Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحيل إلياس فركوح راوي خسارات العرب المعاصرين

جدّد دم الكتابة السردية الأردنية والعربية وراهن على دور الثقافة والتنوير

القاص والروائي الأردني إلياس فركوح (يوتيوب)

خسارةٌ كبيرة يمثلها رحيل الكاتب الأردني الكبير إلياس فركوح (1948-2020) للمشهد الروائي والقصصي العربيّ، وللثقافةِ العربية عموماً، فإلياس واحدٌ من المجدّدين في دمِ القصة والرواية  العربيتين في العقود الأربعة الماضية، إذ استطاع أن يمنح الكتابةَ السردية تلك القدرة على وصف الأعماق، وتأمّلِ الصراع الداخلي للشخصيات، بالانتقال من الوصف الخارجي للعالم إلى الغور عميقاً في ما يعتمل في وعي ولا وعي شخصياته. وقد استخدم هذه القدرة، في الحفرِ على دواخل الشخصية القصصية، وتقليب مشاعرها نحو ما يدور خارجها من أحداث وصراعات، وما يعبر في ذهنها من ذكريات، لكي يلقي ضوءاً كاشفاً على التصدعات التي أصابت الحلم بدولة عربية قومية ديموقراطية، عبر هزائم وخسارات متوالية تركت علامات غائرة في كتابة جيله من المبدعين والمثقفين العرب. ولعل رغبته في أن يفهم ما حدث، منذ ولادته في عام النكبة الفلسطينية (1948)، هي التي دفعته إلى تفحص الكوارث المتوالية، التي تبعت ضياع فلسطين، عبر مرآة السرد، القصصي، ثم الروائي، وكذلك المقالة الأدبية ذات البعد التأملي الفلسفي، إضافة إلى الترجمة، وصولاً إلى تأسيس دار نشر خاصة (دار منارات أولاً مع الشاعر الأردني طاهر رياض، ثم دار أزمنة)، لكي ينشر لكتاب ومترجمين عرب ما يؤسس لتنوير عربي قد يرأب هذه الصدوع والخسارات التي فتتت الحلم القومي الذي سكن إلياس إلى آخر أيامه.

وعلى الرغم من العدد القليل من المجموعات القصصية، والروايات، التي كتبها فركوح، إلا أنه استطاع أن يكون واحداً من أهم كتاب القصة والرواية في الأردن والعالم العربي منذ تسعينيات القرن الماضي، وواحداً من ممثلي كتابة الأعماق في السرد العربي الراهن، كما هو الحال لدى إدوار الخراط ومحمد البساطي ومحمد خضير وغالب هلسا ومحمد عز الدين التازي وحيدر حيدر، وآخرين ممن كان تحديث الكتابة القصصية والروائية العربية هاجسهم الذي لازمهم منذ البدايات، وجعلهم يحلمون بكتابة مختلفة، متأنية، سابرة، مركبة، لا تتوقف عند السطوح، بل تغور عميقاً، لتتعرف على سر الذات الإنسانية في علاقتها بما يدور حولها وما يمور في داخلها.

الصفعة وطيورعمّان 

عكف إلياس فركوح، على مدار مجموعاته القصصية، على تطوير تجربته والغوص داخل شخصياته القصصية، محاولاً التعرف على الواقع الاجتماعي - السياسي الذي تتحرك ضمنه. وقد اتسم عمله منذ بداياته الأولى بجَدْل الأرضية السياسية - الاجتماعية في قصصه مع تأملات الراوي ومونولوغات الشخصيات التي تشكل جزءاً من المشهد الاجتماعي لكنها تحاول في الوقت نفسه تأويله عبر تقليبه على اشتعالات نارها الداخلية. ونحن نعثر على هذه الطريقة في تقديم العالم في مجموعته الأولى "الصفعة" (1978) التي تضم بواكير قصصه، كما تؤشر إلى ولادة قاص يحتفل بتحليل العالم الداخلي للشخصيات من دون أن ينسى رصد التفاصيل الدقيقة لما يدور في العالم المحيط بها. أما في "طيور عمان تحلّق منخفضة" (1981)، التي يمكن القول إنها مجموعة القاص التي تستحق أن نطلق عليها صفة الأولى على صعيد النضج الفني، فيسعى القاص فيها إلى تصوير أحلام شخصياته البسيطة وآمالها، معتمداً أسلوب التداعي، الذي يكثر من استخدامه في قصصه، راصداً نبض الشخصية الداخلي وتفاصيل حياتها الصغيرة. وعلى الرغم من أن هناك تواصلاً في شكل الكتابة القصصية لدى الكاتب، عبر الاهتمام بشخصيات تنتمي إلى الطبقات الاجتماعية الدنيا، والتركيز على الهامشيين والمهمّشين من البشر، فإننا نلحظ في الوقت نفسه تحولاً في كتابة إلياس فركوح، بحيث يلجأ إلى تطعيم نصوصه بلغة الشعر وأفقه الدلالي. لكنّ الاهتمام بشعرنة اللغة القصصية لا يقلّص استخدامه للتفاصيل وقيامه برسم انعكاس المشهد الخارجي على العالم الداخلي للشخصيات، وكذلك تفضيله الدائم لأسلوب التداعي والحوار الداخلي الذي ينقل إلى القارئ ما تفكر به الشخصيات.

إذا انتقلنا إلى مجموعة "من يحرث البحر" (1986)، فسنعثر على تطور لافت. ومع أن الكاتب يستخدم أسلوب الراوي العليم، إلا أنه يُذوّب هذه السمة التقليدية بتمويه العلاقة بين الفعل الماضي والفعل المضارع، مكسباً عمله القصصي روحاً حداثية تختزل السرد التقليدي وتحوّله إلى مجرّد وسيلة تعبيرية تمّحي وسط التردّدات التي يخلقها السرد بين الماضي والحاضر، بين الوصف الخارجي لهيئة الشخصية وسرد مونولوغاتها، بين هيجان الطبيعة (البحر) وهيجان النفس، وهكذا إلى الحد الذي تمّحي فيه الحدود الفاصلة بين هذه الصيغ اللغوية والتعبيرية. ثمَّة محاولة دائبة في قصص فركوح لتذويب فعل الانفصال عن الأشياء وتحويله إلى نقيضه: أي إلى فعل اتصال والتحام بالموجودات والعالم عبر تذويب كل ما يمكن أن يكون فاصلاً سواء كان فاصلاً زمانياً أو مكانياً، فاصلاً سلطوياً (يأتي من الخارج) أو فاصلاً داخلياً (تمليه المعتقدات والأفكار والتوافقات التي تؤمن بها الشخصية).

أسرار ساعة الرمل

وإذا كان إلياس في المجموعات السابقة يجعل من الراوي شخصية شفّافة تتمرأى من خلالها الذوات الأخرى في النصّ القصصي، فإنه في مجموعته "أسرار ساعة الرمل" (1991) يعتمد ظهور شخصية الكاتب في نصه، إذ يظهر مروياً عنه، وهو يعمل على خلق شخصياته وتوليف أحداث قصته المركّبة. ويستخدم القاص استعارة الساعة الرملية ليعبّر عن كيفية تشكل شخصيات القصة وأحداثها.

يصبح الكاتب في القصة شخصية من شخصياته حيث يروي الراوي عنه وعن الآخرين، ويتابع تخلُّق فعل الكتابة، ثم انفصال الشخصيات عن الكاتب وامتلاكها حيوات خاصة بها. أما الرمل فهو المعادل الموضوعي للشخصيات لأنها مصنوعة من رمل الحكايات، ذرات دقيقة من الأخيلة تتراصف لتشكل حكاية من شخصيات وأحداث. وعلى هذه الاستعارة يقيم فركوح قصته. لكن الجوهري في القصة لا يتمثل في دخول الكاتب قصته، وتأمله فعل الكتابة وآثاره، بل إن الجوهري هو تشكُّل الحكاية من طبقات متعددة. إنها حكايات مربوطة بخيوط من العلاقات الإنسانية، ولكن أحداثها تجري في طبقات تشبه طبقات وعي المؤلف الذي يكشف عن الحكايات طبقةً في أثر طبقة. وتتوظف استعارة الساعة الرملية في اتجاهين، كما هو شكل الساعة الرملية نفسها؛ نصف يتلقى الذرات الساقطة والنصف الثاني يدفع هذه الذرات إلى النصف الأول. وعندما نقلبها مرة أخرى يصبح المتلقي مانحاً والمانح متلقياً. إن الاتجاه الأول الذي تتوظف فيه استعارة الساعة الرملية هو الكشف عن تشكل فعل الكتابة، وتخلّق الشخصيات في وعي المؤلف (و لاوعيه كذلك). أما الاتجاه الثاني فيتمثل في تشكل الأحداث في طبقات ثم اجتماع هذه الشخصيات مع الكاتب وانقضاض البوليس على الكاتب وشخصياته وسوقه إياهم جميعاً إلى السجن.

يمكن لهذا النوع من القص، المبني بناءً محكماً، أن يمثل خير تمثيل الشغل القصصي في مجموعة "أسرار ساعة الرمل". إنها تقوم على بناء مركب متداخل تتقاطع فيه الحكايات والمصائر، كما يتشكل المعنى الضمني للنص من هذا التقاطع المحكم للمصائر والحكايات. ثمة محرّمات اجتماعية وسياسية، وإدانة اجتماعية - سلطوية لفعل الخلق والكشف. والكتابة، من ثمَّ، تقع فريسة هذا القمع الاجتماعي - السياسي. إن أرضية عملها تقع ضمن دائرة هذه المحرمات.

عمارة روائية

في سياقٍ موازٍ، يعتمد أسلوب التجديد والاشتغال على الشكل، واستخدام تداخل الأنواع، كمزج الشعريّ بالسرديّ، والحفر في الباطن والأعماق، والبحث عن معنى للهزائم والخسارات واندثار الأحلام، يقيم إلياس فركوح عمارته الروائية. ويمكن القول، للأسباب السابقة، إن "قامات الزبد" (1987)، و"أعمدة الغبار" (1996)، و"أرض اليمبوس" (2007)، هي ثلاثية روائية تعاين تلك الخسارات بعدسة سرديةٍ تحاول الكشف عن تفسيرٍ لانهيار الحلم القومي الذي ظل الكاتب وفياً له، إلى آخر العمر، على الرغم من كل ما حدث، ومع تقلب الأزمنة والخيارات وانهيار الأيديولوجيات. فالروايات الثلاث تتحرك في إطارها الزماني بين نكبة 1948 وهزيمة 1967 والحرب الأهلية اللبنانية. كما أنها تتحرك في إطارها المكاني بين عمان والقدس وبيروت، وهي المدن التي عاش فيها إلياس وانتمى إليها، وشكّلت إطار تجربته الشخصية والإبداعية. وإذا كانت القصص تركز على مدينة عمان بوصفها الأرضية التي تنطلق منها تجربته القصصية، وتطلع منها الشخصيات والأحداث، وتشكّل الجغرافيا التخيلية لعالمه القصصي، فإن بيروت، والقدس، وبصورة من الصور بغداد (في زمن الحلم القومي)، معطوفةً على عمان، مسقط الرأس، هي الأمكنة التي ينوس بينها العالم السردي لروايات فركوح.

يمكن النظر إلى الرواية الأولى (قامات الزبد) بوصفها البؤرة السردية التي تطلع منها الروايات الأخرى، أو تعود إلى استكمال المشهد انطلاقاً منها، أو تعيد تركيز عدستها السردية على ما أهملته الرواية الأولى. ويسعى فركوح هنا إلى تقديم تنويع مألوف في الرواية العربية الجديدة، ويستمد هذا التنويعُ دلالته من التعبير عن العالم من خلال وصف الشخصيات مشاعرها وانعكاس الأحداث الخارجية على رؤيتها للعالم. إن الشخصيات تبدو مشغولة بتحليل انكسار إشعاعات التجربة الجماعية في منشور الذات. ومن خلال لعبة تحليل المشاعر، وتقصّي حقيقة موقفها من الأحداث والهزائم الكبرى، تصف "قامات الزبد" انهيار العالم من حولها، وتحولَّه إلى مرآة غير شفّافة، شبهِ معتمة، تعكس صوراً مشوشة، وخيالات وأفكاراً تفتقد اليقين، وأحلاماً مجهضة. ويستخدم الكاتب، لتحقيق هذا النوع من رؤية العالم، خياراً أسلوبياً يعتمد الحكاية على ألسنة الشخصيات، منتقلاً من شخصية إلى أخرى، بصورة غير منتظمة تمليها حركة أعماق الشخصيات، موظفاً وصفَ الأشياء، الطبيعة والأثاث واللوحات، للتأكيد على منظور ذاتي للعالم، منظورٍ لا حوار فيه مع الآخرين، ولا حدود مشتركة، بل صَدَفة تنغلق على نفسها، وعلى إشعاعات التجربة الممهورة بالخسارات التي شكّلت واقع العرب المعاصرين منذ نكبة الفلسطينيين والعرب عام 1948.      

المزيد من ثقافة