Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البشر وصلوا إلى القارة الأميركية قبل 11 ألف سنة مما ظنه العلماء سابقا

الاكتشاف البارز يعيد النظر في المقاربة الراهنة لعصور ما قبل التاريخ

دلت التنقيبات على وجود حضارة بشرية في كهوف المكسيك قبل 30 ألف سنة (متحف سميثونيان)

أفصح اكتشاف آثاري استثنائي جديد عن معلومات تفيد بوصول البشر إلى الأميركتين قبل 11 ألف سنة على الأقل من الوقت الذي جرى تحديده سابقاً. ويعيد هذا الاكتشاف كتابة قصة الحضارة البشرية في تلك القارة، كما يبدّل كليّاً فهمنا عصور ما قبل التاريخ في عالمنا.

ويُشير الاكتشاف الآثاري الجديد، من موقعه في وسط المكسيك، إلى أن القارة استوطنت أولاً في مرحلة ما تعود إلى ثلاثين ألف سنة قبل الميلاد. وحتى الآن، بدا أن الاستيطان الأول المُثبت في تلك القارة يعود إلى نحو 19 ألف سنة قبل الميلاد، ما يعني أن قصة البشر في القارة الأميركية أكثر طولاً وامتداداً بـ50 في المئة على الأقل مما كان يظن سابقاً. كذلك يشير البحث الآثاري إلى أن سكان أميركا الأصليين كانوا يعيشون في المكسيك، وافتراضاً أيضاً في باقي أجزاء أميركا الشمالية، منذ 30 ألف سنة قبل الميلاد على الأقل.

ويتميز الاكتشاف الجديد الذي حدث في كهف ناءٍ بولاية زاكاتيكاس Zacatecas وسط المكسيك، بأهمية عالمية كبرى، ويمثل أحد أبرز الاكتشافات الآثارية المحققة في العالم خلال العقود الأخيرة. وأسفرت عمليات التنقيب الممتدة والدقيقة في الكهف عن استخراج نحو 2000 قطعة أثرية حجرية تعود إلى فترة تراوح بين 30 ألف سنة قبل الميلاد و11 ألف سنة قبل الميلاد. ومن بين تلك القطع، تبرز مجموعة مؤلفة من نحو اثنتي عشرة قطعة تعود إلى فترة تراوح بين 30 ألف سنة قبل الميلاد و24 ألف سنة قبل الميلاد (المرحلة التاريخية الأقدم في الموقع).

وتتضمن هذه المجموعة من القطع الأقدم، عدداً صغيراً جدّاً من محفورات حجرية، استخدمت على الأرجح كرؤوس حراب، وبعض الرقاقات الحجرية التي نجمت عن عمليات صنع الأدوات. وثمة قطع (سكاكين حجرية، وكاشطات، ومحاريث، وأنصال، وحفارات)، تعود إلى مرحلة لاحقة تتراوح بين 24 ألف سنة قبل الميلاد و11 ألف سنة قبل الميلاد. ولا تقل القطع الأخيرة أهمية عن القطع الأقدم، خصوصاً أن بعضها يسبق في عمره الحقبة التي اعتبرت حتى الآن، بصورة عامة، التاريخ الأول لاستيطان البشر القارة الأميركية.

وفي ذلك الصدد، بيّن أحد علماء الآثار البارزين المشاركين في أعمال التنقيب، البروفيسور توم هيغام من "وحدة التأريخ بالكربون المشع" في جامعة أكسفورد University of Oxford’s radiocarbon dating unit.، أن "تلك المواءمة بين عمليات التنقيب الجديدة والأساليب الأحدث في علم الآثار، تجعلنا قادرين على اكتشاف قصة متجددة لاستيطان البشر القارة الأميركية". وأضاف البروفيسور هيغام، "الاكتشاف الذي يشير إلى وجود بشر هنا منذ أكثر من ثلاثين ألف سنة، يطرح مجموعة من التساؤلات الأساسية الجديدة المتعلقة بهوية أولئك البشر، وطريقة عيشهم، ومدى انتشارهم في القارة، وإيمانهم ومعتقداتهم في نهاية المطاف".

ونُشر البحث قبل أيام في مجلة "نايتشر" Nature، بعد أن حققه فريق من علماء الآثار ومجالات أخرى، من المكسيك وبريطانيا والدنمارك والولايات المتحدة الأميركية والبرازيل وأستراليا. ومع هذا البحث الجديد، باتت الفترة الزمنية لاستيطان البشر الأميركتين أطول على نحو كبير وملفت. ومن المرجّح أن يضاعف علماء الآثار جهودهم بهدف العثور على مواقع مماثلة، من فترات مبكرة جداً، في الأميركتين الشمالية والجنوبية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى نحوٍ متصل، بات من شبه المؤكد أن القطع الأثرية التي عثر عليها في أعمال التنقيب الجديدة قد صنعت على يد جماعات من الرُّحل، أو جماعات صيد وجني شبه مترحلة. وقد دأبت عِبْرَ أجيال لا تحصى على الانتشار في أنحاء ومناطق واسعة من المكسيك والولايات المتحدة، في أقل تقدير. والآن، بعد أن أدرك العلماء على إثر هذا الاكتشاف حقيقة عيش مجموعة صغيرة من البشر في موقع الكهف بوسط المكسيك، فإنه من غير المعقول أن يكون أولئك البشر القدماء وحيدين في الأميركتين آنذاك. إذ يؤكد مجرد وجودهم هناك استحالة بقائهم وحيدين خلال آلاف السنين التي استُخدم فيها الكهف على نحو متقطع. واستطراداً، فمن المرجح أن يكون ثمة في أقل تقدير، بعض المواقع الأخرى ترجع إلى أزمنة مماثلة أو ربما أقدم، ما زالت تنتظر أن تكتشف، ليس في أميركا الشمالية وحدها، بل ربما أيضاً في الجنوبية.

ويأتي هذا الاكتشاف الآثاري الجديد اليوم ليطرح ثلاثة أسئلة كبرى هي، من كان أولئك الأميركيون الأوائل الذين اكتُشفوا الآن؟ متى دخل أجدادهم العالم الجديد (القارة الأميركية) للمرة الأولى؟ كيف فعلوا ذلك؟

ونظراً إلى عدم توفر بقايا بشرية (في الكهف موضع البحث)، ما يعني أيضاً عدم القدرة على استخراج حمض نووي بشري من الموقع حتى الآن، فإنه من غير الممكن التيقن من هُوية أولئك البشر بالمعنيين الإثني والجيني. وفي هذا الإطار، يعتبر معظم سكان أميركا الأصليين (في الأميركتين الشمالية والجنوبية) متحدرين بشكل رئيس من الشعوب القديمة عينها التي يتحدر منها معظم الصينيين واليابانيين وغيرهم من شعوب شرق آسيا. بيد أن أبحاثاً جينية أخيرة أجريت على أصول سكان أميركا الأصليين تشير إلى أن الاستيطانات البشرية الأولى للأميركتين، نهضت بها على الأرجح مجموعة مختلفة من البشر ترتبط جزئياً بسكان أستراليا الأصليين الذين ما زالوا يعيشون اليوم، وشعوب "بابوا غينيا" الجديدة، وسكان "جزر آندامان" (القريبة من الهند)، وشعوب "مامانوا" من الفيليبين.

وكذلك يبدو أنه خلال عصور ما قبل التاريخ، ازدهرت الشعوب المرتبطة بمنطقة "ميلانيزيا" (جنوب المحيط الهادئ، وتعتبر أسلافاً لسكان أستراليا الأصليين المعاصرين، وشعوب "بابوا غينيا الجديدة" وغيرها من الأقوام). وقد انتشرت أيضاً في مساحات ليست قليلة في شرق آسيا وجنوب شرقها. وعلى ضوء هذا، من الممكن أن يكون الأميركيون الأوائل المكتشَفون اليوم، الذين وُجِدَتْ أدواتهم وآثارهم في كهف بوسط المكسيك، مرتبطين جزئياً بأسلاف سكان أستراليا الأصليين و"بابوا" وغيرهم.

 

لكن متى وكيف دخلوا العالم الجديد؟

ما زالت علامات نموذجية من الجينات الميلانيزية باقية إلى اليوم كعنصر صغير ضمن جينومات (الجينوم هو المجموع الكامل لسلاسل الجينات في كائن ما) عدد من جماعات السكان الهنود الأميركيين الأصليين في حوض الأمازون. واستطراداً، ثمة دليل وحيد متأتٍ من حمض نووي قديم، يؤشر على ذلك الرابط نفسه، ويأتي أيضاً من الأمازون (تحديداً، من خمسة هياكل عظمية قديمة جدّاً، عمر كل واحد منها عشرة آلاف سنة على الأقل). وجميع عينات أدلة الحمض النووي القديم، المستخرجة من هياكل عظمية أحدث لسكان أميركا الأصليين، لا تُظهر أي رابط ميلانيزي، بل لا تُظهر سوى، بالدرجة الأولى، روابط جينومية مع شعوب شرق آسيا الحاليين. وثمة أيضاً دليل من الحمض النووي الميلانيزي النموذجي القديم في آسيا، أستراليا إلخ (كحال الأستراليين الأصليين المعاصرين، وشعوب "بابوا" وغيرهما من الأدلة الجينومية)، يأتي من هيكل عظمي عمره 40 ألف سنة وُجِد في شمال الصين.

وتذكيراً، يقدر الزمن الأبعد في الموقع المكتشف حديثاً في المكسيك بنحو 30 ألف سنة قبل الميلاد. وبذا، يمكن القول إنّ هؤلاء الأميركيين الأوائل جدّاً، الذين ربما يرتبطون جزئياً بالميلانيزيين، قد وصلوا إلى عالمهم الجديد ذاك في فترةٍ تعود إلى ما قبل هذا التاريخ.

 

كيف تمكنوا من الوصول؟

من شبه المؤكد أنهم لم يصلوا عن طريق رحلات عبر المحيط الهادئ. بيد أنهم ربما أنجزوا جزءاً من الرحلة في الأقل عن طريق البحر (يحتمل أن يكون ذلك قد جرى بواسطة زوارق "كاياك" من عهود مبكرة). ولعلهم عمدوا إلى التنقّل بين الجزر على مدى أجيال متعاقبة، انطلاقاً من الصين أو حتى من جنوب شرق آسيا، ومروراً عبر عشرات الجزر الممتدة في قوسٍ عظيم بين الفيليبين وآلاسكا (الرحلة البحرية الواحدة الأطول قد تكون بلغت 120 ميلاً، لا أكثر). وبعد وصولهم إلى آلاسكا، ربما تمكن أحفادهم من السفر بحراً، ولو جزئياً، عبر الساحل الغربي لأميركا الشمالية إلى كاليفورنيا والمكسيك.

واستطراداً، تبدو شاقة وعسيرة فكرة أن يكون شعب من الشعوب في العصر الحجري، بأزمنة ما قبل التاريخ، تمكن من السفر إلى أميركا عن طريق البحر بالدرجة الأولى. بيد أن الحقيقة تفيد بأن الملاحة البحرية البشرية الحاذقة ولدت فعلاً هناك، في منطقة "ميلانيزيا" وغيرها من الجزر الآسيوية. وليس ذلك أمراً مفاجئاً. إذ تضم تلك المنطقة المحاذية لجنوب وشرق البر الآسيوي، أعظم تجمع للجزر في العالم (34 ألف جزيرة في الوقت الراهن، مع كتلة يابسة إجمالية تقدر بما لا يزيد على 1.2 مليون ميل مربع).

وفي زمن سابق بنحو 60 ألف سنة، حقق الميلانيزيون النموذجيون رحلة الـ40 ميلاً في البحر من جزرٍ كـ"سولاويسي" و"تيمور" إلى غينيا الجديدة، أستراليا (كانت كتلة أرض واحدة في ذلك الزمن)، فصاروا سكان أستراليا الأصليين الأوائل. وقبل نحو 30 ألف سنة أبحر الميلانيزيون الأوائل في رحلة 100 ميل من "غينيا الجديدة" إلى "جزر سليمان". وكذلك تنقل الملاحون الأوائل قبل 32 ألف سنة بين الجزر، وأنجزوا رحلة 300 ميل إلى جزيرة أوكيناوا، انطلاقاً من تايوان أو اليابان. وفي زمن تالٍ، خاض شعب منطقة الجزر الآسيوية أولى رحلات الاستكشاف العظمى في العالم عبر البحار (عبر المحيط الهندي، وفي سلسلة من الرحلات عبر المحيط الهادئ).

في المقابل، ليس مستطاعاً حتى الآن معرفة إذا كان الأميركيون الأصليون الأوائل المكتَشفون، الذين عاشوا في الكهف بوسط المكسيك، قد أتوا من الأجيال البشرية الأولى التي استوطنت عالمهم الجديد ذاك وعاشوا فيه، أم أن أسلافهم كانوا قد وصلوا قبلهم بأجيال إلى هناك. وحده البحث عن مواقع إضافية بالغة القدم في المكسيك والولايات المتحدة، قد يجيب عن سؤال هكذا.

على نحوٍ متصل، ربما مثل الكهف بحد ذاته قاعدة صيد مثالية. إذ يشكل مكاناً نائياً ومحصناً من العواصف، وقد يقدم مقداراً حسناً من الأمان لقاطنيه، كونه لا يظهر بسهولة من بعيد. ويُعتقد أن محيط الكهف في عصور ما قبل التاريخ، سادته مساحات مغطاة بأشجار صنوبر ضخمة ونباتات "تنوب دوغلاس" الدائمة الخضرة (كحال مناطق "أوريغون" و"بريتش كولومبيا" حاضراً). وكذلك توافرت المياه الحلوة على مقربة من الكهف، وتميزت الحرارة في دواخل الكهف (وما زالت) بالثبات على مدار السنة، مهما تبدّلت حال الطقس في الخارج.

 

وترأس أعمال التنقيب في موقع الكهف الدكتور سيبريان أرديلين من جامعتي "زاكاتيكاس" المكسيكية و"إكستر" البريطانية. في حالته الراهنة، يبدو الكهف بعيداً ويصعب الوصول إليه. و"زاكاتيكاس" المدينة الكبيرة الأقرب إليه، وهي عاصمة ولاية تحمل الاسم ذاته. وكذلك كشفت أعمال التنقيب أن الكهف آوى على نحو متقطع، بشراً يستخدمون تقنيات أدوات حجرية متماثلة، ويعتمدون النمط نفسه من الأدوات عبر 19 ألف سنة (750 جيلاً تقريباً). ويبدو أن "سكان الكهف" أولئك كانوا على درجة عالية من التأقلم مع محيطهم الطبيعي، ما جعلهم افتراضاً لا يرون حاجة في تطوير جوانب في تقنيات الحجارة، الأساسية في ثقافتهم. وتمكنت أعمال الدراسة والتحقيق في الكهف من إعادة بناء البيئة الطبيعية والمناخية القديمة للمنطقة، جزئياً بواسطة تحليل حمض نووي نباتي استُخرج من مواد رسوبية مدفونة في الكهف، أجراه عضو بارز في فريق البحث هو البروفيسور إسكي فيلرسليف من "مركز الجينات الجغرافية" في "جامعة كوبنهاغن" Copenhagen University’s Centre for GeoGenetics. وقد أفصح ذلك التحليل عن البيئة المتحولة التي اختبرها أولئك الأميركيون الأوائل جدّاً، الذين عاشوا في الكهف.

ولا تقتصر أهمية هذا الاكتشاف الآثاري الجديد في كونه يزيد على نحو مذهل، في امتداد قصة الحضارة البشرية في أميركا وحدها. إذ إن أهميته تشمل أيضاً أمر تبديله المطلق للسياقات المناخية والثقافية التي استوطن البشر الأوائل العالمَ الجديد في ظلها. فقبل الاكتشاف المكسيكي هذا، اعتُقِدَ أن الموقع الأقدم المثبت للبشر في الأميركتين، يقع في منطقة "غولت" بولاية تكساس (موقع تخييم مفتوح يعود إلى 19 ألف سنة قبل الميلاد، في أثناء ذروة العصر الجليدي).

وفي المقابل، اتضح أن البشر سكنوا الموقع المكتشف الآن في وسط المكسيك، قبل زمن طويل من الحقبة التي بلغ فيها مناخ العالم مرحلته الأكثر برودة (ولذا، من الجائز أن يكون الاستيطان البشري الأول للأميركتين حصل في فترة سبقت ذلك العصر الجليدي، بفاصل زمني دافئ نسبياً، وليس في مرحلة بالغة الصقيع، كما يُفترض حتى الآن).

كذلك يزكِّي الاكتشاف الآثاري الجديد الاحتمال المثير للاهتمام القائل إن نوعنا البشري، الـ"هوموسيبيان" (= "الإنسان العاقل")، وصل أولاً إلى الأميركتين في وقت متزامن تقريباً مع وصوله إلى بريطانيا وباقي أنحاء غرب أوروبا، أو في وقت قصير بعد ذلك. وحتى الآن، ساد اعتقاد عام بأن الاستيطان البشري الأول في الأميركتين حصل بعد فترة تتراوح بين 20 ألف سنة و40 ألف سنة، من انتشار البشر في باقي أنحاء الكوكب. هذا الاعتقاد الذي ساد طويلاً، يجري التخلص منه اليوم. ويستدعي الأمر إعادة كتابة التاريخ.

© The Independent

المزيد من علوم