Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غابة بحرية عمرها 60 ألف سنة أمل المرضى حول العالم

البكتيريا المعششة فيها تنتج مركّبات كيماوية غير معروفة حتى الآن

مشهد عام للغابة بحرية (من موقع AL.com بعدسة بن رينز)

إعصار مدمر اجتاح خليج المكسيك العقد الماضي كشف عن غابة شجرية محفوظة تحت الماء منذ 60 ألف سنة، قد تميط اللثام عن عقاقير جديدة لعلاج السرطان وألزهايمر والإيدز والالتهابات المميتة. أوائل العقد الماضي، تساءل أحد الصيادين عن سبب وفرة أسراب السمك المصطادة في مكان محدد قبالة ساحل ولاية ألاباما الواقع على خليج المكسيك. كان قاع خليج هذه المنطقة عبارة عن صحراء رملية ممتدة. وقد درج الناس، لعقود من الزمن، على إلقاء هياكل معدنية في المياه القريبة من هذه المنطقة للمساعدة في بناء شعب اصطناعية جاذبة للحياة البحرية؛ بدءاً بالغسالات وصولاً إلى الدبابات مروراً بقاذفات القنابل العملاقة التي استخدمت خلال الحرب العالمية الثانية. لكن المثير أنه لم يتم إسقاط مثل هذه الهياكل حيث تتجمع أسراب السمك المصطادة.
دفع الفضول صيادنا إلى الاستعانة بخدمات متجر غوص محلي استجلاءً للحقيقة. مع أول عملية غوص، ذُهل صاحب المتجر عقب اكتشافه بقايا غابة شجرية كاملة تشرئب من قاع الخليج. وثّق الغواص إحداثيات الموقع قبل أن يتصل بصديق له يُدعى بن رينز، وهو طالب جامعي يدرس البيئة وغطاس محترف يعمل مراسلاً لدى موقع AL.com الإلكتروني. طلب رينز من صديقه، بحسب ما تروي صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور"، كتمان سرّ الغابة إلى أن يعثر على علماء أحياء قبل تقرير الخطوات التالية. في أعقاب أشهر قليلة على محادثتهما نشر رينز تحقيقاً عن الغابة لدى الموقع الإلكتروني، وسرعان ما تلقى مكالمة من الدكتورة كريستين دي لونغ، عالمة المناخ القديم لدى "جامعة ولاية لويزيانا".
أنتج رينز فيلماً وثائقياً حمل عنوان "غابة تحت الماء"، لفت انتباه وسائل الإعلام الأميركية، وكذلك حطابّي الأشجار النادرة والنفيسة الذين طمعوا في حصاد جذوع أشجار الغابة لتصنيع طاولات وتذكارات وقيثارات؛ حتى أن بعضهم حاول رشوة رينز بثروات صغيرة مقابل الحصول على إحداثيات الموقع الجغرافي للغابة، لكن من دون جدوى.

غابة من الأسرار

اليوم، بدأت الغابة تبوح بأسرارها الخفية تحت إشراف الدكتور دان ديستيل، عالِم الأحياء البحرية المتخصص في دراسة "ديدان البحر" ومدير "مركز إرث الجينوم المحيطي" لدى جامعة "نورث إيسترن" في بوسطن. تمكن ديستيل بعد مفاوضات مضنية، من انتزاع منحة مالية من "الإدارة الوطنية لعلوم المحيطات والغلاف الجوي" الأميركية لتمويل بعثة علمية على متن سفينة الأبحاث "ويلسون". أما المهمة الرئيسة لهذه البعثة فكانت استكشاف وتوثيق ودراسة ديدان البحر، والكائنات البحرية المجهرية الأخرى التي تقتات على الخشب والمعروفة علمياً باسم "كسيلوفيلس" التي شرعت في التهام الغابة المغمورة ما إن انبثقت تحت الماء.

ويؤكد العلماء إن ديدان البحر مهمة في اكتشاف المركّبات الكيماوية غير المعروفة حتى الآن. فمع تصاعد أعداد المسنين من البشر وأمراضهم وتزايد مخاطر البكتيريا القاتلة المقاوِمة للمضادات الحيوية حول العالم واستعصاء بعض الأمراض على العلاجات الحالية، ما فتئ الباحثون يسعون إلى فتح آفاق جديدة لإنتاج عقاقير كيماوية مستحدثة. وتعد بيئة الغابة البحرية المدفونة أشبه بكنز حيويّ نادر لهذه المركّبات، وتحديداً تلك الكائنات الشرهة الملتهمة للأخشاب المائية وما يصاحبها من "بكتيريا تكافلية"، المتعايشة معها بتناغم، والتي تعدّ بمثابة حضّانات للمركّبات الكيماوية غير المعروفة حتى الآن. ويعتقد الباحثون أنه يمكن لهذه التشكيلة من الكائنات أن تنتج صيغاً ومعادلات كيماوية فريدة مُقاوِمة للسرطان والآلام المزمنة والالتهابات المميتة، لا يمكن العثور عليها في أي مكان آخر على هذا الكوكب.

إعصار مدمر اجتاح خليج المكسيك العقد الماضي كشف عن غابة شجرية محفوظة تحت الماء منذ 60 ألف سنة، قد تميط اللثام عن عقاقير جديدة لعلاج السرطان وألزهايمر والإيدز والالتهابات المميتة. 

المهمة الصعبة

في عام 2004، ضرب الإعصار "إيفان"، المصنف فئة خامسة على سلم قوة الأعاصير، خليج المكسيك قبل أن يشق طريقه نحو اليابسة. صاحبَ الإعصار رياح عاتية وصلت سرعتها إلى 220 كيلومتراً بالساعة، ما ولّد موجات مد عارمة بلغ طولها 30 متراً. أزاح "إيفان" خلال اجتياحه المدمر أكثر من ثلاثة أمتار من رمال قاع الخليج موقظاً الغابة الشجرية النائمة بهدوء تحتها منذ عشرات آلاف السنين.

مع توجه سفينة الأبحاث إلى موقع الغابة السري أوائل العام الماضي، واجه الباحثون الميدانيون سلسلة من التحديات؛ منها الغوص إلى عمق 20 متراً تحت سطح مياه خليج المكسيك لانتشال جذوع وأغصان وجذور أشجار "بستان السرو" المحفوظ داخل قبر من الرمل والرواسب، وهو عمل تحول إلى مهمة شبه مستحيلة جراء ثلاثة أيام من الطقس السيء صادف البعثة وكاد يقضي على مهمتها ذات الميزانية المالية المحدودية المخصصة لها.

كان جُلُّ اهتمام الباحثين مُنصبّاً على فحص محتويات هذه الكبسولة الزمنية الخشبية قبل أن يدفنها إعصار آخر. لكنهم كانوا قلقين أكثر من احتمال تمكن أحد حطّابي الشجر من اكتشاف إحداثيات الموقع السري أو تخصيص المنطقة لنشاطات صناعة التنقيب عن النفط. أما ثالث مخاوف الباحثين فهو أن تتمكن ديدان البحر من التهام الغابة بالكامل قبل أن يتمكنوا من حصاد كنوزها الأحيائية. وقد تمكن الباحثون من تجميع عيّنات من الغابة داخل ستة مستوعبات كبيرة تضمنت جذوع أشجار وفروعاً وجذوراً، وشرعوا في تصنيفها، وتمكنوا حتى الآن من اكتشاف وتصنيف خمسة أنواع جديدة من البكتيريا لم تكن معروفة من قبل.

كانت الغابة في ما مضى مستنقعاً ضحلاً يقع داخل اليابسة بعيداً عن الشاطئ قبل أن تتحرك قشرة الأرض لتنزلق في عمق البحر. لاحقاً، عندما حلل الباحثون جذوع الشجر المستخرجة، وحبوب اللقاح والرمال المستخرجة، اكتشفوا أن عمر الغابة يتراوح ما بين 50 ألفاً إلى 70 ألف سنة، بحسب موقع "إيرث سكاي" العلمي. دعمت أشجار "السرو الأجرد"، التي كانت تستوطن المنطقة، بجذوعها العريضة الضخمة، مجموعة متنوعة من الحياة الأرضية آنذاك. لكنها الآن تدعم حياة سمك الهامور والنهاش الأحمر والجمبري السرعوف وسرطانات البحر وشقائق النعمان وغيرها من الحياة البحرية. أما بالنسبة إلى ديدان البحر، فتشكل الغابة وليمة مفتوحة شهية لكل ما لذّ وطاب.

 

حوت خشبي ميت
تقول مارغو هايغود، عالمة الأحياء الجزيئية لدى جامعة يوتا لموقع "فايس": "الغابة البحرية أشبه ما تكون بسقوط حوت ميت في قاع البحر. إذ ما تلبث الحياة بكل أشكالها أن تنفجر حوله، ويزدهر التنوع جراء تشكيله موئلاً جديداً. هذه الغابة أشبه بحوت خشبي ميت فوق مساحة قدرها 1.3 كيلومتر مربع". في المراحل الأولى من تشكل الموئل الجديد، عندما يكون كل كائن يقاتل من أجل الحصول على موطئ قدم، تطرح نزاعات الأراضي الكثير من الكيمياء الطبيعية. ومع حصاد وتجميع هذه الكيماويات، تعتقد هايغود أن ثمة فرصاً حقيقية للعثور على مركّبات جديدة فعالة غير سامة. وضمن هذا المجال تعد ديدان البحر من صانعي المركّبات الجيدين، فخلال سنوات من دراسة هذه الكائنات في أماكن أخرى من العالم، اكتشف الباحثون قدرتها على إنتاج مركّبات تشق طريقها الآن لدى المختبرات الطبية لتصبح أدوية وعقاقير ناجعة لعدد كبير من الأمراض.

وتكمن مواهب الديدان البحرية الصيدلانية في البكتيريا التي تعيش داخل خياشيمها، إذ ترسل هذه البكتيريا إنزيمات إلى أمعاء الديدان لمساعدتها على هضم الخشب الذي تلتهمه. بطريقة ما، تترك هذه العملية أيضاً قنوات الديدان الهضمية معقمة تقريباً، ما يشير إلى فعالية المضادات الحيوية الطبيعية التي تحتويها هذه الإنزيمات. وتوضح هايغود أن هذه المركّبات تطورت خلال رحلتها الممتدة لملايين السنين وتعرضت للفحص المسبق داخل أجسام ديدان البحر، ما يجعلها آمنة وأقل قدرة على إصابة أجسامنا بالتسمم مقارنة بالعقاقير التي تُحضّر في المختبرات الدوائية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 

صندوق مفاجآت

وديدان البحر ليست نوعاً من الديدان التي يألفها الناس، بل هي في الحقيقة حيوان أسقلوب مستطيل، يشبه الديدان في شكله، يطحن الخشب بأسنانه المجهرية ويهضمه بمساعدة البكتيريا التي تعيش في خياشيمه. وقد وجد الباحثون أن لكل نوع من ديدان البحر مجموعة متميزة ومختلفة من الشركاء البكتيريين أو ما يُطلق عليه علمياً اسم "البكتيريا التكافلية". ويعتقد الباحثون أن كل عيّنة مستخرجة تمثل صندوق مفاجآت لا يمكن تخيله لمجموعات من المركّبات الكيماوية الطبيعية. وقد يخفي موقع مثل الغابة البحرية ملايين من "البكتيريا التكافلية" غير المعروفة.

وإلى جانب ديدان البحر اكتشف الباحثون مخلوقات أخرى، مثل "فولاديداي" وهي طائفة من رخويات البحر ذات الصدفتين الشبيهة بحبات العنب الأبيض، والتي تُصنّف كأبناء عم لديدان البحر. في مكان ما خلال مراحل تطورها، فقدت "فولاديداي" البكتيريا التكافلية المصاحبة، وبالتالي قدرتها على استهلاك الخشب. لكن البكتيريا التكافلية المرتبطة بديدان البحر يمكنها أن تتنقل إلى أجسامها.

ثم هناك "برايوزون" الكائن الذي يلتصق بالخشب من دون أن يلتهمه. تبدو بعض مستعمرات "برايوزون" أشبه بتجمع صمغي، ولكن لدى فحصها بدقة، تظهر كمربعات منسوجة كل مربع منها غالباً ما يكون أصغر من رأس دبوس ويمثل كائناً منفرداً. تنتج بكتيريا "برايوزون" التكافلية سموماً دفاعية كيماوية تحمي جسمه الطري ويرقاته. يعتقد الباحثون أن بعض هذه السموم والمركبات الأخرى ستكون مفيدة في علاج مرض الزهايمر والسرطان والإيدز والآلام المزمنة. لكن الباحثين الذين يرون اليوم بصيص نور في نهاية النفق، يعلمون أنه بافتراض وجود التمويل اللازم لمتابعة أبحاثهم المضنية، فإن الأمر يتطلب ما بين 15 إلى 20 عاماً من الأبحاث والدراسات والتجارب السريرية قبل أن تصل "معجزة دوائية" من هذه الغابة البحرية إلى منضدة الصيدلية المجاورة. رحلة ليست بالطويلة مقارنة بعمر الغابة البحرية أو مسيرة تطور بكتيريا ديدان البحر التكافلية.

المزيد من بيئة