Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"النسوة اللاتي... " رواية خيال علمي عن وباء في بلد متوهم

المصري وجدي الكومي يتخيل حربا كابوسية حول داء العقم تعلنها شركة "فارما" للأدوية

مشهد خيال علمي انطلاقاً من الوباء (يوتيوب)

بعد عشرين عاماً على ثورة جارفة، تغلَّب العقم على رجال "بلد المحيط"، واسترعى ذلك انتباه الأمم المتحدة، فأرسلت مندوباً لها إلى البلد نفسه في مهمة سرية هدفها الوقوف على أسباب ذلك الوباء وإيجاد حل للقضاء عليه، قبل أن يتفشى في بلدان أخرى. ويتولى المندوب الذي يدعى "جون" السرد في بعض مواضع الرواية التي تنتهي بقتله بعد خطفه، ما يعيد إلى الأذهان قضية الباحث الإيطالي جوليو ريجيني الذي اختفى يوم 25 يناير (كانون الثاني) 2016 وتم العثور على جثته مشوَّهة بعد نحو عشرة أيام على اختفائه، علماً أنه كان طالب دكتوراه في كلية جيرتون في كامبردج وذهب إلى القاهرة ليكمل بحثاً في موضوع اتحادات العمال المستقلة في مصر.

هذا ما تسرده رواية "النسوة اللاتي..." للكاتب المصري وجدي الكومي، الصادرة حديثاً عن دار ممدوح عدوان، ودار سرد، بغلاف للفنانة اللبنانية نجاح طاهر. وتتضمن الرواية إشارة صريحة في بداياتها إلى قضية ريجيني، "باحث اختفى لعشرين يوماً قبل العثور على جثته مشوهة" ص12، من دون أن تذكر اسمه، امعاناً في "التخفي"، والإيهام بأن أحداثها تقع في زمن "مبهم"، وفي بلد لا وجود له في الواقع، لكن تكرار إشارات مشابهة يضرب ذلك الإيهام في مقتل، ويجعل القارئ على ثقة من أن البلد المشار إليه هو مصر، والزمن هو الآن.

داء العقم

تتمحور رواية "النسوة اللاتي..."، حول "سين عين" باعتباره الناجي الوحيد من العقم، ما يجعله مطلباً ملحاً لنسوة المدينة الراغبات في الإنجاب."جون"، يؤكد أن رؤساءه يعتقدون أن قصة حب يمكن أن تعيد الأمور في هذا البلد "إلى ما كانت عليه" ص26، وسرعان ما سيكتشف الشخص الوحيد الناجي من الوباء ويرمز إلى اسمه بـ"سين عين". كان "سين عين"؛ "مقموعاً في وظيفة مدمرة للأعصاب. كان يعمل في أرشيف صحيفة". كما سيكتشف "جون" تنطيماً يدعى "الشيء المفقود" يصدر صحيفة سرية. ذلك التنظيم سيشكل فرقة اغتيالات من مجموعة مِن النسوة دربهن "حسين المشرحجي"، وهو ضابط سابق في جهاز أمني رسمي، "على التخفي والرماية والقنص والانسحاب تحت تغطية جيدة". ثم تظهر كائنات شفافة هي عبارة عن حيوانات منوية تساعد النسوة في حربهن التي أطلقن عليها "حرب الولادة" ضد ميليشيات تتبع شركة أدوية تدعى "الفارما" يقودها "بعل زبول" الذي يصمم على قتل الناجي الأخير من العقم، "سأتخذ طريقاً وسطاً بين تكليفي بقتله، ورغبتي الخاصة في معاينة حقيقة أمره عن كثب" ص223، لكنه في النهاية يقرر الإبقاء على حياته إذ ربما يحتاجه في وقت ما.

 

هؤلاء المرتزقة الذين تضمهم ميليشيات "الفارما" المدعومة حكومياً، هم من فضوا اعتصام النسوة اللاتي رفضن الخضوع لإخصاء رجال البلد، وما يترتب عليه حرمانهم من نعمة الأمومة. جرى فض ذلك الاعتصام بعنف مفرط ما أسفر عن مقتل آلاف النسوة، وهو ما يحيل إلى ما جرى خلال فض اعتصامي جماعة الإخوان المسلمين عقب إزاحتهم من الحكم في مصر في 2013، وإن اختلف السياق، فالمشترك بين الحادثتين هو لجوء سلطة الحكم، هنا وهناك، أقصى درجات العنف، في مواجهة فكرة الاعتصام.

يلتقي جون بـ"شاهيناز" وهي "عجوز شائخة من الداخل، فاتنة صبوح من الخارج"، فيما رئيس البلد لا تفارق وجهه، على رغم المصيبة، "ضحكة ساخرة متشفية"، والجدران باتت هي "صحف الشعب". المعمرة الفاتنة هي نفسها "فتاة ميدان الخضراء" التي جرى اغتصابها وسط عدد كبير من الناس في باحة شهيرة لباصات النقل العام. تحطمت حياتها بعد تلك الواقعة، لكن كما تقول هي في جزء من السرد؛ "انتصر لها الزمن بأن تظل جميلة، تعويضاً لها عن الفضيحة التي لاحقتها" ص29. لكن يتضح أنها تسببت في عقم كثير من رجال البلد؛ "هل أقول إنني أم الشرور وأنني حين أُقبِل الرجال أذيب رجولتهم مثل الميدوزا". تدير محلاً لبيع مستلزمات دفن الموتى في حي باب القمر، وتتردد على ضريح سيدي العريان في حي باب القمر ثلاثة أيام في الأسبوع. لكن يتضح بعد ذلك أن وراء ظاهرة العقم كياناً يسمى "مؤسسة المجتمع المستقيم" تعبر عن تحالف بين السلطة السياسية ورجال أعمال يتركز نشاطهم في مجال الأدوية.

حادثة واقعية

وتحيل هذه الشخصية وقصتها إلى حادث شهير كانت ضحيته فتاة تدعى أيضاً شاهيناز" وأشتهرت إعلاميا باسم "فتاة العتبة"، و"العتبة" منطقة تجارية مزدحمة في قلب القاهرة يسميها العامة "العتبة الخضراء"، وتمويه وجدي الكومي في صدد ذلك يكاد ألا يكون تمويهاً، بما أنه يحيل إلى واقع مشهور ولا يزال حاضراً في أذهان الناس. فالحادث الواقعي شهدته مصر عام 1992، وهو عبارة عن جريمة بشعة هزَّت البلد رسمياً وشعبياً، فتلك الفتاة كانت ضحية أربعة أشخاص انتهكوا عرضها وسط زحام أحد أشهر مواقف باصات النقل العام في القاهرة، أي على مرأى ومسمع آلاف الأشخاص.

بعد انقضاء عامين على بدء مهمة "جون"، تعتصم مجموعة من النساء في "ميدان الخضراء" نفسه الذي شهد قبل سنوات طويلة حادثة اغتصاب "شاهيناز"، "ولكن السلطات تفض اعتصامهن بمجزرة راح ضحيتها الآلاف" ص55. حدث ذلك يوم الثلاثاء 25 هاتور عام 6260 والذي يوافق ذكرى استشهاد القديس مرقوريوس أبي سيفين في القرن الثالث الميلادي، وهو تاريخ مبهم خصوصاً في علاقته بأحداث الرواية وزمانها ومكانها. قادت عملية فض الاعتصام ميليشيات شركة "الفارما" للأدوية ثم دخلت في حرب مع ما تبقى من النسوة، استعانت فيها بإمدادات السلاح؛ "مِن مهاويس السلطة السياسية الحاكمة".

تتشكك "شاهيناز" في أمر "جون"، الذي كان يقيم في بيتها، وتعتقد أنه "جلب الخراب معه، ربما يكون هو مدبر التمرد، وجاسوساً لتخريب بلد المحيط، ولكن هل يحتاج بلد خرِب مَن يتآمر عليه؟ ألم نفعل ذلك بأنفسنا؟ سنوات نصدق الأوغاد وننتخبهم ونجلب لأنفسنا الفقر".

إطار الكتابة ومتنها ينتميان إلى اللاواقع، إلا أن إشارات واضحة، أطاحت ذلك النهج بما ينطوي عليه مِن نزوع مفرط في الرمزية والعجائبية، فضلاً عن استحالة تصديق أن الناجي "سين عين"، كان الوحيد في "بلد المحيط" الذي لم يعلم بأمر العقم الذي أصاب الرجال ودفع النساء إلى الحرب من أجل أن تستحوذ واحدة منهن أو أكثر عليه، قبل أن تقبض عليه ميليشيات شركة الأدوية المدعومة من القيادة السياسية والعسكرية لذلك البلد. وحين عرف "سين عين" بأهميته تلك، تعامل مع الأمر بلا مبالاة فسرها الراوي بأنه على الأرجح يفضل الرجال على النساء، جنسياً، أما هو فقال: "لا شيء في هذا العالم يستحق النجاة من الفناء سوى سلاحفي"، في إشارة إلى السلاحف التي كان يربيها في بيته ويرفض أن ينشغل بسواها.

وأخيراً فإن وجدي الكومي نجح في أن يرسم واقعاً كابوسياً لبلد يخضع لحكم مستبد، يسيطر حتى على أخص خصوصيات البشر، وهو الحب، فيتحول إلى كيان عقيم بلا أمل في استعادة خصوبته المسلوبة.

المزيد من ثقافة