Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إبراهيم عبد المجيد يكشف أحوال الانفصام وخفايا التشرذم

روح الفانتازيا تمتزج مع واقعية السرد في رواية "العابرة" انطلاقا من عالم "وسط البلد"

الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد (اندبندنت عربية)

في طريقٍ محفوفٍ بالخطر، قرر الكاتب إبراهيم عبد المجيد المضي قُدماً باتجاه الممنوع، مخترقاً كل ثابت ومعروف من التابوهات، لينزع عن الواقع - في جرأة- رداءً زائفاً، فتظهر كل عيوبه جلية في روايته الجديدة "العابرة" الصادرة عن دار المتوسط للنشر والتوزيع 2020.

انطلق الكاتب من فكرة "البين بين"، الضبابية والغموض وتلك الأشياء التي لا تراوح المنتصف فلا تنتمي إلى هذا ولا إلى ذاك، ليقدم وجبة دسمة من الواقع المر، راح يكشف خلالها عن حالة "الشيزوفرنيا" والانقسامات التي يتلبسها المجتمع، متخذاً من شخصيته المحورية "الترانسجيندر" بوقاً، لا ليعلن عبره عن مجرد خلل في هوية جنسية وحسب، وإنما ليكشف عن الكثير من المسكوت عنه، فتكون قضية التحول الجنسي أو العبور - على حد وصف الكاتب - من جنس إلى آخر، رمزاً ودلالة يسقطها على كل محاولات العبور السياسي والاجتماعي التي خاضها المجتمع على مدار عقود.

في رحلته السردية اختار الكاتب أسلوب الراوي العليم، وبلا إسهاب أو مقدمات قرر أن ينعطف مباشرة ومنذ اللحظة الأولى من الحكي، إلى قلب الأحداث التي سارت في نسق زمني أفقي متتابع، بينما ظل الصراع يفوح من كل خيط من خيوط النسيج عبر ثنائيات كلاسيكية للخير والشر، القبح والجمال، الأمل واليأس، التمرد والاستكانة... لكنه لم يقف عند حدود تلك الثنائيات من الصراع الخارجي والداخلي للشخصيات وإنما استدعى ثنائية جديدة تمثلت في صراع الهوية الجنسية للشخصية المحورية "لمياء أو حمزة" الترانسجيندر، تلك الشخصية المأزومة، والمنقسمة – لأسباب عضوية - بين مظهر أنثوي وميول ذكورية. ورغم أن القضية تكررت مراراً في الواقع ونقلتها وسائل الإعلام، فإنها قليلاً ما سلكت طريقاً إلى الأدب كما حدث في غيرها من القضايا المتعلقة بالجنس، وهنا يطرقها عبد المجيد؛ لا ليوثق أحداثاً واقعية بعين إبداعية وحسب وإنما ليبرزهدفاً آخر بدا عبر محاولاته الحثيثة في تشريح قضية التحول الجنسي تشريحاً واعياً ذا صبغة أدبية وإنسانية تعزز الفهم والتأمل وتدحض الجهل والتباس المفاهيم، وتكون في الوقت نفسه طريقاً خلفياً يسلكه نحو بعض مناطق الواقع الأشد خطورة والأكثر قبحاً.

ما وراء الأبواب المغلقة

ظل الكاتب طوال رحلته ممسوساً بنوازع الكشف عن حالة الفصام والانقسام التي تعيشها الشخوص، فالكل يمشي على الحبل، يتأرجح بين عالمين؛ أحدهما يعيشه في العلن والآخر يمارسه في الخفاء. لمياء أنثى أمام العالم وفي بطاقة هويتها، بينما تطلق لميولها الذكورية العنان في عالمها المستتر. الأب، رغم ظاهره الذي يشي بالاستقامة، يخضع لنزواته بعيداً من أعين الناس. الأستاذة الجامعية صاحبة السمعة الطيبة، تمارس السحاق خلف الأبواب المغلقة، امرأة المترو التي تدعو للفضيلة؛ تستجيب راضية للتحرش بها... وتستمر الشيزوفرنيا والانقسامات التي يسوقها الكاتب كنتيجة لانقسام كبير يحوط الواقع الاجتماعي والسياسي ولا تسفر كل محاولات العبور إلا عن انقسام أكبر.

داخل هذه الصورة الكبيرة لم يهمل الكاتب التفاصيل الصغيرة وراح يستلهم أحداثاً وقعت بالفعل في الأمس القريب، وطعّم بها نسيجه، ما عزَّز من واقعية بنائه الروائي وحالة التماهي مع النص، فاستحضر حادث حريق محطة قطار رمسيس (27 فبراير 2019)، سرقة لوحة محمود سعيد، مظاهرة المثليين ورفع علم الرينبو، المرأة التي قتلت أطفالها استجابة لرغبة زوجها وزوجته الأخرى، الأب الذي ألقى بطفليه في النيل. كما منح مواقع التواصل الاجتماعي دور البطولة في تحريك الأحداث عبر كل مراحل السرد ما جعل من النص مرآة صادقة تعكس حقيقة ما يدور في الواقع المعيش، ولم تعق هذه الواقعية قدرة الكاتب على استحضار روح الفانتازيا والعجائبية التي مزجها في تناغم فريد مع واقعية السرد وبدت في أكثر من موضع... "مدَّ يده إلى التابلوه أمامه، وأخذ من فوقه الجريدة مطوية. تناولها إحسان وفتحها. وجدها جديدة، لم يبد أنه قد مرّ عليها الزمن، وقرأ المانشيت "الرئيس السادات يحضر العرض العسكري بمناسبة نصر أكتوبر العظيم، ويعود إلى منزله" أصابه ارتباك وهو ينظر إلى السائق الذي تخيَّله شبحاً عائداً من كهف قديم وأصابه الرعب" (الرواية صـ111).

تُخبر أحداث الرواية المستوحاة من الواقع، بذلك الفضاء الزمني الذي قرر الكاتب أن يشيد خلاله بناءه الروائي والذي يمتد منذ ما قبل أعوام قليلة تلت ثورة 2011، وحتى الآن. وربما كان يستشرف ما سيحدث، فالمقدمات الواقعية التي ساقها تشي بنتائج مشابهة وتُنبئ بإعادة دورة الأحداث، فقد تعاني في الغد القريب حالات أخرى من (الترانسيجيندر) الانقسام نفسه (ابنة الفنان المصري هشام سليم نموذجاً)، وتدخل المعركة ذاتها مع الأهل والمجتمع مادام المجتمع والأسرة والأمن تعتنق المفاهيم والثقافة نفسها. أما الفضاء المكاني للأحداث فامتد عبر مناطق عدة من القاهرة وكانت المساحة الأكبر من نصيب محيط "وسط البلد"؛ شوارعه، ميادينه ومقاهيه، إضافة إلى جامعة القاهرة. ولعل اختيار الكاتب لهذا المحيط تحديداً جاء لكونه بؤرة الحراك الثقافي وبطل كل محاولات العبور الاجتماعي والسياسي عبر التاريخ المصري الحديث.

في عوالم اللاوعي

لجأ الكاتب إلى بعض تقنيات السرد، كالمونولوغ الداخلي لفهم بواطن الشخوص واضطراباتها وانقساماتها وما يعتلج في دواخلها من شعورلاسيما شخصيته المحورية "لمياء- حمزة"؛ لكونها الأكثر اضطراباً وانقساماً بين مظاهر الذكورة والأنوثة، ما أسفر عن أسرار ومخاوف، كان المونولوغ الوسيلة الأجدى لكشفها. كذلك استدعى الكاتب "الاحلام" كحيلة سردية أخرى لاستكشاف بواطن الشخوص وهواجسها وما يستقر في منطقة "اللاوعي" لديها تجاه العالم، مستخدماً لغة رمزية دالة مرَّر من خلالها بعض رؤاه الفلسفية. فـ"لمياء" قبل زيارتها لـ"إحسان"؛ صديقها الذي قبض عليه الأمن مِن أحد المقاهي التي يرتادها المثليون، تحلم أنها تطفو في عوامة فوق موج البحر وتسقط في الماء لتحملها يدٌ إلى الأعماق وتلتقي بكائنات لا تعرفها تحدثها عما يرتكبه الإنسان من ظلم وإفساد في عالمهم وحتى على الأرض التي يعيش هو نفسه فوقها.

في مواضع أخرى، استخدم الكاتب الرمز بكثافة عبر ما أورده من "بوستات" تداولتها صفحات موقع "فايسبوك، ومرَّر عبرها اسقاطات سياسية حول جماعات الإسلام السياسي وبداية ظهورها وأثرها على النسيج المجتمعي المصري. ولم تخلُ إسقاطاته من لمحة عجائبية زادت من جاذبية السرد:"شواطئ البحر الأحمر وحدها نجت من كل هذه الظواهر... لكن فجأة خرجت خرفان سوداء من الماء لتأخذ طريقها إلى القاهرة. الميدان امتلأ بالثعابين الضخمة التي تهدد كل من يقترب بالابتلاع. استقلت قطاراً وقاده واحد منها إلى الصعيد. الثعابين ستصل إلى أسوان وتأخذ طريقها إلى بحيرة ناصر، لتود إليها، فهي أصلًا منها...." صـ296-297.

الحوار واللغة

تعزيزاً لواقعية الأحداث وآنيتها استعان الكاتب بتقنية الحوار المسرحي التي حضرت بكثافة إلى جانب السرد، واستخدم اللغة الفصحى البسيطة التي تخللتها العامية في بعض مواضع الحوار. لكنّ ثمة ارتباكاً طرأ في بعض الجمل الحوارية التي امتزجت فيها العامية مع الفصحى، وربما كان الأفضل لها أن تكون عامية خالصة أو فصحى خالصة: "آه والله، نخرج من وجع القلب هذا" صـ207... "الأمن ليس عنده ثقافة، لا يرى إلا ما يريد. يكلموك حلو، واللي في نيتهم يعملوه" صـ208. كذلك طرأ خلط بين بعض أسماء الشخوص خلال رحلة السرد، بين الأستاذة الجامعية "بيداء"، والشخصية المحورية "لمياء"... "قرر أن يبدأ بالمحاضرة الثانية في الحادية عشرة. إنها محاضرة الدكتورة لمياء" صـ 201.

دفقات من الحنين إلى الماضي تخللت السرد وبدت في مواضع متفرقة من النسيج، منها استدعاء أغاني سيد درويش التي استمع إليها "حمزة وإحسان" في مقهى "الفيشاوي"؛ لتجسد حالة من النوستالجيا لم تخل من إسقاطات سياسية، ولم تخل أيضاً من إشارة متكررة إلى هاجس العبور، الهاجس الرئيسي للكاتب الذي يشي برؤية مفادها أن العبور لا يكون إلا للأقوى، للأفضل والأجدر به، لذا استطاع ميراث سيد درويش الفني البقاء وعبور كل هذا الزمن: "استعجبوا يا أفندية/ لتر الجاز بروبية/ وبقاله اليوم شنَّة ورنَّة/ واللي بيبيعه له كلمة/ ياما ناموا كتير ناس/ في الضلمة/ وصبح أغلى من الكولونيه" صـ 195. وجه آخر لفكرة العبور استدعاه الكاتب خلال رحلة السرد في إشاراته إلى أحلام الشباب بالعبور إلى خارج الوطن والرحيل إلى الغرب، ليدق ناقوس الخطر منذراً بأن المعاناة التي يعيشها الشباب بشتى أشكالها تقضم من انتمائهم وتصنع من الرحيل عقيدة لديهم وصورة من صور الخلاص. وأضاف الكاتب إلى السرد جرعة معرفية عبر ما استدعاه من معلومات علمية وتاريخية عزَّزت طرحه لقضية التحول الجنسي وانطوت على بعض الانبهار -الضمني المبطَّن تارةً، والمعلن تارةً أخرى- بالحضارة الغربية التي تقدس حرية الفرد وتتفرغ للنهضة بالعلوم والفنون.

ورغم قتامة المشهد وما نزفه النص من شجون، يظل الأمل يزاحم اليأس، يطل برأسه بين الحين والآخر، يعزز الإيمان بالقدرة على العبور، لكن الشخوص بقيت في المنتصف في منطقة يتصارع فيها الأمل واليأس، تتعادل الدلائل فلا يبدو أن أيهما يتجه إلى حسم المعركة لصالحه. وهكذا جاءت نهاية الرواية متسقة مع المشهد الضبابي، مفتوحة على كل الاحتمالات، والحكم للقارئ لا للقاضي الذي أبى الكاتب أن يُنطقه، فهل سيعبر "حمزة" إلى الحرية وهل سينتصر لهويته الجديدة؟

المزيد من ثقافة