تفيد بحوث جديدة بأن جائحة فيروس كورونا تسبب تحولاً سريعاً في المواقف من العيش في وسط المدن قد يؤدي إلى دفع "هجرة الأدمغة"، التي جعلت كثراً من الناس ينتقلون إلى لندن بحثاً عن عمل، في عكس وجهة هذه الهجرة بعيدا عن لندن.
ويشير استطلاع للرأي شمل ألفي شخص وأجرته مؤسسة "توتال جوبز" TotalJobs، وكذلك تحليل للبيانات الرسمية الخاصة بالهجرة الداخلية، إلى أن كثيراً من الناس، ولاسيما الأصغر سناً، أصبحوا الآن أقل رغبة في العيش في العاصمة لبقية حياتهم.
وتراجع أيضاً متوسط العمر الذي يرغب عنده الناس في الانتقال خارج لندن من 35 إلى 32 سنة، فالناس أصبحوا يفضلون المنازل الأوسع وذات المساحات المفتوحة أكثر من غيرها.
ولو تحققت هذه التطلّعات إلى الفرار من لندن فهي قد تساعد في إنعاش البلدات الأصغر والمناطق الريفية التي كان الشباب قد انتقلوا منها إلى المدن الكبيرة.
وليس من المعروف حتى الآن ما إذا كان هذا الاتجاه سيستمر أو هو عبارة عن رد فعل مؤقت على القيود المفروضة خلال الإغلاق، لكن عوامل كثيرة تشير إلى أن بريطانيا ربما تشهد تحولاً أكثر ديمومة في المواقف حول أماكن الإقامة.
وانتقل قبل الجائحة حتى، بين عامي 2015 و2019، حوالي 1.6 مليون شخص إلى خارج لندن، في مقابل 1.1 مليون جاؤوا للعيش فيها. وتراوحت أعمار عدد كبير ممن غادروا (445 ألف شخص) بين 20 و29 سنة.
ويعتقد أكثر من نصف اللندنيين (54 في المئة)، الذين بلغوا سن الرشد في وقت مبكر من القرن الحادي والعشرين، بأن من غير الواقعي أن يملك المرء عقاره الخاص في العاصمة، بحسب استطلاع الرأي الذي أجرته "توتال جوبز".
ويجعلهم ذلك يواجهون التكلفة المتزايدة للعيش في مسكن مستأجر غالباً ما يكون ضيقاً، في حين لم تشهد الرواتب زيادة تُذكَر في السنوات الأخيرة، ما يعني أن لندن تفقد جاذبيتها في نظر كثيرين.
ودفعت المعدلات القياسية المتدنية للفائدة وعدم بناء مساكن اجتماعية أسعار العقارات إلى مستويات مرتفعة جديدة، ما منع مزيداً من الأشخاص الأصغر سناً من شراء مساكن وأجبرهم على العيش في مساكن مؤجرة إيجاراً خاصاً ولا توفر لهم الأمن السكني وتتسم بتكاليفها العالية.
ولدى المملكة المتحدة بعض من أكثر قوانين الإيجار الخاص ملاءمة للمالكين في العالم المتقدم، وتسمح هذه القوانين بإخراج المستأجرين بعد إعطائهم مهلة قصيرة ومن دون تقديم مبرر. وكان حوالي 1.6 مليون موظف في لندن يعملون، قبل فرض الإغلاق، من منازلهم الواقعة خارج العاصمة، وفق "توتال جوبز". وقال ثلث المشاركين في استطلاع الرأي إنهم أصبحوا يحبذون العيش في منطقة ريفية أكثر من ذي قبل، وأكد 34 في المئة رغبتهم في الانتقال إلى مساكن ذات مساحات خارجية أكبر. وتراجعت بحدة هذا العام نسبة الذين ذكروا أنهم يعتزمون العيش في لندن طيلة حياتهم من 27 إلى 20 في المئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول غيراينت جوهنس، أستاذ الاقتصاد في جامعة لانكستر الذي درس الهجرة الصافية من المدن البريطانية الكبرى، "إن العامل الرئيسي هو الرغبة في مزيد من المساحة، وهو أمر يتصل بالتكاليف المرتفعة للعيش في المدن. وتُسرّع الجائحة إعادة التقييم هذه". ويضيف "أن يكون المرء قادراً على العثور على مسكن يلبي احتياجات العائلة، أصبح أمراً أهم في نظر الناس… لا يشتري أشخاص كثيرون منازل في لندن بل يستأجرونها، ولا يستطيعون تحمل تكاليف شراء عقار يسمح لهم ببناء عائلة". ويتابع البروفيسور جوهنس "وجد كثير من الناس أنهم يستطيعون العمل بمرونة، وبالنسبة إلى غيرهم قد لا يكون الموقع مهماً على الإطلاق. فقد يتمكنون من أن يختاروا في شكل مستقل تماماً مكان عملهم ومكان سكنهم… تبين لنا نجاح ذلك إذ عمل 40 في المئة من الناس من المنزل خلال الجائحة".
وجعلت تجارب الإغلاق بعض أصحاب العمل أكثر استعداداً للنظر في أن يأذنوا للموظفين بأداء مهامهم من المنزل على مدى أطول حيث يمكنهم ذلك. ويلفت البروفيسور جوهنس إلى أن "أصحاب العمل في لندن يبدون سلفاً استعداداً متزايداً للسماح للموظفين بالعمل بمرونة. ويرى كثير منهم منافع ذلك". ويردف "فهذا يوفر كثيراً من الوقت المخصص للتنقل، ويعطي العاملين وقتاً إضافياً يمضونه في الترفيه عن أنفسهم ومع عائلاتهم، من دون تقليص ساعات عملهم أو إنتاجيتهم".
ويقول "يجري الحديث عن هذا الموضوع منذ بعض الوقت لكن تجربة فيروس كورونا أخرجت أصحاب العمل من جمودهم في شأن الشغل من المنزل".
ويضيف جوهنس "يمكن للعمل من المنزل أن يفيد الأعمال في مختلف أنحاء البلاد إذ نشهد فصلاً متزايداً بين مقر الإقامة ومكان العمل لدى الناس. فمن الممكن لأصحاب الكثير من الوظائف أن يعملوا من بعد ويذهبوا إلى المكتب من وقت إلى آخر".
وعلى غرار أي تحول اقتصادي، سيكون ثمة خاسرون ورابحون. فليس من الممكن تأدية أغلبية الوظائف في المملكة المتحدة من المنزل. وتعتمد ملايين الوظائف، ولاسيما في قطاع الخدمات، على شركات النقل. وقد دقت محلات بيع المأكولات الجاهزة السريعة، مثل "بريتا مانجيه" Pret a Manger، جرس الإنذار بالفعل، ومن المرجح في الوقت نفسه أن تعاني أيضاً الحانات ومحال تنظيف الملابس والمطاعم الواقعة في مراكز المدن.
وأكد رئيس الوزراء أخيراً الحاجة إلى ذهاب الناس إلى مواقع عملهم حين يمكنهم ذلك، لدعم هذه المؤسسات التي تعتمد على زبائن ينتقلون بشكل دوري من بيوتهم إلى أماكن عملهم.
لكن بالنسبة إلى البروفيسور جوهنس قد يتعذر عكس التغييرات الجارية حالياً. ويقول "لقد أبحرت هذه السفينة إلى حد ما… فعلى أي حال، سبق وبدأت سلفاً تغييرات في طريقة عمل كثير من الناس. وسرّع كوفيد هذه التغييرات في شكل كبير جداً. وبالطبع سيكون ثمة خاسرون في الأجل القريب، لكن هذه الظاهرة ليست لعبة تتساوى فيها المكاسب والخسائر".
© The Independent