Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماذا حدث في تركيا في 15 يوليو 2016؟

سيناريو الانقلاب على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بين الحقائق والأوهام

"الانقلاب العسكري" تم تخطيطه ليبوء بالفشل منذ البداية (أ ف ب)

ما زلنا نكتب ويكتب الآخرون منذ أربع سنوات حول ما جرى في 15 يوليو (تموز) 2016. ولا تزال الروايات متضاربة والأراء متعارضة حول حقيقة ما جرى في تلك الليلة، والعقل المدبر لذلك الحدث الذي غيّر مسار تركيا، من شتى النواحي السياسية والإدارية والدبلوماسية الخ.

وقبل أن أُدلي بدلوي في الموضوع، أود أن ألفت نظر قارئي العزيز إلى مقولة متداولة في تركيا تُنسب إلى ماهير كايناك، وكيل الاستخبارات الراحل، مؤداها: "إذا أردت أن تعرف العقل المدبر/ اليد الخفية وراء أي حادث، فانظر إلى من يستفيد من ورائه".

ولا أخفِي سراً إذا قلتُ: إنني أيضاً فوجئت في بداية الأمر، على الرغم من كوني في قلب الأحداث بحكم عملي في الصحافة آنذاك، حيث كنت في القاهرة أعمل مراسلاً لمؤسسة إعلامية تركية.

وربما تظنون أن هذا أمر طبيعي من حيث كونه متعلقاً بعملية عسكرية يتم القيام بها في دولة عضو في حلف الناتو ولها وزنها في محيطها.

ولكن الواقع أن الكثير من المراقبين حاروا في وصف ما جرى على أرض الواقع؛ بعضهم قال إنه: "انقلاب" والبعض الآخر قال: "محاولة"، كل بحسب ولائه أو أيديولوجيا أو موقف سياسي يتبناه.

وماذا كانت المشكلة؟

إن المشكلة كانت تكمن في طريقة بداية الأحداث وسيرها، واختلافها عن سائر الانقلابات التي عهدناها في بلاد مختلفة.

فعندما يقع الانقلاب في بلد ما، فإن أول من يتم اعتقاله هو الرئيس ورئيس الوزراء وغيرهم من كبار المسؤولين الموالين للحاكم بحكم أنهم هم الهدف الأول.

ولكن الذي حصل في تركيا في 15 يوليو 2016 كان العكس، حيث أن الذين تم القبض عليهم في تركيا كانوا هم المعارضين للحكومة والمناهضين للإسلام السياسي. ما يشير إلى أن القوائم السوداء كانت جاهزة.

كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليلة "الانقلاب" في عطلة في أنطاليا.

ومن الشروط الأساسية لأي انقلاب أن يصل أعضاء القيادة العليا في الجيش إلى إجماع تام في ما بينهم، ما يعني أنه إذا تلكأ واحد منهم أو أدلى ببيان يعارض ذلك الإجماع فإن ذلك يعني نهاية المطاف.

وقد صرح قائد القوات الخاصة زَكائي آكْسَاكَالِّي بأنه من القواعد المتبعة في الجيش في أوقات الأزمات أن يُطلب من الأفراد عدم مغادرة الوحدة.

فلو طبّقت هذه القاعدة في تلك الليلة لانكشف الانقلاب وفضح الانقلابيون.

ويدل بيان زَكائي آكْسَاكَالِّي على أن رئيس الأركان العامة خلوصي أكار لم يكن ضد الانقلاب، بل كان ضالعاً في صميم تلك العملية، التي كانت مؤسسة الاستخبارات المخطط لها.

وتزعم الرواية الأردوغانية أن رئيس الأركان العامة كان حينها "محتجَزاً" في مكان مّا مِن قِبَل جنود عاديين، ولكنه تمكَّن من الفرار منهم بطريقة غريبة.

وتقول أيضاً إن رئيس الاستخبارات هاكان فيدان لم يردَّ على هواتف أردوغان، على الرغم من إلحاح الأخير على التواصل معه، وأن أردوغان عَلِم بنبأ الانقلاب من خلال صهره.

فهل منكم من يصدِّق تصريح أردوغان الذي قال فيه إن "رئيس الاستخبارات لم يرد على هاتفه" وأنه "لم يشاركه أي معلومة أو تحذير مسبق حول الانقلاب"؟

وهل تصدّقون أن أردوغان أبقى هذا الشخص في منصبه منذ أربع سنوات كرئيس للاستخبارات إذا كان - بالفعل - قام بكل هذه الإهمالات الخطيرة، التي تثير حفيظة أردوغان.

فلذلك أقول: بداية إن هذه رواية لا يؤمن بها حتى من اختلقها، وتحمل في طياتها عدداً من التناقضات والفراغات العقلية، بل كان رئيس الاستخبارات من كُتاب هذا السيناريو الدموي الذي كان يهدف إلى إرباك الشعب وتمرير مخططات تم تدبيرها بكل دقة وإحكام. ولكن الحديث عن ذلك يحتاج إلى مزيد من التفصيل، الذي لا تستوعبه مساحة هذا المقال.

ولا ننسى دور بعض دول المنطقة وعلى رأسها إيران في هذا الانقلاب. ولا أنسى قول كاتب مُوال للحزب الحاكم على شاشة قناة (ِAKİT TV): "يجب أن لا ننسى دور قاسم سليماني ودعمه الفاعل ليلة الانقلاب". وذلك في سياق ثنائه على هذا الرجل بعد اغتياله.

ولم يمضِ كثير من الوقت حتى انكشف لأمثالي أن الحادث كان تطبيقاً لسيناريو انقلاب، تم تخطيطه مسبقاً ليفشل ويتمَّ اتخاذه ذريعة لعملية تصفية شاملة في البلاد.

 نعم، إن هذا "الانقلاب العسكري" تم تخطيطه ليبوء بالفشل منذ البداية، على عكس الانقلابات الحقيقية التي يتم تخطيطها إما لتتكلل بالنجاح أو الفشل الذي ربما ينتهي بالموت.

ولست أنا الوحيد في هذه النظرة، بل يعرف الجميع - سواء اعترف بذلك أم لم يعترف - لاعتبارات أيديولوجية أو نفعية - أن أردوغان وحزبه - الذي أصبح معقلاً للإسلامويين السياسيين - ورئيس الاستخبارات هاكان فيدان وقائد الأركان آنذاك خلوصي آكار هم الذين خططوا لهذا الانقلاب المزعوم.

مَن هم الذين قاموا بقطع الرؤوس؟

أليس من الغريب أن يحدُث انقلاب مفاجئ، ثم نرى آلافاً من المدنيين ينزلون إلى الشوارع في وقت قصير مجهَّزين بالأسلحة الرشاشة، ومن المثير للاهتمام أن بعض هؤلاء لم يكونوا من الحاملين للجنسية التركية. وإذا بهم يقطعون رؤوس الطلاب العسكريين من الشباب الذين بدت أسلحتهم فارغة.

والأغرب من ذلك أن الجنود الذين تم استدعاؤهم إلى الجسر المعلق أو الشارعِ ليلة "الانقلاب" ولا حول لهم ولا قوة سوى إطاعة الأوامر، تم اتهامهم بقتل المدنيين ثم دينوا بعقوبات قاسية من دون إجراء الفحص الباليستي لأسلحتهم. كما أنه تم منع إجراء الفحص في الطب الشرعي على المقتولين في تلك الليلة.

وكذلك لا ندري على أي أساس قُررت عقوبة العسكريين الذين لم يكونوا في الوظيفة ليلة 15 يوليو، إما لأنهم كانوا في إجازة أو خارج البلاد أو كانوا متقاعدين، وطالت قائمة الاتهام بعضاً منهم كانوا قد أصبحوا في عداد قدامى المحاربين، بل حتى من مات قبل تلك الليلة. ما يعني أن القوائم كانت جاهزة قبل فترة طويلة ولم يتم تحديثها في تلك الليلة.

وقد تسمعون أنه تم استهداف القصر الرئاسي ومبنى البرلمان، لكن ستندهشون إذا علمتم أن طائرات "إف-16" التي تستطيع أن تضرب أدق الأهداف قد "فشلت" في تلك الليلة في ضرب تلك المباني الضخمة، فأَرسَلت قنابلَها إلى الساحات المحيطة بها من دون أن تكبدها بخسائر. في حين أن الطائرات التي استهدفت مبنى قسم العمليات الخاصة للشرطة في أنقرة أصابت المبنى، ما أدى إلى استفزاز أفرادها ليقوموا بـ"الواجب" ضد "الانقلابيين".

وهل تعلمون أن رئيس الأركان خلوصي أكار، وأعضاء هيئة الأركان، ورئيس الاستخبارات لا زالوا يتهربون من الإدلاء بالمعلومات إلى "لجنة التحقيقات" المخولة بالبحث عن حيثيات هذه المحاولة الانقلابية.

ومن الطريف أن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والمسؤولين الحكوميين الآخرين، بينما صرحوا بأنهم لم يستطيعوا الاتصال مع قيادات الجيش ومسؤولِ الاستخبارات، اتهموا - قبل أن يتضح الأمر - فتح الله غولن وأتباعه بتنفيذ الانقلاب.

وبطبيعة الحال هذه التناقضات والفجوات العقلية في هذه الرواية هي التي جعلت المؤسساتِ الغربية الجادة، بما فيها مؤسسات دول الاتحاد الأوروبي والبرلمانات الأميركية والبريطانية ولجان الشؤون الخارجية، يشكّكون في هذه الرواية، ويشيرون في تقاريرهم إلى أن أردوغان يتخذ هذه الحادثة ذريعة لتعزير سلطته وفرض إرادته على مقدرات البلاد.

فماذا تغير في تركيا بعد تطبيق هذا السيناريو؟

إليكم بعض النقاط السريعة باختصار شديد:

1- حصل تغيير هائل في بنية النظام الإداري في تركيا:

دمّر النظام البرلماني ليتحول إلى نظام رئاسي/ استبدادي يتحكم فيه شخص واحد بجميع السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) وأصبح مبدأُ فصل السلطات جزءاً من الزمان الغابر.

2- تم فصل هيكل الجيش عن الناتو:

طُرد ما لا يقل عن 17 ألفاً و380 شخصاً من القوات المسلحة التركية، فيهم حوالي 150 جنرالاً، وهذا الرقم يقابل أكثر من 40 في المئة من مجمل الجنرالات في الجيش.

وبعد هذا التغيير في الجيش، بدأت القوات المسلحة التركية تميل نحو المعسكر الروسي - الإيراني، الذي يصف نفسه بـ"الأوراسي"، وتم تشكيل القيادة الجديدة للجيش بكوادر متماشية مع سياسات الحزب.

3- دخل السلك القضائي تحت أمر السلطة الحزبية:

حيث تم فصل أكثر من 4500 قاض ومدع عام من وظائفهم في إطار التحقيقات المفتوحة ضدهم واعتُقلت الغالبية العظمى منهم بتهمة الانتماء إلى حركة الخدمة. وإثر ذلك تم تعيين ما يقارب 10 آلاف قاض ومدع عام جديد من بين المحامين المنتمين إلى الحزب الحاكم.

ثم تم تعديل القانون بشكل يخوّل أردوغان صلاحية التفرد بتعيين كبار القضاة والرؤساء في المحاكم العليا.

4- أعيد تنظيم سلك الدولة من الحزبيين:

طُرد 125 ألفاً و678 موظفاً حكومياً بالمراسيم الصادرة في فترة حالة الطوارئ المعلنة بعد المحاولة الانقلابية.

ثم تم تغيير المعيار في التوظيف الحكومي لسد كل هذه الوظائف الشاغرة بالأشخاص المنتمين إلى حزب العدالة والتنمية.

فقد كان المعيار الرئيس منذ عقود في تعيين الموظفين المدنيين في سلك الدولة هو النجاح في الامتحان المركزي (KPSS). ولكن تم تغيير هذا المعيار لتحُل محله المقابلة الشخصية. وخلال المقابلات تم توجيه أسئلة أيديولوجية وسياسية ودينية للمرشحين لهذه الوظائف للتأكد من مدى قربهم من أيديولوجيا الحزب الحاكم.

5- الهيمنة على وسائل الإعلام:

تم إغلاق 179 مؤسسة إعلامية، بما في ذلك 53 صحيفة و37 محطة إذاعية و34 قناة تلفزيونية، و29 دار نشر، و20 مجلة، وست وكالات أنباء.

تم سجن ما يقرب من 200 صحافي. كما شددت القيود على وسائل الإعلام الرقمية، من خلال قواعد صارمة تسهل منع الوصول إليها.

6- تغيير النظام التعليمي:

تم إغلاق حوالى 1200 مدرسة و22 جامعة، وتم سجن آلاف المدرسين أو طردهم من وظائفهم. ثم حُوّلت المدارس التي تم إغلاقها إلى ثانويات للأئمة والخطباء، التي أصبحت معاقل لكوادر الإسلامويين السياسيين.

7- إعلان حالة الطوارئ:

تم إعلان حالة الطوارئ (OHAL) في البلاد مدة عامين، خلالَها:

اعتُقل 511 ألف شخص.

وأُغلقت 2761 مؤسسة ومنظمة.

وألغي حوالي 250 ألف جواز سفر.

8- تعليق الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان:

بدأت البلاد تصبح مسرحاً لعمليات التعذيب بشكل واسع ومنهجي، وعمليات قتل وخطف "مجهولة الفاعل". وتم وضع قانون يمنع ملاحقة الموظفين الحكوميين العاملين أثناء حالة الطوارئ، ما أتاح المجال لانتهاك حقوق الإنسان. وبخاصة في ملف حقوق النساء الحوامل والأطفال الرضع الذين يقضون طفولتهم في السجون مع أمهاتهم على الرغم من القوانين التي تعارض ذلك أو تتيح المجال لتحسين أوضاعهم في إطار الحقوق.

9- عمليات عسكرة عابرة للحدود:

بعد أحداث 15 يوليو مباشرة تم اتخاذ القرار بدخول القوات المسلحة الأراضي السورية، وذلك بعدما تمت تنحية كل العسكريين الذين كانوا يعارضون ذلك. تلتها المشاركة في الحرب الأهلية في ليبيا.

ولا يزال هناك تخطيط للتدخل في الحرب اليمنية. وبهذه الطريقة أصبحت تركيا طرفاً في كثير من الصراعات الساخنة في المنطقة، في حين أنها كانت في السابق تفضل دائماً أن تظل محايدة أو تقوم بدور الوسيط في مثل تلك النزاعات.

فهل ترون فرقاً بين أهداف الخميني في إيران وأهداف أردوغان التي ذكرناها أعلاه؟

ولكن ينبغي أن لا تكون كذلك، ولن تكون!

المزيد من آراء