Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شرق السودان وتداعيات ولاية كسلا!

المركز في الخرطوم حريص على دعم التوافق وتسهيل مهمة الوالي صالح عمار

تتمسك حكومة الثورة بتكليف صالح عمار والياً لولاية كسلا (أ ف ب)

لا يزال الجدل دائراً على خلفية اختيار مرشح قوى الحرية والتغيير الأستاذ صالح عمار والياً لولاية كسلا (شرق)، عبر مظاهر رفض بعض مكونات المنطقة لولايته رفضاً عدمياً لا يستند إلى أي منطق سوى ما يمكن وصفه استمراراً لطريقة الشغب والمحاصصات التي طبعت سنوات إدارة الحكم الثلاثين في عهد النظام البائد.

بطبيعة الحال، يدرك الأستاذ صالح عمار التعقيدات التي تواجهه من مكون واحد (وحتى هذا المكون فيه قسم كبير مؤيد لصالح عمار) في المنطقة، وهو مكون لا يعكس أكثريةً بالمقارنة مع مكونات منطقة شرق السودان جميعاً، فضلاً عن أن الذي يتولى كبر ذلك المكون السيد محمد محمد الأمين ترك ناظر قبيلة الهدندوة، لا يبدو من تصريحاته وتصريحات أتباعه أنه يريد شيئاً محدداً يمكن إدراجه في طبيعية المطالب السياسية العادلة. فما سمعه المتابعون لفعاليات الاعتصام في كل من مدينة (كسلا) سواء من ترك أو من أتباعه، كان كلاماً يمكن أن يوصف بأنه غير سياسي، من شاكلة الدعوة إلى انفصال شرق السودان، أو من خلال أعمال لا يمكن أن توصف بأنها طرق احتجاج سياسية سليمة؛ كقطع أتباع الناظر ترك الطريقَ الرئيس الذي يصل بين ميناء بورتسودان في الشرق إلى الخرطوم وهو طريق يعتبر شريان حياة للمركز في الخرطوم.

كان واضحاً أن تلك التصرفات من طرف الناظر ترك وأتباعه قد لقيت استهجاناً كبيراً من طرف مراقبين وجدوا في تلك الاحتجاجات شكلاً من أشكال الاعتراض العنصري والعدمي؛ فصالح عمار تم ترشيحه بناء على خلفيته الثورية؛ لأن قوى إعلان الحرية والتغيير - الحاضنة السياسية لحكومة الثورة - هي التي اختارته لكفاءته ونضاله ونزاهته لا من حيث مكونه القبلي، الذي يعترض عليه أتباع الناظر ترك المعتصمون في مدينة كسلا، وبدا واضحاً من تعبيراتهم العنصرية والإقصائية حيال المكون الذي ينتمي إليه صالح عمار؛ أنهم خارج أي تعريف سياسي أو موضوعي للمبادئ التي قامت من أجلها الثورة، لهذا كان موقف حكومة الثورة واضحاً في التمسك بتكليف صالح عمار والياً لولاية كسلا.

دخول رجل الدين والداعية الصوفي الشيخ سليمان على بيتاي، الذي يحظى باحترام وتقدير كبيرين من كافة مكونات شرق السودان (ينتمي أتباعه إلى أكبر مكون في قبيلة الهدندوة؛ الجميلاب) على خط تأييد الوالي صالح عمار، وتصريحاته التي عبر عنها بوضوح في وقوفه مع الوالي صالح عمار وفقط لأنه اختيار حكومة السودان؛ إلى جانب موافقة نظار نظارات البجا الأخرى على ولاية صالح عمار، عدا نظارة الهدندوة، عكس للمركز صورة واضحة عن طبيعة الاصطفاف والتأييد في شرق السودان.

المركز في الخرطوم حريص على دعم التوافق وتسهيل مهمة الوالي صالح عمار في حكم ولاية كسلا من خلال تسوية تشاورية تنظر في تداعيات الأمر المحتملة من جميع الزوايا، لذا فإن هناك لجنة رفيعة المستوى من مجلس السيادة ستجتمع بوفود من نظارات شرق السودان الخميس 6 أغسطس (آب) للتشاور والاستماع مع ومن الجميع حرصاً على تفويت أي تداعيات يمكن أن تؤثر على استقرار شرق السودان.

وإذ لا يبدي الناظر ترك مطالبَ واضحةً وقابلةً للنظر السياسي والموضوعي سوى تغيير والي كسلا بوالٍ آخر من غير سبب وجيه في مطلب هذا التغيير، وأحياناً يخلط ذلك المطلب بالدعوة إلى إلغاء مسار الشرق في منبر جوبا لمفاوضات السلام، فإن عقدة هذا الاجتماع المرتقب ستكون هي تكييف طبيعة التعامل مع الناظر ترك، لأن الأمر مرتبط في جزء كبير منه بمكانة الزعامة القبلية التي يحظى بها ترك كونه زعيماً لقبيلة من أكبر قبائل شرق السودان (الهدندوة) بما قد يعكس توجهات محتملة لإعاقة الاستقرار بشرق السودان من خلال أتباعه في حال فشل الاجتماع المرتقب في إقناعه ضمن أي  تسوية. ناهيك عن تدخلات محتملة لقوى إقليمية على خلفية هذا الاحتجاج.

تصريحات الناظر ترك، في أكثر من مناسبة عامة، كانت واضحةً ومخططاً لها في الإيحاء الذي ظل يروج له بطريقة لا لبس فيها، وهو إيحاء يقوم على ادِّعاء نفي سودانية المكون الذي ينتمي إليه صالح عمار (بني عامر والحباب)، وهو ما ظل يردده أتباعه في الاعتصام بمدينة كسلا بأشد الأساليب عنصريةً وانحطاطاً. وعلى الرغم من أن سودانية مكون بني عامر والحباب لا تحتاج إلى إثبات فهي أمر مفروغ منه، لكن أتباع الناظر ترك يستثمرون في الطعن على سودانيتهم في الامتداد القبلي الحدودي داخل دولة إريتريا (وهو امتداد يشمل أيضاً المكون الذي ينتمي إليه ترك: الهدندوة)، عبر قضية اللاجئين الإريتريين في شرق السودان بطريقة الهدف منها إلقاء الجنين مع الماء القذر، وإرسال رسائل سلبية للمركز وبقية السودانيين؛ ممن هم غير ملمين بتعقيدات مكونات شرق السودان؛ رسائل مفادها أن المكون الذي ينتمي إليه الأستاذ صالح عمار والي كسلا المكلف (بنو عامر) مكون لا ينتمي إلى السودان، في هراء مكشوف لن يصدقه أحد عند التحقيق.

ولمن لا يعرفون الحقيقة؛ يعتبر مكون بني عامر في كسلا، تاريخياً، أكبر مكونات المدينة. فقد أحصى المفتش الإنجليزي لشرق السودان (أندرو بول) في عهد الاستعمار في كتابه الشهير عن "تاريخ قبائل البجا بشرق السودان" (وهو كتاب صدر عن جامعة كامبريدج في الخمسينيات وترجمه عن الإنجليزية في التسعينيات د. أوشيك آدم علي) عدد مكون بني عامر في مدينة كسلا بـ15 ألف نسمة في النصف الأول من القرن العشرين، بينما كانت قبيلة الحلنقة، الذين هم من السكان الأصليين لمدينة كسلا 2500 نسمة.

لقد كانت النية واضحةً سلفاً في الهدف من إقصاء مكون بني عامر والحباب (الذين  يشملهم مسمى البجا التاريخي) عند تأسيس ما سمي "المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة" في العام الماضي بقيادة الناظر ترك، وهو جسم انفضت عنه حتى نظارات البجا التي ادَّعى الاشتمال عليها؛ مثل الأمرار والبشاريين والعبابدة، عندما أدركوا طبيعته السياسوية الفجة.

كل تلك الادعاءات الموثقة والتي كان يرددها الناظر ترك وأتباعه في كثير من المناسبات ليوحي لعامة السودانيين من غير أهل شرق السودان بأن مكون بني عامر والحباب ليس سودانياً؛ هي التي تقف اليوم وراء موقفه الشعبوي المعلن هو وأتباعه - ولا نقول الهدندوة - من رفض الوالي المكلف من قبل الحرية والتغيير صالح عمار، وفقط لمجرد أنه من مكون "بني عامر"!؟

وعلى الرغم من تصريح الناظر ترك أخيراً؛ أنه لا يرفض صالح عمار بناءً على المكون الذي ينتمي إليه، فإن موقفه الحقيقي هو موقف، كما بدا واضحاً، لا ينطوي على أي دلالة سياسية أو عقلانية، مما سيضع احتمالات عسيرة في فهم موقف ترك أمام لجنة التسوية المحتملة في الاجتماع الذي سيعقد الخميس المقبل.

حجة أتباع الناظر ترك، ومن لف لفهم، هي: بما أن مكون الهدندوة، والناطقين بالبداويت من البجا، بصورة عامة، يمتلكون الأغلبية من إقليم شرق السودان، وأن مكون بني عامر والحباب هم الأقل، وهذه حقيقة، فإن ذلك يقتضي في نظرهم أن تكون لهم الأولوية في حكم شرق السودان – مع أن والي ولاية البحر الأحمر من مكون البداويت - لكن السؤال الذي يفرض نفسه؛ هل تقاس مواطنة المواطن السوداني واستحقاقه لولاية الوظائف العامة، بمليكة المكون الذي ينتمي إليه للأرض؛ أم بمجرد هويته السودانية فقط؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هكذا سنجد أنفسنا إزاء مواقف متهافتة ولا علاقة لها في حقيقة الأمر بأي منطق سياسي أو حقوقي. بل هي فقط مواقف عدمية يدفع بها أنصار ترك لتصوير والي كسلا المكلف كما لو أنه جاء من خلفية قبلية، أو أنه سينتصر لقبيلته في توزيع السلطة في ولاية كسلا. والحقيقة أن كل تلك الادعاءات عارية من الصحة، فصالح عمار شخصية وطنية مناضلة وهو ابن الثورة الذي سيركز أثناء ولايته المقبلة لكسلا على تطبيق قيمها ومبادئها في إيكال المسؤوليات والوظائف الإدارية في الولاية لكل أبناء مدينة كسلا ولكل صاحب كفاءة واستحقاق وطني من كافة مكونات ولاية كسلا، بعيداً من الانتماءات القبلية والمحاصصات العشائرية التي يتخيلها أتباع ترك ويصورونها للبسطاء.   

للأسف هذا الوضع الذي أصبح يعكس نفوذاً سياسياً لنظار القبائل من أمثال الناظر ترك وغيره، هو حصاد نظام تسييس القبائل الذي اعتمده نظام عمر البشير على مدى 30 سنة لخلخلة النسيج الاجتماعي وتدمير البنية السياسية ممثلة في الأحزاب، وهو ما رأينا أفعاله الكارثية في مأساة دارفور التي راح ضحيتها مئات الآلاف منذ عام 2003.

تدرك الحكومة السودانية حساسية الأوضاع في شرق السودان، لا سيما عبر موجات الاقتتال الأهلي التي انتظمت مدنه منذ العام الماضي في بورتسودان وكسلا والقضارف، وكان آخر هذه الموجات؛ الاقتتال الأهلي الذي وقع في مدينة حلفا قبل شهر. لهذا فإن حرص حكومة الثورة في البحث عن تسوية لمهمة تسهيل ولاية والي كسلا صالح عمار عبر لجنة أعضاء مجلس السيادة، تأتي من الحذر والإصرار على دعم الاستقرار في شرق السودان، وتفويت أي فرصة لصناعة الفوضى في هذه المنطقة الجيوسياسية الحساسة. فالجميع يعلم أن صناعة الفوضى في شرق السودان ستجلب أجندات إقليمية ودولية خطيرة للتدخل، وحينها سيتفاقم الوضع على نحو خطير قد يجهض مشروع الثورة انطلاقاً من تفجير الأوضاع في شرق السودان.

لهذا، من المهم الاحتكام إلى صوت العقل من كافة الأطراف والحرص على توحيد الإرادة الوطنية من أجل إنجاح المرحلة الانتقالية، وإعطاء والي كسلا الجديد (صالح عمار) فرصة مستحقة للعمل في ترتيب أوضاع الولاية بما يخدم مشروع الثورة ويحقق نجاح المرحلة الانتقالية، وصولاً إلى الانتخابات الحرة في نهايتها.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء