Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أزمة الاقتصاد أقسى على نبيذ لبنان من الحرب الأهلية

مرونة الصناعة مكنتها من الصمود أمام التطاحن الداخلي والهجمات الإرهابية والاحتلالات العسكرية

لم تنحنِ هذي الكروم أمام رياح الحروب والاحتلالات، لكنها تئنّ تحت وطأة التدهور الاقتصادي (365دايزأوف ليبانون.كوم)

أثناء الحرب الأهليّة اللّبنانية، اختُطف إيلي معماري، خبير النّبيذ المتدرّب في مدينة "تولوز" الفرنسية، مرّتين بسبب صناعته ذلك الشراب. جاءت المرّة أولى على يد متشددين إسلاميين والثانية على يد مسلّحين يطمعون في المال. وفي غضون تلك السّنوات القاتمة، استمرّ العاملون في قطف محاصيل العنب في "شاتو كسارة" Chateau Ksara، أقدم وأكبر مصنع نبيذ في لبنان، أحياناً كثيرة تحت القصف ونيران المدافع.

وفي هذا الصّدد، يشير معماري، مدير التّصدير الحالي في "كسارة"، إلى إنّ المصنع قد نجا من اجتياح العام 1982 عندما بسطت القوات الإسرائيلية المسلّحة سطوتها على بلد النّبيذ، لبنان. وبعد الاجتياح بعشر سنوات، في ظلّ احتلال الجيش السّوري المباني التّابعة له، واصل "شاتو كسارة" جني محاصيل العنب. وفي 2006، صمد المصنع في وجه الحرب التي نشبت بين إسرائيل وحزب الله. وفي 2014، تمكّن، على غرار عدد من مصانع النّبيذ اللبنانية، من الحفاظ على عنبه والاستمرار في الإنتاج، غير متأثّرٍ باستيلاء مقاتلي "داعش" على إحدى المناطق في "وادي البقاع" تقع على بعد 10 أميال تقريباً من كروم المصنع.

أمّا الآن، فيواجه "شاتو كسارة" للمرّة الأولى في تاريخه مستقبلاً مجهولاً بسبب الانهيار الاقتصادي الذي يعصف بلبنان. وينطبق ذلك على كل صناعة النبيذ اللبناني الشّهير عالميّاً.

"يظهر أنّ الحرب الأهليّة وما أعقبها من حوادث ليست شيئاً بالمقارنة بما نعيشه اليوم"، يشرح معماري وفي صوته غصّة.

ويضيف، "بات النّاس غير قادرين على شراء الحليب لأطفالهم بعدما انخفضت رواتبهم الشّهرية بواقع 10 أضعاف إلى ما لا يزيد على مئة دولار أميركي. إنّه كابوس بكلّ ما للكلمة من معنى. ومن شدّة قلقي وخوفي، لا أستطيع النّوم ليلاً".

وفي خضمّ هذه الظّروف المأساوية، يخشى صنّاع النّبيذ في لبنان، من كبيرهم إلى صغيرهم، من أن يواجهوا مصير كبار منتجي النبيذ نفسه في العالم ويُمسوا ضحيّة الانكماش الاقتصادي. كيف لا وقد قَضَّت الأزمة المالية العنيفة مضجع أكثرية سكان لبنان البالغ عددهم زهاء 6 ملايين نسمة. وبسبب تلك الأزمة، فقدت الليرة اللبنانية 85 في المئة من قيمتها، إذ لامس الدّولار الأميركي عتبة الـ10 آلاف ليرة لبنانية في السّوق السّوداء على الرغم من تثبيت سعر صرفه الرّسمي عند 1500 ليرة لبنانية منذ تسعينيات القرن العشرين.

وبالتزامن مع ذلك، ارتفع معدل التضخّم وتضاعفت تكلفة السّلع الأساسية خلال العام الماضي، كالرز والبقوليات والسّكر. وفي بعض الحالات، زادت أسعار السّلع المستوردة بواقع خمسة أضعاف، وفق الحسابات الخاصة بصحيفة "اندبندنت".

وقد أدّى هذا الانهيار المالي إلى اتّساع رقعة الفقر المدقع لتشمل عشرات آلاف الأشخاص. وفي هذا الصدد، حذّرت ميشيل باشليه، مفوّضة الأمم المتّحدة السّامية لحقوق الإنسان، يوم الجمعة الماضي، من كون لبنان "يخرج سريعاً عن نطاق السّيطرة" مع مواجهة عديد من مواطنيه خطر العوز والجوع. وبالنّسبة إلى صناعة النّبيذ التي يتميّز بها، فقد باتت في عين العاصفة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 

نعم، هذا صحيح. صناعة النّبيذ اليوم في عين العاصفة الماليّة التي تجتاح لبنان بعد سنوات طويلة من الفساد وسوء الإدارة. وقد انطلقت [تلك العاصفة] في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وتسبّبت باندلاع انتفاضة عارمة قبل وصول فيروس كورونا الذي وضع ضغوطاً إضافية على الاقتصاد. وفي ظلّ النقص الحادّ في العملات الأجنبية، تفرض المصارف قيوداً محكمة على حسابات النّاس وودائعهم. ومع شبه استحالة الحصول على الدّولار الأميركي والهبوط الحرّ والعشوائي لليرة اللبنانية، تجد القطاعات الصّناعية التي تعتمد اعتماداً كبيراً على الاستيراد، صعوبةً كبيرةً في الصّمود.

وفي ما يتعلّق بمصانع النّبيذ بشكلٍ خاص، فإنها تستورد من الخارج كلّ التجهيزات التي تحتاجها، بما فيها الزّجاجات والسّدادات والملصقات وكبسولات الألومينيوم وبراميل حفظ النّبيذ المصنوعة من خشب البلوط والكرتون المستخدم في التّعبئة والتّغليف، إضافة إلى بعض الغرسات والبذور. "الحقيقة أننا لا ننتج محليّاً سوى عناقيد العنب"، تُوضّح جوانا جرجس (30 سنة) التي تتولّى إدارة مصنع "شاتو قانا" Chateau Cana العائلي الذي يقع في قرية "رأس الحرف" الجبلية المغطاة بالكروم وينتج قرابة الـ100 ألف قنينة نبيذ سنوياً. وتوضح جرجس إنّ 90 في المئة ممّا يستخدمونه لتعبئة منتجاتهم مستورد، ما يُحتّم شراءه بالدّولار الأميركيّ الذي زادت قيمته ستّ مرّات مقابل الليرة.

واستطراداً، يعني ذلك أنّ كلفة المواد الخام وحدها باتت الآن بحدود 42 ألف ليرة للقنينة الواحدة، أيّ ما يُعادل 30 دولاراً بالاستناد إلى سعر الصّرف الرّسمي، فيما يتجاوز سعر المنتج النّهائي ضعفي ذلك الرقم. وحتى نهاية هذا الأسبوع، بيعت زجاجة النّبيذ الأبيض العادية التي تمثّل خليطاً من الشّاردوني والميساسي، بـ18 ألف ليرة لبنانية أو 12 دولاراً. وبرأي جرجس، "لدى مصانع النّبيذ الكبيرة أموالاً كثيرة وتقدر بالتّالي على تحمّل الخسائر لفترةٍ أطول. لكنّني أخشى على المصانع الصغيرة من أن تُقفل أبوابها". وقد بدأ هذا الأمر يحصل فعلاً. إذ علمنا باعتزام عدد من مصانع النبيذ الصّغيرة على تصفية أعمالها في غضون الأشهر القليلة الماضية. "نحن بالكاد صامدون"، تُردف جرجس.

ويُعرف عن لبنان أنّه أحد أقدم الدوّل المنتجة للنبيذ في العالم، ويرقى تاريخه الممتدّ عبر 5 آلاف سنة، إلى عهد الفينيقيين. وقد أنعم عليه الخالق بمناخٍ مثاليّ، ماطر شتاءً وجاف صيفاً؛ وتلك خاصية مهمة جداً لصناعة النبيذ، لاسيما إن كانت مصحوبة بأنواع تربة وارتفاعات مختلفة، على غرار منحدرات جبال البترون التي يداعبها النسيم دوماً، وأراضي وادي البقاع الزّراعية الخصبة. وفي المقابل، ليست البلاد ولا قطاع النبيذ فيها بغريبين عن الخراب والمأساة؛ وأكبر دليل على ذلك، صمود خمسة مصانع نبيذ في وجه الحرب الأهليّة التي دامت 15 عاماً وانتهت في 1990. وعلى مرّ السنين، استردّ القطاع عافيّته. وفي الوقت الرّاهن، هناك على الأقلّ 46 مصنع نبيذ جديداً يصل إنتاجها السنوي إلى ما مجموعه 9 ملايين قنينة تقريباً، ويشكّل ذلك رقماً صغيراً بالمقارنةً بالمنافسين الإقليميين، وفي طليعتهم إسرائيل التي تنتج 50 مليون قنينة نبيذ في السّنة، وتركيا التي تنتج 30 مليون قنينة. وعلى الرّغم من صغر الإنتاج، نجحت الدّولة اللبنانية في إثبات نفسها في السّوق العالمي من خلال تشكيلتها المنوّعة من النبيذ العالي الجودة.

 

وفي الماضي، اكتسحت أنواع النّبيذ الأحمر التي تشبه نبيذ بوردو الفرنسي وتُنتجها المصانع اللبنانية القديمة كـ"شاتو كسارة" الذي تأسس في منتصف القرن التاسع عشر و"شاتو مزار" Chateau Musar الذي انطلق في 1930، الأحاديث المتناقلة عن النبيذ اللبناني في الخارج. ومع مرور الأيام والسنين، تمكّنت مصانع صغيرة كـ"شاتو قانا" من فرض وجودها وإثبات مكانتها على السّاحة بفضل منتجاتها المميّزة والجديدة. وفي سياق متصل، دأب القطاع على تعزيز ثقافة شرب النّبيذ في صفوف اللبنانيين الذين لطالما فضّلوا العرق المُنَكَّهْ باليانسون. إذ يتراوح معدل الاستهلاك الفردي للنبيذ في لبنان ما بين ليترين وثلاثة ليترات في السنة مقابل 23 ليتراً في بريطانيا و40 ليتراً تقريباً في فرنسا.

وتؤكّد ربى شبير، الخبيرة الاقتصادية لدى مؤسسة "بلوم للأعمال" Blominvest Bank إنّ قطاع صناعة النبيذ ينطوي على إمكانيات هائلة في النمو. وتستند في كلامها إلى التّقرير الذي أصدرته "بلوم للأعمال" العام الفائت وتقصّت فيه إمكانيات الاستثمار في صناعة النبيذ اللبناني. وتضيف شبير "لطالما كان النبيذ من بين أهم وأقوى منتجات القطاع الخاص المموّلة ذاتياً في لبنان". وفيما لا تزال شبير تتفاءل خيراً بالقدرة على الاستثمار في القطاع، تتساءل مصانع النبيذ عن مدى قدرتها في الاستمرار والوقوف على قدميها. وفي ما يتعلّق بالمصانع الصّغيرة، فإنها تعاني وتتكبّد خسائر فادحة لأنّها تخشى من رفع أسعارها. "كلّ ما نحاول فعله الآن يتمثّل بالحفاظ على قدرٍ أدنى من السّيولة النّقدية. فمع ما يمرّ به الجميع، من الواضح أننا (كمصانع نبيذ) لسنا من بين الأولويات"، وفق أندريا جعاره (28 سنة) التي تتولّى إدارة مصنع "أورورا" الكائن في جبال البترون.

وعلى شاكلة عدد من مصانع النّبيذ الصّغيرة في لبنان، فإن "أورورا" Aurora مصنع عائليّ تأسس على يد والد جعاره وجدّها اللذين كانا يهويان النبيذ وتعلّما الكثير عنه في فرنسا. وبعد مرور 17 عاماً، بات "أورورا" يُصدّر ثلث إنتاجه السّنوي والبالغ حوالى 20 ألف قنينة، على أساس أنه المنتج الأوحد لماركة "كابيرني فران" Cabernet Franc في البلاد. وشهد إقبالاً شديداً على نبيذه المُكوّن من الشّاردونيه المنكّه بالزبدة والبلوط، ووصل سعره إلى 60 ألف ليرة أو ما يعادل 40 دولاراً للقنينة الواحدة قبل الأزمة المالية.

وبحسب سعر الصّرف الحالي [في السوق السوداء]، يساوي ذلك المبلغ مجرد 7.5 دولار. وفي المقابل، لا يستطيع آل جعاره رفع الأسعار. "لقد فقد الناس قدرتهم الشرائية، ونحن لا نريد أن نُخيفهم بأسعارنا المرتفعة. ولكن، إذا اختفينا عن الساحة الإنتاجية، فسيكون من الصّعب جداً العودة إلى ما نحن عليه الآن. وهذا ما لا نريده"، بحسب جعاره. وفي مشهد متصل، يرفض بعض المصانع بيع نبيذه بأسعار بائسة، ويتمسك عدد منها بمخزونه بانتظار أن تسترد العملة استقرارها، وفق ما يشرح إتيان دبانه، مؤسّس مصنع "إكسير" Ixsir الذي يُنتج حوالى نصف مليون قنينة في السنة، ويُعتبر نجماً صاعداً في عالم النّبيذ اللبناني.

وبينما لا يزال مصنع "إكسير" قادراً على الصّمود، من غير الممكن للمصانع الصغيرة عموماً الاستمرار من دون منشآت للتخزين. وقد يزداد الوضع تعقيداً مع اقتراب فصل حصاد العنب. فعندئذٍ، لن يكون بوسع أيّ مصنع تحمّل كلفة القوارير والبراميل المستوردة لإنتاج نبيذٍ جديد. "أثناء الحرب، كانت قصة صناعة النبيذ في لبنان قصة جميلة وأعتقد أننا: "كنا نقطف العنب تحت القصف". وهذا يعطي بُعداً عاطفياً لما كنّا نفعله"، يُخبر دبانه من مصنعه المذهل والكائن في منزلٍ صيفيّ من الحجر يرقى إلى القرن السابع عشر. "الفرق بين فترة الحرب والوقت الحالي أننا كنا قادرين على قطف العنب، وكذلك كانت الأموال متاحة لدفع ثمن كلّ شيء"، يذكر دبانه. "أما الآن، فتردني اتّصالات هاتفية من مصانع نبيذ صغيرة تسألني فيها عن قوارير فارغة لعدم قدرتها على دفع ثمن قوارير جديدة مستقدمة من الخارج".

ويخشى خبراء النبيذ في لبنان من أن تخسر البلاد موسماً كاملاً بسبب الضّائقة المالية. "وقد تخسر أيضاً المصانع الصّغيرة"، وفق تعبير أيمي دان، خبيرة النبيذ الدولية الآتية من المملكة المتحدة، التي تعيش في بيروت وتعمل منذ فترة طويلة على تعريف المطاعم على مصانع النبيذ الأقلّ شهرة. "إذ يُتوقع لها [المصانع الصغيرة] إما الإفلاس أو الإنطفاء".

ومن وجهة نظر دان، الطّريقة الوحيدة لإنقاذ القطاع تأتي عبر التركيز على الصّادرات. لكنّ الأمر سيكون غاية في الصعوبة مع إقفال المطاعم والحانات والفنادق حول العالم بسبب جائحة كورونا. وبالنّسبة إلى من أمضوا سنوات طويلة من حياتهم يحاولون انتشال نبيذ لبنان من العتمة، بات هؤلاء يخشون من تراجع الصناعة عقوداً إلى الوراء، كما يخشون اختفاءها المحتمل عن الخريطة العالمية. "يمثّل النبيذ حياتي كلها. ويساورني قلق شديد بشأن مستقبله وإزاء أمور أخرى كالوضعين الاقتصادي والأمني. وبكل صّراحة، تشكّل هذه الفترة أصعب مرحلة عشتها في حياتي"، يختم معماري متنهّداً.

© The Independent

المزيد من تقارير