مع دخول الاحتجاجات المطالبة برحيل نظام الحكم في السودان، وإسقاط حكم الرئيس عمر البشير الذي وصل إلى سدة الحكم بانقلاب عسكري في يونيو (حزيران) 1989، شهرها الرابع، خرجت بعض الأصوات الناقدة للتنظيمات والكيانات التي تقود الاحتجاجات في البلاد.
ولم يأخذ هذا النقد جانباً تنظيمياً أو متعلقاً بآليات تحريك المحتجين، إنما حمل طابعاً أيديولوجياً. إذ أُنتقد النهج الإقصائي الذي تمارسة القوى السياسية والكيانات المدنية المحتجة تجاه تيار واحد، أي الإسلاميين.
الحكومة تحذّر
أقرت الحكومة السودانية بأن الاحتجاجات التي اندلعت في غالبية مدن البلاد كانت لها مبررات منطقية، وهي مرتبطة بدعوات إلى إصلاح مشكلات وأزمات اقتصادية أصابت فئات كبيرة من المجتمع. وبرز هذا الإعتراف أكثر من مرة على لسان مسؤولين سودانيين رفيعي المستوى، على رأسهم الرئيس البشير. لكن الحكومة اتجهت بعدها إلى القول إن المحتجين حادوا عن مطالبهم المشروعة وإن الاحتجاجات أُختطفت من قوى سياسية لها أجندات إقصائية.
وباستمرار موجة الاحتجاج وجهت تنظيمات إسلامية أخرى، مشاركة في الحكومة وأخرى معارضة، انتقادات إلى المعارضة التي تقود التظاهرات، التي غالباً ما توصف بالقوى اليسارية أو "الشيوعية".
هتافات المحتجين
كل من يتهمون المحتجين بأنهم إقصائيون يستندون إلى واحد من أهم الشعارات، التي يرددها المتظاهرون في السودان، وهو "أي كوز ندوسة دوس"، و"الكوز" هو الكأس التي يُشرب بها الماء، وفي السياسة السودانية يقصد به الإسلامي، وهي تسمية تعود إلى المفكر الإسلامي الراحل حسن الترابي، الذي وصف أعضاء الحركة الإسلامية السودانية بأنهم "الكيزان"، ليتحول المصطلح بمرور الوقت إلى صفة تلازم كل المنتمين إلى الاتجاه الإسلامي بغض النظر عن تسمياتهم التنظيمية. وتطلق في السودان على أعضاء حزب المؤتمر الوطني الحاكم، والمؤتمر الشعبي الذي أسسه الترابي بعد خلافه مع البشير في مطلع الألفية الحالية. أما الشق الثاني من الهتاف "ندوسه دوس" فلا يقصد به غير سحقهم جميعاً، أي "الكيزان" أو الإسلاميين.
وطوال فترة الاحتجاجات في البلاد، يردد السودانيون هتافين رئيسين إلى جانب الهتافين السابقين "حرية سلام وعدالة... الثورة خيار الشعب" و"سلمية سلمية، ضد الحرامية".
صوت هامشي
يقول وائل علي، الناشط السياسي المحسوب على التيار الإسلامي، إنه "من الطبيعي أن تكون هناك دعوات إلى إقصاء الإسلاميين في التظاهرات التي تجتاح البلاد هذه الأيام، وذلك لأن نظام الحكم محسوب على التيار الإسلامي. لكن هذا الصوت الاقصائي لا يعبّر عن الصوت الرئيس في الاحتجاجات، ومسألة إقصاء الإسلاميين عن العمل السياسي ليست مسألة سهلة، خصوصاً أنهم متجذرون في الحياة السياسية السودانية".
ويقر علي بأن "هناك دعوات إلى الإقصاء، وأن أصحابها استعجلوا جداً إعلانها حتى قبل نجاح الاحتجاجات في تغيير النظام". وأضاف "كان يمكن تفهم عملية اقصاء بعض الإسلاميين باعتبارهم جزءاً من الحزب الحاكم، الذي قامت ضده الانتفاضة، إن نجحت".
ويرى علي أن "عملية إبعاد الإسلاميين تحتاج إلى ما هو أكبر من الإنتفاضة الاحتجاجية التي يشهدها السودان، وتحتاج إلى تدخل دولي عسكري، يشبه ما حصل تجاه حركة طالبان في أفغانستان. وهذا التدخل لن يتم في الوقت القريب أو المتوسط، ونتائجه قد لا تكون ناجحة".
وفي إطار إنجاح التظاهرات للوصول إلى إسقاط نظام الحكم، يشير عدد من المراقبين المحليين إلى ضرورة استقطاب عناصر من رموز النظام الحالي إلى خط التظاهر، وتقديم ضمانات لهم بعدم تعرضهم لحملات عقابية متوقعة.
في هذا الصدد، يقول علي "لإسقاط نظام البشير نحتاج إلى دفعة من قبل الإسلاميين الذين يمسك بعضهم بمفاصل الدولة. وهذا الدعم لن يأتي في ظل دعوات الإقصاء، ونلاحظ ذلك من خلال دعوات العصيان المدني التي ينجح فيها العاملون في القطاع الخاص، لكنها لا تجد قبولاً أو تنفذ بمحدودية داخل أجهزة الدولة".
ويؤكد أن "دعوات الاقصاء لا تنتج ديمقراطية مستقرة، بل بلداً ضعيفاً وحالة من عدم الاستقرار شبيهة بالتجربة الليبية، التي أنتجت حرباً أهلية وديكتاتورية كاملة الدسم، وإقصاء الإسلاميين في السودان يمكن وصفه بأنه محاولة من بعض القوى السياسية لمغازلة دول إقليمية، وهي لا تدرك أن هذه الدول الإقليمية تفكر بشكل مختلف وأن خططها قد تمضي لسيناريو آخر، غير الذي يتمنونه".
مخاوف من المحاسبة
يقدم المحلل السياسي الجميل الفاضل تفسيراً مختلفاً لتصريحات الإسلاميين، مشيراً إلى أن "حالة الفزع والخوف من الإقصاء ناتجة من معرفة الإسلاميين الدقيقة لما فعلوه خلال ثلاثة عقود، ويتخوفون من رد الفعل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير الفاضل إلى أن العقود الثلاثة الماضية "شهدت نهجاً إقصائياً مكرساً من قبل الحاكمين، تمثل في حظر نشاط الأحزاب والقوى السياسية وحلها وإغلاق الصحف واحتكار الوظائف العامة وإحالة من يملكون رأياً مخالفاً إلى التقاعد".
ويضيف "تلك الحالة من الإحساس بالإقصاء ليست صحيحة، فالمعارضة لا ترفض إشراكهم في العمل العام، ولم تعلن حتى الآن في جميع مواثيقها رغبتها في العزل السياسي لأحزاب إسلامية، ولا يمكن تصور أن يشهد السودان تجربة مشابهة لما حصل في العراق بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين، أو ما عرف باِجتثاث البعث".
ويعتبر أن الحزب الحاكم أو المؤتمر الوطني يعلم أن فرص وجوده ما بعد تغيير النظام ضعيفة، لذلك يتجه إلى تقديم تلك الحجج.
نداء السودان يطمئن
قال تحالف نداء السودان المعارض، في بيانه الختامي، عقب اجتماعات له في العاصمة الفرنسية باريس، استمرت ثلاثة أيام واختتمت يوم الأربعاء 20 مارس (آذار)، إن "اجتماعاته ناقشت قضية الموقف من الإسلاميين الراغبين في الحرية والتغيير والديمقراطية والمحاسبة والمنشقين عن النظام"، وأكدوا أن "الثورة لا تحمل أجندة إقصائية بل هي ضد الاقصاء والشمولية في المقام الأول وأن بناء الوطن في المستقبل يتطلب تضافر جميع جهود أبنائه وبناته، وأن الثورة لن تعمل على إقصاء أي شخص أو جماعة، لكنها لا تمنح حصانة لكل من أجرم وأفسد في حق الشعب".
وتابع البيان "الشارع يتسع للجميع وفق إعلان الحرية والتغيير، وعلى من يلتفون حول النظام الآن أن ينفضوا أيديهم عنه وينحازوا لمطالب الشعب الراغب في التغيير".
ويمثل إعلان الحرية والتغيير الذي طرحه "تجمع المهنيين السودانيين" مطلع العام الحالي، ميثاق الثورة، ووقعت عليه ثلاثة تحالفات سياسية معارضة هي نداء السودان وقوى الإجماع الوطني والتجمع الاتحادي.
ويعتبر الكاتب الصحفي أنور سليمان أن "الخطاب الحكومي والإعلامي الموالي للنظام الذي يتحدث عن وجود نهج اقصائي ما هو إلا محاولات للعودة إلى دائرة الفعل، بعدما أصبح الشارع هو المبادر الأول". ويشير إلى أن "الاهتمام به والتركيز عليه يشتتانجهود المحتجين ولا يخدمان سوى النظام الذي يبحث عن متعاطفين معه في هذه المرحلة، ببث شكوى لا وجود لها على أرض الواقع".