Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هالة المضطربة تبحث عن نافذة تطل على البحر

فيلم "بعلم الوصول" لهشام صقر على خطى داوود عبد السيد بحثاً عن سينما مختلفة

الشخصيتان هالة ونعمة في فيلم "بعلم الوصول" (اندبندنت عربية)

كأن "نورا"، بطلة فيلم داوود عبد السيد "رسائل البحر" 2010، التي جَسّدتها النجمة بسمة، قد ارتدت عن تلك الرحلة التي هربت خلالها مع حبيبها "يحيى"، على متن قارب في البحر، لتعود مجدداَ إلى المدينة، فتتبدل ظروفها، وتعيش في بيت من أربعة جدران، ويتحول زوجها إلى موظف في بنك، ويصير لهما ابنة. كل ذلك في فيلم "بعلم الوصول" الذي عرض في الصالات المصرية، ولم تطل أيام بقائه في شباك التذاكر بسبب انتشار وباء كورونا، والقرارات الرسمية بتعليق العمل في السينمات.

"بعلم الوصول" هو أول إخراج لهشام صقر ومن مونتاجه أيضاَ، بالإضافة إلى التأليف، وقد شاركه في كتابة السيناريو إبراهيم البطوط، ويؤدي ادوار البطولة إلى جانب بسمة: محمد سرحان، بسنت شوقي، رفل خليل، ولبنى ونس، صمم الديكور للفيلم حنان كيرلس، والموسيقى التصويرية أحمد مصطفى صالح. هذا الشهر، بدأ عرض الفيلم عبر شبكة OSN.

يرتبط "بعلم الوصول" روحياً بفيلم داوود عبد السيد، الذي يبدو كمنارة في سِجِّل السينما المصرية قبل ثورة يناير 2011، وكان يرصد هذا التحوّل أو لنكن أكثر صدقاَ، الاضمحلال الذي حدث في الإسكندرية، بوصفها الإسكندرية مرّة، بكل تراثها الحضاري، وبوصفها أيضاً المدينة، أي أن ما يسري عليها، كان يسري أيضاً على القاهرة، على شكل الحياة في مصر، ومدن عربية أخرى عديدة، من تَغيُّر مُقلِق، كان يُبشِّر بانفجار وشيك الحدوث. هذا الارتباط الروحي، يمكن إثباته بأن بسمة، نجمة "رسايل البحر" هي أيضاً بطلة "بعلم الوصول"، ولأنها تعود في هذا الفيلم الأخير إلى شاشة السينما بعد أعوام من الغياب - صحيح أن هذا ليس العمل الوحيد الذي تعود به لكنه يحمل اسمها كبطلة مطلقة ويدفعنا لإعلان افتقادنا لها - وكذلك لأن "بعلم الوصول" كما يبدو من عنوانه، يُشير مجدداً إلى فكرة الرسائل، التي وصلت فقُرئت وحققت الغاية منها، كما حصل مع "يحيى"، البطل الحالم في عمل داوود عبد السيد الكبير.

فَقَدتْ بسمة أو "هالة" في "بعلم الوصول" تقريباَ صفة الحلم، وانقطع السبيل بينها وبين البحر. إنها مكتئبة كما يظهر في المشهد الأول، بإضاءته الخافتة، وحركة الكاميرا التي تموّه ضمنياً عمّا يحدث، قبل أن نطالع وجه هالة الذي تُجسده بسمة بأدائها الذي يُعلن عن تجربة إنسانية عاشتها في أعوام الاختفاء، سمحت لها أن تظهر بكامل كآبتها، خوفها على ابنتها، وانعزالها الكام في شقة بسيطة، من شقق الطبقة المتوسطة في حي شعبي بالقاهرة. بيت ليس له بلكونة ويُمكن رؤية الصالون، أو ما يُعتبر غرفة المعيشة من شبابيك بيوت الآخرين، فضاء خانق سيتولى إظهار اضطرابات نفسية متباينة، تعيشها النساء، وتعاني منها في صمت، كأنها لوازم الحياة، كالقلق والاكئتئاب والوسواس القهري.

الأصوات العائدة

يفترض الفيلم حداً أدنى من المعرفة بعوارض هذه الاضطرابات، وربما خبرة سابقة فيقتضب كثيراً في شرحها، وينشغل بدلاً عن ذلك برسم تفاصيل هذا العالم، ناسجاً ما يشبه شبكة عنكبوت تُمثل وعي هالة الذي سرعان ما يلتهم المتفرج تماماً، فيُحلّه في عقلها وأفكارها المشتتة تلك. الشك مزروع في معظم مشاهد الفيلم، تنظر هالة كثيراَ إلى طفلتها، فينتابنا هذا الشعور المزدوج بأن كلاَ من الابنة والأم مصدران للخطر المتبادل. تقول هالة لخالد زوجها، إن الأصوات ترجع لها مجدداً (في استعادة للكاتبة الإنجليزية فيرجينيا وولف التي تركت رسالة عن انتحارها للسبب نفسه، أي رجوع الأصوات لمطاردتها في رأسها). ويذهب الزوج، (يقوم بدوره محمد سرحان) إلى العمل كل يوم، يستخدم المواصلات العامة، يسير في الزحام، حيثُ تتجاهل السيارات الخاصة والحافلات حركة المارّة في شوارع القاهرة الرئيسية، فيضطرون إلى الهرولة، للنجاة من اصطدام محتمل، يمكن أن يودي بالحياة نفسها. في هذه الحركة الوَجِلة، يفقد الناس شيئاَ من تركيزهم، من أملهم في الغد، من صبرهم على مَنْ يحبون.

يستمع خالد إلى شكوى زوجته، كابوسها الأخير الذي يضيع فيه منها، وبصعوبة يُطئمنها، إنه مُثقل بأعباء العمل، بمعاملاته مع عملاء أفظاظ في البنك. وبثقل مشابه تؤدي هالة أعمال المنزل، مستسلمةً للوساوس، نافرةً من نصائح المحيطين بها، الذين يرونها عاجزة عن التمتع بوضع يتمنونه. هكذا تقول لها جارتها "مروة" (تقوم بدورها بسنت شوقي)، في إحدى جلساتهما. تفتقد هالة إلى مَنْ يمكنها أن تتحدث معه من قلبها، فتعزل نفسها أكثر، في هذا الفضاء المظلم، نفسياً كان أو مكانياً.

ذات يوم، تضعها الحياة أمام أسوء مخاوفها، يرتكب خالد خطأ جسيماً في العمل، نجم عن قلة التركيز، يودي به إلى السجن مؤقتاً، وحتى يتمكن من إثبات براءته، تخوض هالة أسيرة نفسها، رحلة، حاولت أن تتفادها كثيراَ، بلا جدوى.

البحر المتخيل

مثلما لعب البحر في "رسايل البحر" دوراَ حيوياَ بحضوره وغضبه ورحابته التي تغوي بالنجاة، يلعب هنا دوراَ مهماَ أيضاَ، لكن خافت، ذلك أن البحر لا يظهر على الشاشة بأي صورة من الصور. قبل السجن تطلب هالة من زوجها أن يقضيّا في المستقبل القريب عدة أيام على البحر، فهي ترفض اقتراح زيارة طبيب متخصص في المرض النفسي، لكنها تحدس أن البحر سيقدم لها نوعاً من العلاج، أو بالأحرى المواساة. وهي عندما تضطرب حياتها، وتضطر إلى الرجوع لبيت أهلها، كي تجد مَنْ يشاركها الاعتناء بندى ابنتها، وبالضرورة تواجه كربها القديم، الذي يسكت الفيلم عن تفاصيله، وهو حدث موت الأب، يظهر البحر مجدداَ، لكن في خيال شقيقتها الصغرى "نعمة" (تؤدي دورها رفل خليل)، يتولى البحر ككيان ميتافيزيقي إرسال إشارات النجاة إلى هالة. والشرط الوحيد مقابل هذه المساعدة أن تكون هالة مُستعدة للتلقي، أن تفتح الشبابيك وتنظر عَبَرها، وهذا ما تُحققه لها الأزمة، إذ تُجبرها على مغادرة الشرنقة.

تتلقى هالة الرسائل، من شابة أخرى،  في سنها تقريباً ، تشبه ظروفها ظروف هالة في مرحلة ما من حياتها، تشاركها المرسِلة، لحظات ألمها، الفلسفة التي تكونت في رأسها كسيدة مصرية تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، تطمئنها "أن كل حاجة لازم تخلص". لا يتجاوز عدد الرسائل التي تتلقاها هالة من هذه الغائبة الثلاث ، لكنها تحصل من خلالها على ما افتقدته دائماَ: الرحمة، التعاطف أو كما تقول صاحبة الرسالة "الوَنس".

يُحقق الفيلم في هذا الجزء بُعده النسوي، فتتمكن هالة أثناء رحلتها من رؤية المُحيطين بها مجدداَ، كصديقتها وجارتها "مروة" التي تُجاهر باستيائها من أنانيتها، في حوار يستخدم مفرادت الحياة الحقيقية وليس كليشيهات السينما. تستمع هالة وتحاول أيضاَ أن تفهم نفسها، تسعى للعثور على صاحبة الرسائل، كما تتواصل بشكل فعّال أخيراَ مع شقيقتها المراهقة نعمة، التي تبرهن عن موهبة كبيرة في الرسم، الموهبة التي تساوي في الفيلم المقدرة على الاستدعاء المستمر للبحر، عن طريق الألوان.

تمثل نعمة، نقطة نور كبيرة في "بعلم الوصول"، العمل المُقتضَب، المُقبِض والصموت، الذي يدعو للتفاؤل بشأن حال السينما المصرية، وقدرتها على التعبير بواقعية تُذكرنا بمخرجي جيل الثمانينيات، وأحدهم بالطبع داودد عبد السيد. يلفت الفيلم انتباهنا إلى أن الحاجة إلى التواصل الحقيقي ربما تكون أعمق حاجاتنا نحن سكان العالم الذكي المُفرِط البرودة، ولهذا يقتصر ظهور الموسيقى في شريط الصوت على لحظات الاستنارة التي تمر بها هالة. إن النجاة التي كانت حِصّة حبيبين في "رسايل البحر" قبل عشرة أعوام، صارت اليوم فردية تماماً، لكن فرديتها تلك قد تكون الضمانة الوحيدة لشيوعها وسط الجماعة.

المزيد من سينما