Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غالسورثي يرصد بريطانيا الحديثة في "ملحمة آل فورسايث"

حكاية عائلة وانهيارها أم الإمبراطورية وتفكّكها؟

من اقتباس تلفزيوني من إنتاج البي بي سي لحكاية "آل فورسايث" (موقع بي بي سي)

في نهاية الأمر قد يكون كاتبنا العربي الكبير نجيب محفوظ كتب ثلاثيته الروائية الكبرى، انطلاقاً من قراءته عدداً من الروايات الأوروبية الملحمية الكبرى مثل "آل بودنبروك" لتوماس مان و"ساغا آل فورسايث" لجون غالسورثي، بمعنى أنه رسم صورة لحياة عائلة مصرية تمتد طوال جيل وأكثر خلال النصف الأول من القرن العشرين، تماماً كما رسم مان صورة عائلة ألمانية وغالسورثي صورة عائلة إنجليزية. غير أن هذا لا يعني تأثراً، ولا محاكاةً ولا أي شيء من هذا القبيل، تماماً كما يمكن لكاتب حكاية "السندباد البحري" أن يكون كتبها انطلاقاً من قراءته حكاية يوليسيس مثلاً. "ثلاثية" محفوظ تنتمي كلياً إلى محفوظ والمجتمع المصري، تماماً كما أن ثلاثية مان تنتمي إلى مان وملحمة غالسورثي تنتمي إليه وإلى مجتمعه. وفي ظننا أن أي سجال حول هذا الموضوع يجب أن يتوقف هنا. وبالتالي سيكون من المفيد الانتقال للحديث عن "ساغا آل فورسايث" في معزل عن ذلك التهافت القائم على الغمز المغرض من طرف محفوظ وتحفته النادرة في الأدب العربي.

النقاد الظالمون

ولعل أول ما قد ينبغي قوله بصدد جون غالسورثي الذي رحل في العام 1933، بعد شهرين فقط من حصوله على جائزة نوبل الأدبية، أنه اعتبر وهو في أيامه الأخيرة أن حصوله على تلك الجائزة إنما أتى تعويضاً عن تجاهل النقاد واحتقارهم إنتاجه الأدبي. فالحقيقة أن النقاد الإنجلوساكسونيين اعتبروا معظم روايات غالسورثي، وكذلك العدد الأكبر من مسرحياته، مجرد "بيانات اجتماعية" تنتمي إلى أزمان ساحقة و"لم تعد تتلاءم كثيراً مع حداثة القرن العشرين". وغالسورثي نفسه كان يرى، على أي حال، أنه ينتمي إلى القرن التاسع عشر أكثر من انتمائه إلى القرن العشرين. ومع هذا، لن يفوتنا إذ نقرأ رواياته العديدة وقصصه ومسرحياته، أن نلاحظ كم أنه حديث وصاخب في وقوفه ضد الظلم وضد اكتظاظ المدن بالموبقات والسكان والتلوث، وفاضح لهذا التفاوت الطبقي الذي ينبني على أساس الملل، وضد الانهيار الحضاري الذي نتج من حلول بورجوازيات المدن الطفيلية مكان الإرستقراطيات القديمة. وهي كلها مواضيع شكلت طوال القرن العشرين، محاور أروع القطع الأدبية والأفلام السينمائية، وصولاً إلى فيسكونتي وجيمس إيفوري بين آخرين.

ومن المؤكد أن ما نقوله هنا عن أدب غالسورثي بصورة عامة، يكاد يجد كل قوته مكثفة في ذلك الأثر الأدبي الكبير، والكبير بالمعنيين: الحجم والقيمة الفنية، الذي كانته "الساغا" التي نتحدث عنها، ولا تزال. وربما سيكون من المفيد أن نذكّر بأن نحو خمسة عشر عاماً (بين 1906 و1921) كانت الفترة الزمنية التي احتاجها غالسورثي لإنجاز تلك الرواية الطويلة التي نشرها على حلقات كما جرت العادة في ذلك الزمن وقبل أن تصدر في كتاب ذات أجزاء.

فضائل الأجيال المتعاقبة ورذائلها

وتتابع الرواية في أجزائها العديدة حياة وفضائل ورذائل أجيال متعاقبة من تلك العائلة التي تنتمي إلى الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة البريطانية، والتي يرى كثر من النقاد والمؤرخين أنها شديدة الشبه بعائلة غالسورثي نفسه، حتى وإن مال كثر من الباحثين إلى إيجاد نقاط تشابه بين رواية غالسورثي وسلسلة "روغون ماكار" للفرنسي إميل زولا، من حيث وجود نوع من الانفصال بين الحلقات المتعددة للحكاية وصدور أجزاء مستقلة تحمل عناوين قائمة بذاتها مثل "نساء آل فورسايث"، وهذا الأخير هو على أية حال عنوان اقتباس سينمائي جزئي من أحد أجزاء الرواية خيض في هوليوود عام 1949 من تمثيل آيرول فلين وغرير غارسون. أما الكتب الأساسية المتعددة التي وُزعت عليها تلك السلسلة التفصيلية من حياة العائلة فحملت عناوين مثل "صاحب الملكية" (1906) والمعني به طبعاً سومس فورسايث الذي كان أول من نقل العائلة وإرثها إلى حال بورجوازية مدينية تماشياً مع ما كان يحدث في بريطانيا نفسها من نزوح الموسرين من الأرياف إلى المدن ومن الحالة الأرستقراطية إلى الحالة البورجوازية المدينية؛ وتلى ذلك جزء يحمل عنوان "صيف فورسايث الهندي" (1918) تابع حكاية العلاقة بين الحسناء إيرين وأولد جويلون فورسايث سليل العائلة ووريثها الآن، والذي سيشهد الجزء رحيله تاركاً لإيرين إرثاً إنما تحت وصاية يانغ جوليون الذي سيحل محله في زعامة العائلة وإدارة الأملاك.

وفي الجزء التالي "في المستشارية" الذي صدر عام 1920، نتابع الحكايات المتمحورة هذه المرة من حول الصراعات العائلية الضيقة والتي ستنتهي بمجموعة من الطلاقات واللقاءات في تداخل مع الشؤون السياسية التي كانت قد بدأت تحدّد مستقبل الإمبراطورية البريطانية نفسها بالتوازي مع مستقبل السلالة. ويتواصل هذا التوازي حتى نصل إلى الجزء الأخير والمعنون "للإيجار" (1921) والذي ينطلق من لقاء ابن العم جون فورسايث وابنة عمه فلور وغرامهما الذي يريدان منه أن ينجح، في حد ذاته، بل حتى في إعادة بناء الأواصر العائلية من جديد بعدما كانت تحطمت وتقطعت في الأجزاء السابقة. ولكن هل كان ذلك ممكناً في وضعية كانت الطبقات الإنجليزية نفسها تتفكك وتنزاح صعوداً وهبوطاً على ضوء انهيار الإمبراطورية؟ ذلك هو في الحقيقة السؤال الأساسي الذي يطرحه غالسورثي، ليس في ختام ملحمته هذه فقط، وإنما في مسار الرواية ككل، كسؤال كان وظل يؤرقه حتى النهاية.

كراهية مبكرة للظلم

ولد جون غالسورثي في العام 1867 وتلقى دراساته في هارلو، وفي "الكلية الجديدة" بجامعة أوكسفورد، وكان بوده أول الأمر أن يصبح محامياً، وذلك انطلاقاً من نزعة اجتماعية لديه دفعته إلى كراهية الظلم باكراً. غير أن لقاءه المبكر مع جوزف كونراد دفعه في اتجاه الأدب، وإن بقيت لديه من دراساته القانونية ملامح وأبعاد (بما فيها عداء جمودية القوانين) ظلت ترافقه طوال حياته وانعكست في أدبه. أما عمله الأدبي الحقيقي فقد بدأ في العام 1900 حيث تشارك في الكتابة مع زميله غارنت، ثم بدأ ينشر - تباعاً - تلك القصص والروايات التي ستؤلف لاحقاً "ملحمة آل فورسايث"، ومع ذلك فإنه منذ نهايات القرن التاسع عشر، كان قد أصدر مجموعة قصصية بعنوان "من الرياح الأربعة" (1897) كما أصدر في العام 1898 روايته الأولى "جوسلين". وغالسورثي اعتاد على أي حال أن يضع تلك الأعمال الأولى في خانة البدايات التدريبية، والتجارب التي ستقوده إلى أدبه الكبير، الذي ركز فيه على النتائج التي يؤثر فيها الفقر في أخلاق الناس وحياتهم، وكان أوله مجموعة قصصية بعنوان "رجل ديفون".

أما المجموعة الأولى من مجموعات أسرة آل فورسايث فلم تظهر إلا في 1906 وكان عنوانها "رجل الملكية"، ومنذ ذلك الحين لم يكفّ عن إصدار أجزاء الملحمة تباعاً حتى اكتمل قسمها الأول في العام 1922 تحت عنوان عام هو "ملحمة آل فورسايث" أما القسم الثاني وحمل عنوان "ملهاة حديثة" فقد ظهر في 1929، جامعاً روايات وأجزاء كانت قد نشرت متفرقة في تلك الآونة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والمسرح لمهاجمة نظام السجون

وغالسورثي، في الوقت نفسه بدأ يكتب مسرحيات اجتماعية ناقمة، أولها مسرحية "ظمأ" في العام 1909، ثم تتالت مسرحياته وأبرزها في ذلك الحين مسرحية "العدالة" التي هاجم فيها نظام السجن الانفرادي وأثارت اهتمام وزارة الدخلية، ثم مسرحية "لعبة الجلد" التي حلّل فيها الصراع بين صناعي محدث الثراء وأرستقراطي عريق.

عندما رحل جون غالسورثي خلّف وراءه العديد من الأعمال، ومن بينها نص ملحمة أخرى، كتبها على غرار "ملحمة آل فورسايث" بعنوان "عبر النهر" تتابع مغامرات وحياة ومآسي أسرة تشارولز، وهي أسرة تتألف من أبناء عم للجيل الأخير من أسرة آل فورسايث.

 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة