها: "الأسس النفسية للإبداع في القصة القصيرة"، "الأدب والجنون"، "الفن والغرابة"  (فاز عنه بجائزة الشيخ زايد للكتاب)، "الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي"، "الدراسات النفسية للأدب"، "الفكاهة والضحك"، و"آليات الإبداع ومعوقاته في العلوم الاجتماعية"، فضلاً عمَّا ترجَمه مِن كتب، ومنها "العبقرية والإبداع والقيادة- دراسات في القياس التاريخي" من تأليف د.ك. سيمونتون، و"الدراسة النفسية للأدب، النقائص، والاحتمالات والإنجازات" من تأليف مارتن لنداور، و"سيكولوجية فنون الأداء" لجلين ويلسون.

استند شاكر عبد الحميد في "الدخان واللهب" إلى مراجع عربية عدة؛ منها "سيجيء الموت وستكون له عيناك: مئة وخمسون شاعراً انتحروا في القرن العشرين" لجومانا حداد، و"أيها الفحم يا سيدي: دفاتر فنسنت فان غوخ" لقاسم حداد، و"الاكتئاب اضطراب العصر الحديث: فهمه وأساليب علاجه" لعبد الستار إبراهيم، ومقدمة ياسر عبداللطيف لترجمة كتاب "الجواهر من رسائل فان غوخ" إلى العربية.

ويشغل فان غوخ الذي يتصدر بورتريه له غلافَ "الدخان واللهب"، مساحة معتبرة من الكتاب نفسه الذي يضم مقدمة وخاتمة وستة فصول: "الجنون المقدس: مدخل تاريخي"، "الكلب الأسود: عن الهوس والاكتئاب"، "مياه ونيران ورماد: عن الكحوليات والمخدرات والانتحار"، "الحزن الذي يدوم إلى الأبد: عن فان جوخ"، "عن الفصاميين وأشباه الفصاميين"، و"قمم شاهقة وسفوح عميقة: حالات وتأويلات".

ويشير عبد الحميد في المقدمة إلى أنه من المستحيل تحديد العلاقة بين المرض النفسي والإبداع في هذه المرحلة من تاريخ العلم، فالتقديرات السيكولوجية والطبية والنفسية الدقيقة شديدة الصعوبة هنا، وكل ما يمكننا هو أن نقول مع شكسبير: "إن هناك شيئاً ما موجوداً في الجنون يمكنه أن يقودنا نحو نوع ما من الفهم للعبقرية بخاصة في حالة الشعراء".

الشعراء على رأس القائمة

وبحسب ما ورد في كتاب "ثمن العظمة" لأرنولد لودفيغ، فإن أعلى معدلات الاضطراب الانفعالي موجودة لدى الشعراء، ثم كُتَّاب الرواية والقصة، فالممثلين والمؤلفين الموسيقيين والعاملين في مهن فنية أخرى، بينما هي أقل لدى المستكشفين وضباط الجيش والسياسيين وعلماء الطبيعة، وقد كانت نسبة المنتحرات بين الإناث أكثر منها بين الذكور، في تلك المجالات. 

في قلب المزاج الاكتئابي - يقول عبد الحميد- توجد البذور نفسها الخاصة بالدخان واللهب؛ هكذا كتب الشاعر الألماني فريدريك شيلر "أنشودة الفرح" عام 1776، وعبَّر فيها عن ذلك التوق الإنساني الجارف للسعادة، على الرغم من كل ما قد يحيط به من كوارث وأحزان، وقد لحنها بيتهوفن بعد ذلك، وصارت أخيراً النشيد الوطني للإتحاد الأوروبي.

 

ويضيف: "يصيب الهوس- الاكتئاب، الشعراء، ومنهم مَن كتب قصائد عن ذلك الاضطراب، مثل الشاعرة الأميركية كليمنتين راديكس، التي كتبت قصيدة "قديس الاكتئاب- الهوس"، مستلهمة حياة فان غوخ، وجاء فيها: أن تكون مريضاً بالاكتئاب الهوسي/ هو أن تقف على أرضٍ/ لا يمكنها أن تعِدك بالبقاء تحتك/ أن تكون كلاً من المعتدي والضحية"، بحسب ترجمة الشاعرة المصرية أسماء حسين التي ترجمت أيضاً قصيدة للشاعرة هانا نيكول عنوانها "كيف يبدو الاكتئاب؟"، وفيها: أحياناً قد يعني الاكتئاب/ عدم مغادرتك الفراش لأيام/ لأن قدميك ترفضان التصديق، أنها لن تتهشما عند ملامسة الأرض/ أحياناً قد يعني الاكتئاب/ أن استجماعك لقواك وإرادتك/ للنزول إلى أسفل أو غسل ثيابك/ هو الإنجاز الأكثر إثارة للإعجاب لك هذا الأسبوع".

وفي المقدمة أيضاً يتوقف عبد الحميد عند كتاب قاسم حداد "أيها الفحم، يا سيدي" الصادر في العام 2014، "حيث تبدى شكسبير لحداد وكأنه يشبه فان غوخ الذي كان يكتب نصوصه لمرة واحدة، مثل ضربة الفرشاة، من دون أن تشعر أنه فعل ذلك في كل مرة"... "في شكسبير، الذي لو لم يكن كاتباً لصار محللاً نفسياً، تبدو النار أكثر من الدخان... هذا هو الفن".

شِهابٌ انطلق ثم انطفأ

هذا ليس كتاباً عن انتحار المبدعين – يقول عبد الحميد- ولا عن الكآبة التي قد تصيب بعضهم، وهو أيضاً ليس كتاباً عن البهجة المفاجئة أو الهوس الذي قد يجتاح بعضهم الآخر فيدفعهم بعيداً، هنا وهناك. إنه وعلى نحو أساسي، كتاب عن الإبداع، وعن المبدعين وعن اضطراباتهم... إنه محاولة كذلك لفهم بعض تلك العوامل التي تجعل بعض المبدعين يواجه الحياة بكل منغصاتها وكآبتها، وبل يحاول كذلك أن يجعلها أكثر جمالاً وإنسانية، واحتمالاً، وقد تستمر محاولاته تلك حتى النهاية، بينما يكف البعض الآخر عن المحاولة على نحو سريع وكأنه شهاب كان قد انطلق فجأة ثم انطفأ.

ويضيف: "ليس هذا كتاباً أيضاً عن الجنون، ولا يزعم صاحبه أنه يوافق على ما قاله فوكو في كتابه عن تاريخ الجنون، وبخاصة عندما استنكر محاولة العلماء الدائمة للحديث عن الجنون من خلال تلك المصطلحات الهادئة الموضوعية الخاصة بالمرض العقلي فقط. لقد استنكر فوكو أكثر ذلك المحو أو الإبطال للتردد الخاص بالانفعالات، وذلك القمع عن طريق الفلسفة والعلم لذلك الفيضان، إن تاريخ الجنون بالنسبة إلى فوكو هو تاريخ يجسد قصة هذا الإبطال، أو المحو، الدائم للجنون، لذلك التوهج الغنائي للمرض، والذي تمَّ إقصاؤه دائماً".

يقول شاكر عبد الحميد الذي تولى منصب وزير الثقافة في مرحلة حرجة في تاريخ مصر المعاصر (في 7 ديسمبر 2011): "لا أعرف ما الذي دفعني تحديداً لكتابة هذا الكتاب. هل كآبة ما قد اعتملت في أعماقي بسبب بعض الظروف العامة أو الخاصة فدفعتني إلى محاولة فهم بعض تلك الأسرار الغامضة التي قضيت حياتي محاولاً أن أفهمها دون جدوى؟ أم رغبة فقط في أن أكون موجوداً على الحافة، أو أن أبتعد عنها، أن أكتفي بالنظر دون أن يُنظر إليَّ؟ ربما كنت أحاول أيضاً أن أنظر إلى تلك الأعماق المخيفة التي تواجهنا جميعاً، على أنحاء شتى، وبدرجات مختلفة، في هذه الدنيا، كما واجهها آخرون في أماكن أخرى وعصور أخرى، وتراوحوا بين تلك القمم وهذه السفوح".

المزيد من ثقافة