Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بطلة نهلة كرم في رحلة بحث عن الحب المستحيل

رواية "المقاعد الخلفية" تغوص في الصراع الداخلي الذي تعيشه المرأة العربية

حب وموسيقى في لوحة للرسام الفرنسية بن حاروش (موقع الرسامة)

أكدت الكاتبة المصرية نهلة كرم موهبتها في السرد من خلال مجموعتي "أن تكون معلقاً في الهواء"، و"الموت يريد أن أقبل اعتذاره"، ورواية "على فراش فرويد". ويبدو أن فرويد الذى ظهر فى عنوان هذه الرواية ظل يلقي بظلاله في الرواية الثانية لكرم "المقاعد الخلفية" (الدار المصرية اللبنانية- القاهرة) ما يعكس اهتمامها بعالَم "النفس" وعقدها ورغباتها المكبوتة ونوازعها المتباينة. وعنوان "المقاعد الخلفية"، يوحي مبدئياً بمحاولات الاختباء والعيش في الظلام أو ما يشبهه. وبطلة هذه الرواية التي بلغت الخامسة والعشرين من عمرها، لا تزال أسيرة قصة حب موهوم عاشتها مع أحد أساتذتها عندما كانت في الرابعة عشرة. هذه العلاقة التي تتم في الظلام دائماً أو في المقاعد الخلفية، ظلَّت تلون رؤية الساردة للعلاقة بين الرجل والمرأة في ما يشبه العقدة التي لم تستطع تجاوزها على الرغم من مضي كل هذه السنوات.

ويلخص رامي – حبيبها وزوجها المنتظر – هذه العقدة بقوله: "أنت أسيرة فترة مراهقة مرَّ بها كثيرون وتجاوزوها". هذه العلاقة غير السوية، ليست وحدها المسؤولة عن عقدة الساردة؛ لأننا مع هذا النص أمام مجتمع مأزوم بأمراضه ومشكلاته الأسرية، الأمر الذي جعل علاقات الساردة غير مكتملة دائماً ولا تصل أبداً إلى نهاياتها الطبيعية، وهو ما جعل السرد لاهثاً بإيقاعاته السريعة وإشباع توقعات المتلقي الذي أصبح عالماً بردود فعل الساردة التي أصبحت تجمع بين المتناقضات: "الفرح بدخول علاقة جديدة، ثم الخوف من التورط فيها بشكل جدي، ثم الهروب منها للبدء من جديد"؛ وكأننا أمام دائرة مغلقة ولكن عبر جماليات سرد مفتوح غير تقليدي. فحركة السرد "بندولية"؛ تعود دائماً إلى نقطة البداية.

وهكذا تستمر الساردة ما بين إنهاء علاقة واستئناف أخرى، وهو أمر تشاركها فيه "منة" أقرب صديقاتها إليها ولا يرجع ذلك إلى عقدة نفسية بقدر رجوعه إلى انفصال والديها. أما "ريهام"؛ الصديقة التى تزوَّجت سريعاً فقد ظلت أسيرة بيت الزوجية وأصبح زوجها أقرب إلى الحارس الذي يرصد خطواتها وهو ما جعل "سارة"؛ بطلة الرواية أو ساردتها، تنظر إلى زواج صديقاتها وكأنه خبر "نعي"، متمنية لو بقينَ من دون زواج. ولأننا أمام سرد مفتوح فهو قائم على التداعي الحر واستدعاء الماضي من خلال مثيرات الحاضر، فخطبة إحدى صديقاتها، تذكرها بيوم الخميس الذي كانت تكرهه حين يصبح رأسها مكشوفاً لأسئلة المدرسين بما أنه يشهد غياب كثير من الطالبات.

صراع متناقض

يقوم السرد في مواضع كثيرة على ما يمكن أن نسميه الدراما النفسية والصراع بين عاطفتين متناقضتين. فـ"سارة"، مثلاً، ظلت مُجبَرة على افتعال الفرح فى خطبة "ريهام"، على الرغم من توترها مِن وجود حبيبها الذي أنهت علاقتها به حين تقول: "لا أصدق أن غداً خِطبة ريهام ولا أصدق أنني سأجتمع مرة أخرى مع محمود في مكان واحد؛ هذا الذي هدَّدني في المرة الأخيرة بأنه سيفضح ما كان بيننا لدى أهلي وقال لي مئات المرات إنه يكرهني". يقال إن الحب ليس غالباً، علاقة ثنائية، فهناك غريم أو طرف ثالث، فـ"ريهام" التي ارتبطت بـ"حازم" ظلَّت مطاردَة مِن "مصطفى"، و"سارة" ظلت مطاردَة بذكرى قصة المراهقة مع "مستر علي"، الذي كان أقرب إلى الشبح الذي أفسد كل علاقاتها اللاحقة، و"آية" – صديقة "سارة" وزميلتها في العمل – تقيم علاقة مع "مروان" على الرغم من خِطبته فتاة أخرى، ما يجعلنا دائماً أمام شخصيات قلِقة وعلاقات غير سوية. تقول "سارة" في منولوغ طويل توصيفاً لهذه الحالة: "أنتِ متعجلة دوماً لتجربة جديدة. حسناً؛ أنا روحك التي أرهقتِها ببداياتك المتعددة. أنتِ لا تصلحين للحب أبداً. ستظلين طوال عمرك تبحثين عن الحب حتى تجديه وبعدها تسعين نحو التجديد حتى تضيعيه". وهكذا تظل "سارة" باحثة عن ذلك "الحب المُربِك" الذي كانت واقعة فيه مع "مستر علي"؛ هذا الحب الأبوي الذي تتخلله بعض الرومانسية. بهذه الاعتبارات تظل "سارة" تعيش خيالاتها وأوهامها أكثر من حياتها الحقيقية، فهى مجذوبة دائماً إلى الماضي وتود أن يكون الحاضر امتداداً له.

ليس من الوارد أن أذهب إلى أن هذه الرواية سيرة ذاتية وأن الكاتبة اتخذت من "سارة" مجرد قناع لها، وذلك لأن الرواية مجموعة من الخطابات ولكل خطاب حكاية تدور حول إحدى الشخصيات. على أن اللافت فى بنية هذه الخطابات هو دمج الحوار داخل السرد استجابة للإيقاع السريع الذي يمتاز به. ولنتأمل هذا الحوار بين "سارة" و"آية": "لا أريد أن أكمل مع محمود يا آية. لماذا؟ محمود طيب. ليست المشكلة في أنه شرير، هو لا يقرأ ويكتب بصورة خاطئة طوال الوقت. لا يمكن أن يكون هذا سبباً منطقياً لتتركي رجلاً. هذا سبب كبير. رأسه فارغة تماماً من أية معلومات والكتابة الخاطئة تزيل من داخلي أي شعور بالحب تجاهه". وهو حوار يدل على شخصية "سارة" التي تربَّت مشاعرها على التعلق برجل مثقف. وهذا ما تحقق بالفعل بعد ارتباطها بـ"رامي"؛ أستاذ الجامعة.

مونولوغ وصوتان

ويعد المونولوغ سمة فنية رئيسة؛ إذ اعتمدت الكاتبة عليه بصورة كبيرة مقارنة بالوصف على سبيل المثال. والملاحظ أن هذا المونولوغ يضعنا أمام صوتين متناقضين، في ما يشبه الإقرار والنفي. تقول "سارة": "تأتيني صورة رامي وهو جالس يتكلم. أفكر في أن الشغف ينتهي لأنه لم يكن مع أشخاص مناسبين، لكن مع شخص مثل رامي سيكون دوماً هناك شغف لأن حديثه لن يكون مملاً أبداً. هراء يا سارة. لا يمكنك التفكير في هذا مِن الأساس. يرجعني صوتٌ مِن أعماق نفسي إلى عقلي قبل أن يستفزني منظرُ يدين متشابكتين داخل كافيه". ومن الواضح انقسام السرد على نفسه في هذا الشاهد؛ عندما يتدخل هذا الصوت الداخلي واصفاً تفكير "سارة" بالهراء، ثم تأتي الالتفاتة الأخيرة في ذلك المثير الخارجي الذي يتمثل في "منظر يدين متشابكتين".

وإذا كان المونولوغ صوتاً داخلياً يخضع غالباً لمنطق التداعي، فإن الرسالة – وهذه تقنية أخرى – تحمل درجة عالية من الوعي والتأمل ومَنطَقَة الأفكار. وهكذا تجرد الساردة من نفسها ذاتاً أخرى تخاطبها على هذا النحو: "إلى سارة... ما الشيء المختلف الذي يجذبك في هذا العابر؟ أياً كان هذا الشيء سيتحول بمرور الوقت إلى شيء معتاد تملّينه وتفكرين كيف تنهين ما بينكما لتبحثي عن جديد يبث الحياة فيك". إننا أمام ذات تتأمل نفسها وتعي أزماتها ولا شك في أن هذه الصراعات الداخلية والخارجية تنأى بالسرد عن أحاديته بحيث لا يغدو مجرد تعبير عن تجارب عاطفية محبطة. كما تمكن الإشارة؛ إضافة إلى ما سبق، إلى اعتماد الكاتبة على آلية التضمين سواء من روايات سابقة مثل "وحدها شجرة الرمان" التي تقتبس منها ما يتوازى مع إحباطاتها وأزماتها، أو مِن كتاب "غرام الفراعنة" الذي يحكي فى جزء منه غرام أمنحتب وزوجته "تادوخيبا"، أو قصة حب المعتمد بن عباد لزوجته اعتماد البرمكية. كما توظف الكاتبة تقنية الحلم حين تصور نفسها في ما تسميه "قطار الموت" الذي ظل يرتفع حتى استطاعت الهروب منه باحثة عن لعبة لا يموت فيها أحدٌ. وهي حالة أقرب إلى الكابوس الذي لا يفقد علاقته بالواقع، وربما رجع ذلك أيضاً إلى أن الساردة تعيش خيالها أكثر من واقعها حين تقول: "تريدين البداية فحسب من كل شيء لكن تفكيرك هذا ساذج جداً. ليس منطقياً أن نتخيل الأشياء فقط ونخشى أن نقترب منها". وتحفل الرواية بالإشارة إلى أعمال الدجل والاعتقاد في السحر والإيمان بالصفات المختلفة للأبراج وربما كان اقتراح عمل فيلم وثائقي عن "الكراكيب"، معبراً عن احتفاظ كثير من الناس بكل ما ينتمي إلى الماضي الذي مثَّل – في مستوى آخر – أزمة الساردة التي واجهتها بفقدان جزئي لذاكرتها أو لكل ما يعيق خطواتها.

المزيد من ثقافة