Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشاعر المغربي محمد الأشعرى يطارد الأشياء الهاربة

مختارات من شعره صدرت في القاهرة والجدار والعبور سمتان بارزتان في عالمه

رؤية مغربية... لوحة للرسام فريد بلكاهية (يوتيوب)

ينتمي الشاعر المغربي محمد الأشعري إلى جيل تمرَّد على تراثه القريب وخلق جماليات مغايرة لما هو سائد ومستقر. ويتركز مشروع الأشعري الأدبي في الشعر الذى أصدر فيه عدداً لافتاً من الدواوين، منها: "صهيل الخيل الجريحة"، "حكايات صخرية"، "يباب لا يقتل أحداً"، "مائيات"، "سرير لعزلة السنبلة"، "سيرة المطر"، "عينان بسعة الحلم". ويلاحظ تكرار بعض هذه العناوين في المنتخبات الشعرية التي صدرت حديثاً للشاعر عن دار "بتانة" في القاهرة، بالإضافة إلى عناوين جديدة مثل "جمرة قرب عش الكلمات"، و"أجنحة بيضاء في قدميها". والملاحظة الواضحة في جماليات الأشعري هي أنه يكاد يفكر، في بناء الصورة الشعرية، بشكل جمعي لا يفرق بين الإنساني والطبيعي والحقيقي والخيالي؛ بل يدمج كل هذا في وحدة شعرية مبدعة. ومن هنا تتردد الدوال المنتمية إلى حقل الطبيعة مثل: الصحراء، الغابة، الينابيع، البحر، السماء، الأشجار، الحجر، الليل، النهار، وكذلك المنتمية إلى معالم المكان مثل: المدن، الأزقة، السور، الميناء، الشوارع؛ من دون فصل حاد بين الحقلين.

ذات الشاعر

لكن هذه الدوال ليست بعيدة عن ذات الشاعر، إذ إنه يحسها أو يعيدها داخله، ويظهر ذلك في موضوعة المدينة. ففي "سور وملامح" كان يكفي الشاعر أن يضع "سوراً" على خريطة المدينة من دون أن يطلب منها سماءً يوزعها على جيوب معطفه، لكن مع تطور أزمات الشاعر مع مدينته يضطر للهروب إلى مدينة أخرى بعد أن يعيد السور إلى داخله؛ يقول: "ها هى الحانة تطردني/ والمرأة التي انتظرتها تحت مطر غزير/ لم تعد/ لم تجد شيئاً تنقذنى به/ سوى أن تهجرني في منتصف الحكاية/ وها أنا مضطرٌ إلى إعادة السور إلى دواخلي/ لأهرب ثقيلاً/ إلى مدينة أخرى". السور وحده – رمز العزلة وتقييد الحركة – هو الذي يلازم الشاعر أينما حلَّ، وكأنه يعيد إنتاج المدينة التي هرب منها مادام غير قادر على هدم هذا السور داخله؛ أولاً لكي يستطيع تجاوزه في الواقع.

وتبدو الأنثى على إطلاقها أو بحمولاتها المختلفة هى سبيل هذا التجاوز. الأنثى التى تنبثق فجأة كأنها العطاء غير المنتظر في "زحام الأزمنة". عندئذ تظهر تلك "البقعة الخضراء" التي تبدو مثل أمل واهن صغير وبعيد، ومع ذلك تصبح "جذوراً وأجنحة" تتشبث بالأرض وتحلق في السماء. وهكذا تخلق هذه البقعة الخضراء، التي يحملها الشاعر أيضاً داخله، مع دال "السور" مفارقة تزيد من حِدة الصراع داخل القصيدة. وكما ظهرت هذه البقعة في البداية "بعيدة لأنها صغيرة جداً/ أو صغيرة جداً لأنها بعيدة"، يظهر نبض الحياة – وسط هذا الفراغ – ضعيفاً يسمعه الشاعر في الشجر والنبع والخضرة ويراه مثل "ماء بعيد" يتجاوب – رغم التناقض الظاهري – مع "الجمر" الذي يحرص الشاعر على وضعه "قرب عش الكلمات". فإذا كان الماء هو رمز الحياة، فإن الجمر هو رمز توهجها الدائم. هذه الحالات المتقابلة والمتوازية تجعل من العبور تيمة رئيسة في هذه المنتخبات حين يقول: "إنني أعبر هجيراً/ يعبره نهر/ تعبره عربات/ تحت مطر غزير/ يعبر ذاكرتي/ وأدنو مِن نبضٍ يكاد يكون وجيباً/ أو كلمات بلا صوت/ تعبر شفاهاً/ محفورة في حَجرٍ شريد".

الحياة مسعى القصيدة

ومن الواضح تكرار دال العبور خمس مرات في هذه السطور القليلة. إنه العبور إلى ذلك النبض البعيد الغامض والذي يبدو وكأنه مسعى القصيدة أو مسعى الحياة ذاتها. وفي هذا السياق يرسم الشاعر ما يمكن أن نصفه بالمدينة الحلم التي يقترب من أبوابها فيرى – أو يشم – "الشذى وظل السور/ وشجرة التين الوحيدة/ والكلمات التي ينثرها الناس على الحجارة"؛ حتى يصل إلى ذلك "النهر" الذي يفصله عن القصيدة ويوصله بها في الوقت ذاته. يقول: "هذا هو النهر/ الذي يفصلني عن القصيدة/ ألمسه/ فتغمرني عذوبة الأبواب". ومن الواضح أن الشاعر لا يبدأ مِن اللغة فحسب بوصفها "بيت العالم"، بل يبدأ مِن الأشياء بوصفها مثيراً أولياً، لكنه يتمنى لو رآها بعيدةً عن اللغة التي تأسرنا وتخلع عليها تصوراتها، كما يود لغة متحررة من محدودية الأشياء. وهنا تبدو ثنائية "الأشياء والكلمات" غير محلولة. يقول: "أنا أبحث عن أشياء بلا كلمات/ وعن كلمات بلا أشياء/ كلما ارتبتُ في لغة/ عرفتُ أنها لي/ أحب تربة الشك التي تنبت أقاحي بكماء/ وكلمات تسقط يابسة على القصائد".

هذه الأشياء الصامتة التي بلا أسماء تستدعي دال الصمت العظيم الذي يحسه الشاعر في حضرة الطبيعة؛ حيث يسمع ما لا يسمعه غيره بعد أن اختارته المجرَّة "لاستقبال نشيدها الأبدي"، مقبلاً على "مملكة الصمت العظيمة/ ممتلئاً بقداسات عارمة/ ومشتبكاً بالسيول". واللافت أن المعجزات القديمة تأتي في صورة مغايرة، فالطوفان – مثلاً – لا يأتي ماؤه الذي يقضي على العالم القديم الفاسد مؤسساً لعالم خير جديد، بل يأتي هديره وحده؛ "ممتلئاً بأجنحة الموتى/ ويغرس خطوه كجسور معلقة بين السماء والأرض". ثم يأتى ذكر النبي يونس حين يشبه الشاعر نفسه بعِظام الحوت الذى التقمه أو حين يلبس قناعه، كما يبدو في قوله: "أنا أيضاً التقمني الحوت/ وإلا كيف لا أجد الطريق/ بعد ليل طويل من المشي في أثر الحكاية".

رمز السندباد

تستدعي تيمة العبور أو السفر شخصية السندباد حين يقول الأشعري: "الحجر الذي اقتعدتُه/ بعيداً عن سراب القوافل/ لم يكن حجراً/ كان جزيرة أو حوتاً/ أو سفينة الرحلة الأخيرة/ ما أكثر ما يدور في خاطر السندباد". وفي قصيدة "مجرد استحالة" يبدو الشاعر مهموماً باستعادة الماضي والحنين إليه ومطاردة أشيائه الهاربة، وهو ما يتوازى مع تلك التوظيفات التراثية المشار إليها؛ يقول: "شىء ما أحاول استرجاعه لا يطاوعني/ أحياناً يكون صوت امرأة/ وأحياناً يكون صوت اشتعال حطب/ مرات يكون عزفاً أو انهمار ماء/ أو صوت ريح في شجر/ ومرات يكون صوت مفاتيح تغلق باباً أو تفتحه/ ودائماً يكون شيئاً لا يطاوعني". إن الأشياء هنا هي مجرد تفاصيل حميمة لكنها تستعصي على الشاعر ولا يرجع ذلك لذهابها النهائي بل لكونها جزءاً من حياته التي لا يستطيع استعادتها.

ولعلنا نلاحظ أن "صوت المرأة" هو أول ما يلح على ذاكرة الشاعر، فهي تأخذ مساحة واسعة في عالمه ويبدو فقدانها أشبه بالنزف. ففي قصيدة "إفاقة"، يقول: "عندما سأفيق منهمكاً/ سأجدني خفيفاً وممتعاً/ وسأتذكر أول ما سأتذكر أنك ذهبت/ بعد أن أسبلت أجفاني/ كأنني نزفتك". وفي قصيدة "خلف صوتي... إلى الأبد" تتكرر عبارة "كنتُ أريد" ثلاث مرات، ما يدل على الرغبات المحبطة أو النزوع النفسي الذي لا يتحقق. يقول في نهاية القصيدة: "كنتُ أريد/ أن أضع لؤلؤة ضخمة/ في قدميك/ وأجعلك تغوصين عميقاً/ خلف صوتي إلى الأبد". إنه مرة أخرى ذلك الصوت – هل هو صوت الشعر هنا؟ - الذي يطارده الشاعر ويدفع حبيبته إلى الغوص خلفه إلى الأبد. وهكذا تبدو الأنثى راحلة مبتعدة لا يعرف الشاعر أين سيلقاها في هذا الليل البهيم الذي يحيط بهما، وهي حالة على العكس مما يريد الشاعر، فهو لا يريد أن يبقى وحيداً أو أن يظل باحثاً عنها؛ لأن فكرة البحث ترعبه.

ولا شك أن افتقاد الأنثى يؤدي إلى الاغتراب والإحساس بالفراغ والفزع. يقول الأشعري في قصيدة "مشهد": "لا يفصلني عن باحة الأشجار/ سوى ذئب يعوي/  بينما الناس يفتحون مظلاتهم/ وهم يمرون تحت الأشجار/ إلى حيث لا نافذة ولا باحة ولا أحد". ومن غير المعتاد أن يرتبط الحب والعنف في وعي الشاعر الذي يرى الحياة سخيفة من غير هذا العنف الذي يرسم بالدم حديقة حبه تحت المطر. يبقى أن أشير إلى تجاور الصوت الغنائي والصوت الدرامي في كثير من القصائد، بالإضافة إلى الطابع الملحمي، كما يبدو في قصيدتي "كتاب الشظايا"، و"عينان بسِعة الحلم"، وكذلك توظيف السرد في بعض القصائد.

المزيد من ثقافة