Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صهيب قسم الباري أعاد إحياء السينما السودانية بعد دمارها

فيلمه "التحدث عن الأشجار" فاز بجائزتين في برلين ووصف ب"التحفة الوثائقية"

رواد السينما السودانية في فيلم "التحدث عن الأشجار" (اندبندنت عربية)

"التحدّث عن الأشجار" للمخرج السوداني صهيب قسم الباري تحفة السينما الوثائقية العربية. ما من فيلم عربي حصد الإعجاب إلى هذه الدرجة في السنوات الأخيرة. منذ فوزه بجائزتين (أفضل فيلم وثائقي وجائزة الجمهور) في مهرجان برلين السينمائي، العام الماضي، وصولاً إلى إسناده جائزة النقّاد من قبل مركز السينما العربية قبل أيام، لا يتوقّف هذا العمل عن إثارة الفضول أينما حلّ، سواء لمستواه الفنّي أو لخطابه السياسي. صادف صدور الفيلم مع قيام الانتفاضة الشعبية في السودان في العام 2019، ضد عمر البشير ونظامه الجاثم على صدور السودانيين منذ ثلاثة عقود.

الفيلم يتعقّب شلّة من السينمائيين السودانيين: إبرهيم شداد، منار الهيلو، سليمان محمد إبرهيم، الطيب مهدي. تتراوح أعمار هؤلاء بين العقدين السادس والثامن، جلّهم متقاعد أو معتكف عن العمل لأسباب خارجة عن إرادته. بعد سنوات يجتمعون لتحقيق حلم قديم: إعادة افتتاح دار عرض سينمائي في هواء الخرطوم الطلق، بعدما كانت تحوّلت مع الأيام إلى أنقاض. كلّ السينمات اندثرت وأُقفلت وتعرّضت للإهمال، وثمة حاجة إلى بديل. يطمح هؤلاء إلى بثّ الثقافة السينمائية ونقل عدواها إلى الأجيال الجديدة في بلاد تعيش نوعين من القمع، الديني والعسكري. والقمعان على علاقة تواطؤ، أحدهما بالآخر، ولا يختلفان كثيراً على مستوى إرادتهما في المنع والحظر.

ذاكرة سينمائية

يروي المخرج الأربعيني قسم الباري لـ "اندبندنت عربية" عن مغامرة صنع هذا الفيلم في بلد توقّفت فيها صناعة السينما لفترة طويلة، موضحاً أن الفكرة ولدت قبل سنوات من بدء التصوير. يروي: "ذات يوم اكتشفتُ أفلام إبرهيم شداد والطيّب مهدي وسليمان محمد إبرهيم. كنتُ في السودان وفي داخلي نيّة لإنجاز مشروع هو عبارة عن فيلم روائي، لكنّ عقبات عدّة اعترضت طريقي، حتى قبل التصوير وبناء تصوُّر له فالبحث عن مواقع. كان الأمر صعباً جداً وسط قسوة الظروف التي يعانيها السودان، لا سيما لجهة الحصول على تصاريح، ممّا كان يتطلّب تنازلات هائلة لأتمكّن من تسريع إنجازه. عندها، اكتشفتُ أنّه لن يُنجَز ما لم يسقط البشير. شعرتُ بالإحباط في تلك الفترة، لكن من حُسن الحظّ أنّني حينذاك قابلتُ شخوص الفيلم الأربعة، من دون أن تكون لديّ فكرة عن مكان وجودهم. كنتُ قد تابعتُ أعمالهم وقرأتُ كتاباتهم، فهم أيضاً نقّاد سينمائيون. بحثتُ عنهم، فوجدت سليمان محمد إبرهيم، الذي عرّفني إلى بقية المجموعة. اكتشفتُ أنّها مجموعة مذهلة في سخريتها من الواقع وإنتاج الأمل، أحياناً من العدم. مخرجون أصرّوا على تقاسم الأمل مع ناس لا يملكون منه شيئاً. شاهدتُ بعض أفلامهم، وسمعتُ عن بعضها الآخر، ولحُسن الحظّ استطاعوا إنقاذ بعض النسخ منها، بعدما كانت في حال يُرثى لها. أذهلني التطلّب الفكري والفنّي، وأذهلتني الجرأة. يكفي أن يكون المرء قادماً من بلد هو السودان، يفتقر حتى إلى وجود سينما تجارية أو إنتاج سينمائي، ثم لا يتنازل عن أي تطلّب فكري وفنّي. أدهشتني هذه الرديكالية، فعلى الرغم من الظرف الصعب، أرادوا عملاً بمستوى لائق. اكتشفتُ أيضاً كتاباتهم. كانوا يُصدِرون مجلة اسمها "سينما"، لكن توقّفت في الثمانينيات، قبل الانقلاب الذي أتى بعمر البشير. كذلك، ذُهلت من الثقافة السينمائية العجيبة لديهم. كانوا ينظّمون عروضاً في السبعينيات والثمانينيات، خصوصاً سينما المؤلّف، فهالتني قدرتهم على المجيء بأفلام مصدرها اليابان أو بولونيا، للعرض في السينما المتجوّلة وفي نوادي السينما في السودان، وذلك في سنة صدورها نفسها في البلد الأم. ضمّت هذه المجموعة أكثر من أربعة أشخاص، لكن اختياري كان العمل مع هؤلاء الأربعة، فأسعدني أنني وجدتُ عائلة سينمائية في بلد يعاني شحّاً ثقافياً وفنّياً هائلاً".

فيلم وعاصفة

فكرة أن يصبح الفيلم فيلماً، تعود إلى صورة "ملحمية" واقعية حصلت أمام المخرج قسم الباري. كان هؤلاء الأربعة ينظّمون عروضاً سينمائية في القرى المحيطة بالخرطوم، فرافقهم في واحد من هذه العروض. تراءى الأمر بسيطاً، كأنّه يحصل في أي مكان: عروض سينمائية في قرية... ولكن، وصل الجميع متأخرين بسبب عُطل في السيارة، والمشاهدون في القرية كانوا أخذوا أماكنهم. ثم هبَّت عاصفة ترابية خفيفة في البداية، فظن قسم الباري أنّ العرض سيُلغَى. ما حدث أنّ العرض تواصل، والشاشة كانت قماشية، مثبتة في الأرض بعيدان، ولما ازداد هبوب العاصفة، قام اثنان من الأربعة، بربط الشاشة بمقعديهما، واستطاعا تثبيتهما بسبب ثقل جسديهما.

إنها لحظة لا ينساها قسم الباري: "كلما ازداد الهبوب، انتفخت الشاشة، فكنتُ، أنا الغريب عن طبيعة السودان القاسية، أراقب العيون وسط هذا المشهد، فلمحتُ انعكاس الصورة على الأتربة المعلّقة واهتزازها مع حركة الهواء. كان العرض ممتازاً، بدا لي كأنني في مركب والمشهد بأكمله يتحرّك. هذه الصورة الذهنية غير الموجودة في الفيلم، بدت بمثابة صورته الأم. لحظة كهذه، حرّكت بداخلي الرغبة في إنجاز فيلم. تأخّرت المسألة، لكنّني حين انطلقت، بدت الصورة الذهنية ساطعة الحضور".

 يروي قسم الباري أن هناك تعطّشاً هائلاً للسينما في السودان. هو من جيل لم يرتد الصالات مطلقاً. السينمات أقفلت طوال ثلاثين سنة. لكن كان ثمة حبّ للشاشة والمُشاهدة السينمائية. حتى العام 1989، فاق الإقبال الجماهيري على السينما، إقبال الجمهور على مباريات كرة القدم، وهذا مُثبت في الإحصاءات. جيله هو وُلد داخل هذا العطش، وخارج معادلة مشاهدة السينما كلياً.

صالات مفتوحة

 يقول: "السينما من أولى ضحايا التشدّد والقمع اللذين حاول نظام البشير فرضهما على السودانيين منذ العام 1989. كان ثمة مخطّط آخر غير تصفية المعارضين جسدياً وفصلهم من أعمالهم وإرغامهم على الهجرة، هو محو الذاكرة والمكتسبات الثقافية التي تعود إلى السودانيين، وإزالة كلّ مكتسباتهم الحداثية. الصورة والسينما كانتا من أكثر ما تعرّض للمحو، فيما مجالات أخرى تعرّضت للتضييق. تمّ اغتيال السينما عن سابق تصوّر وتصميم. فرْضُ حظر تجوّل لفترة طويلة، سدّد ضربة قوية للسينما التي كانت بمعظمها صالات مفتوحة لا مغلقة، جميع عروضها مسائية. كما صُفِّيت المؤسسة التي كانت محاولة لبناء إنتاج سينمائيّ، ففُصل هؤلاء الأربعة من أعمالهم، وأُغلق الجسم السينمائي في وزارة الثقافة. كانت سياسة ممنهجة، عدا عن التجريم الإيديولوجي للصورة والفنّ عموماً، والإصرار على إنتاج كمّ هائل من البروباغندا، فصودِرت كلّ المواد المرئية والذاكرة البصرية السودانية، لتسيطر بدلاً منها برامج جهادية تروّج لثقافة الموت. السينما كانت ضحية، لولا البعض ممَن استطاعوا الحفاظ بشكلّ سريّ على هذا الشغف ليقينه أنّ وجوده كان ضرورياً".

مَن يشاهد الفيلم، لا بد أن يلاحظ تعامل المخرجين الأربعة مع الموضوع بطرافة وبإطار خفّي، من دون منحه طابعاً مأسوياً وبكائياً. الملاحظة التي تسعد المخرج. يقول: "هذا واحد من أكبر الدروس الوجدانية بالنسبة إليّ. لستُ أميل إلى البكائيات في الأفلام الموجّهة إلى جمهور يحتاج إلى أن يشعر بأنّه متفوّق ولديه دور إنقاذيّ، وجماهير هي نفسها تعيش أوضاعاً مزرية. في البكائيات شيء من تسوّل التعاطف، خصوصاً بالنسبة إلى مخاطبة المُشاهد الغربي، والقول له مثلاً إنّني استثناء وسط كمية كبيرة من البشر المنتهية تماماً. ليست هذه السينما التي أحبّ. الطرافة في الفيلم ذكية، فالمخرجون مثقّفون جداً وواعون تماماً لما يجري، لكن لديهم القدرة على الفكاهة الساخرة الذكية، وهذا أمر عظيم".

 

المزيد من سينما