Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"توباز" لمارسيل بانيول هل كانت أول اقتباس سينمائي عربي؟

الحدود الممكنة لمقاومة الشر في عالمنا المعاصر

مشهد من الفيلم الفرنسي المقتبس عن المسرحية (موقع الفيلم)

هناك عادة ما يشبه الإجماع عند التأريخ للسينما المصرية وصانعيها، على أن واحداً من الأفلام الكوميدية الأكثر جدية عند تلك البدايات كان فيلم "ياقوت" من تمثيل نجيب الريحاني عن سيناريو كتبه الريحاني نفسه وبديع خيري ومن إخراج الفرنسي إميل روزيه.

ويذكر العديد من المؤرخين أن الفيلم مقتبس من مسرحية "توباز" للكاتب والسينمائي الفرنسي مارسيل بانيول، سوف يُقتبس كثيراً لاحقاً في السينما المصرية وغيرها، بل إنه نفسه سيخرج في السينما الفرنسية بعض الأفلام الأكثر انتماء إلى السينما الشعبية، لا سيما في تصويرها حكايات تدور في الجنوب الفرنسي، وتتمحور دائماً حول موضوعات أخلاقية. ومن هنا اعتبر "ياقوت" أول اقتباس مصري لرواية أجنبية بصرف النظر عن تلك الأفلام التي قلّدت شرائط غربية وما شابه ذلك. ولكن يبقى سؤال: هل "ياقوت" بالفعل اقتباس لـ"توباز"؟ الجواب هو لا. لا علاقة بين الاثنين رغم تأكيدات "المؤرخين". ومن هنا فإن المظنين هو أن "ياقوت" مقتبس عن عمل آخر ربما لبانيول نفسه. وبالتالي سيظل هذا يعني أن بانيول صاحب أول اقتباس عن أدب أوروبي في تاريخ السينما المصرية.

مهما يكن فإن بانيول حين كتب هذه المسرحية ونشرها للمرة الأولى عام 1930، أي قبل تحقيق "ياقوت" بخمس سنوات، وحوّلها بعد ذلك إلى فيلم سينمائي لاقى نجاحاً هائلاً في فرنسا بصورة خاصة، وكان من بطولة فرنانديل. كان قد اتخذ قراره بالتوجه إلى السينما كاتباً ومخرجاً، بعدما أبلى بشكل جيد وناجح في المجالين الروائي والمسرحي.

هل مقاومة الشرّ ضرورية؟

تدور مسرحية "توباز" حول رجل في منتهى الحكمة والنقاء الأخلاقي هو توباز نفسه، الذي لا يؤمن إلا بالصدق في التعامل؛ انطلاقاً من أن الحكم والعبارات الفخمة التي يراها معلقة على الجدران في الصفّ حيث يعلم الأخلاق، هي عبارات منزلة يؤمن بها البشر جميعاً وتحكم مسارهم. غير أنه سرعان ما سيكتشف أن ذلك ليس صحيحاً وأن الشر موجود في هذا العالم، بل يحكمه وتحديداً من خلال لعبتي المال والسلطة. لكنه قبل اكتشافه هذا يتعين عليه أن يمر ببعض التجارب الشخصية التي تؤدي الأولى إلى طرده في عمله لدى الأب المدير موش، الذي كان توباز مغرماً بابنته لكنه يتقاعس عن الغش الذي ينصحه به موش، فتكون النتيجة طرده واضطراره إلى العمل لدى والدة تلميذته الحسناء سوزي، التي كانت تبحث عن شخص له مواصفات توباز، آملة منه أن يساعدها في أعمال غير شرعية تمارسها في المجلس البلدي الذي يعمل عاشقٌ لها مستشاراً فيه، وتريد هي أن تحقق أكبر قدر من الربح مستفيدة من تلك الوضعية. وهي تستخدم لدمج توباز في مشروعاتها، حاجة هذا الأخير إلى العمل، ومن ثمّ سحر ابنتها سوزي.

على هذا النحو تدور هذه الحكاية التي يعيش فيها توباز صراعاً حاداً، إنما مغطى بقدر كبير من السذاجة الظاهرة. والظاهرة فقط، لدى توباز الذي سوف نكتشف أنه ليس أحمق إلى الحد الذي يبدو عليه؛ حيث تكون النهاية اندماجه في اللعبة، وقد بات يؤمن في نهاية المطاف أن "المال كل شيء في هذا الوجود"، كما يقول ذات لحظة لصديق له، وقد صار جزءاً من لعبة المال المقدسة تلك. مضيفا أن اتّباع سياسة اللؤم في العالم هي الطريقة الوحيدة للتعايش مع كون يحكمه المال.

"خارج الموضة"

حين رحل الكاتب والسينمائي الفرنسي مارسيل بانيول عن عالمنا عام 1974، كانت أعماله كما شخصيته، قد كفت عن أن تكون "على الموضة"، وكان كثير من أهل الحداثة والمعاصرة ينظرون إليه باعتباره فناناً "رجعياً" ذا أفكار وأساليب لا تناسب العصر. وكان هو نفسه قد ركن لتلك الفكرة منذ زمن، وجلس يرقب مسيرة الفنون والآداب من حوله مكتفياً بما تبقى له من مجد قديم، وبعضويته في الأكاديمية الفرنسية، غير راغب حتى في مجادلة من كانوا ينظرون إليه باعتباره قد أضحى كاتباً متحفياً ينتمي إلى ماضي فرنسا لا إلى حاضرها.

ولكن، ما إن انقضت على ذلك الرحيل عشر سنوات حتى عاد مارسيل بانيول ليعتبر حديثاً ومعاصراً، وعادت كتبه تباع بمئات ألوف النسخ. كان يكفي لذلك فيلم واحد (تبعه جزءٌ تالٍ) اقتبسه مخرج فرنسي حصيف عن رواية لبانيول عنوانها "جان لا فلوريت" حتى تنقلب الأمور رأساً على عقب: تدفق الملايين لمشاهدة الفيلم، وراحت دور النشر تتفنن في إصدار طبعات جديدة من الرواية، ثم من روايات بانيول الأخرى، وتلا "جان لا فلوريت" فيلم "مانون النبع"، ثم عمد مخرج آخر إلى تحقيق فيلمين تاليين عن روايتين أخريين لبانيول هما "قصر أمي" و"مجد أبي". وبسرعة صار مارسيل بانيول، بعد عقد على رحيله سيد الأدب الفرنسي دون منازع، واكتشف الكثيرون أن أدبه أدب معاصر، يلامس الكثير من القضايا المعاصرة، لا سيما قضية البيئة، وعلاقة الريف بالمدينة، والعلاقات البشرية وسمو العواطف.

سبر أغوار النفس البشرية

على هذا النحو مكنت السينما الحديثة بانيول من تحقيق ثأر لم يكن قد خطر في باله، على أي حال، هو الذي كانت السينما الأميركية نفسها قد كرمته قبل عقود حين اقتبست من ثلاثيته المارسيلية الشهيرة حكاية "فاني" لتقدمها في فيلم أميركي حقق نجاحات كبيرة في أواخر سنوات الستين.

بهذا المعنى وبغيره يمكننا القول إن مارسيل بانيول، المولود عام ولادة السينما (أي في عام 1895) كان على الدوام، ولا يزال حتى اليوم، واحداً من أوائل وأهم الكتاب الذين أدركوا ضرورة الربط بين السينما والأدب. فهو منذ اكتشف فن السينما الناطقة، عند نهاية عشرينيات هذا القرن، وأولع بها، حوّل نفسه كما أشرنا، من كاتب مسرحي إلى كاتب سينمائي، ثم بعد ذلك إلى مخرج سينمائي، قائلاً، إن السينما الناطقة فن يمكن الأدب الروائي والمسرحي من أن ينتشر انتشاراً كبيراً بين أوسع قطاعات الناس، إضافة إلى أن فن السينما يتميز عن فن المسرح بقدرته، عبر اللقطات الكبيرة خاصة، على سبر أغوار النفس البشرية.

كان بانيول في بداية حياته العملية أستاذاً للغة الانجليزية في الجنوب الفرنسي، ثم بدأ يكتب مسرحيات محلية تعبر عن حياة الجنوب والريف بشكل عام. وحين انتقل إلى باريس العاصمة بعد ذلك فوجئ بأن مسرحياته معروفة ومستساغة، في الوقت الذي اكتشف فيه فن السينما فغرق فيه كلياً، كاتباً ومنتجاً ثم مخرجاً، معتمداً على ممثلين كبار اصطحب بعضهم معه من الجنوب: ريمو وفرنانديل بين آخرين. والحال أن الأفلام التي اقتبست من رواياته وتحدثت كلها بلكنة الجنوب الفرنسي الطريفة والمحببة، لقيت نجاحاً كبيراً حيثما عرضت، وكان من أبرزها: "ماريوس" (1931) "فاني" (1932) و"توباز" (1932) وهو لم يُخرِج أياً منها على أي حال. بعد ذلك فقط سوف يتحول إلى الإخراج عبر أفلام لم تلق نجاح نظيرتها الأولى، وإن كانت أكدت قدرة السينما على خدمة العمل الأدبي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كاتب القرن العشرين وشروره

رغم علاقة مارسيل بانيول بالسينما، فإن الفرنسيين نظروا إليه أولا باعتباره كاتباً ريفياً كبيراً، نقل إلى العاصمة وإلى عامة القراء حياة الريف وعاداته، وهو أمر يستسيغه اليوم أنصار البيئة الذين يمجدون بانيول تمجيداً كبيراً في مئوية ولادته، وخلص الأدب الفرنسي من حذلقته المدنيّة السائدة. وبانيول، بصفته أديباً لا بصفته سينمائياً اُنتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية ومُجد تمجيداً رسمياً وشعبياً كبيراً عند أواسط هذا القرن. وهو لئن كان قد توفي وسط شيء من الصمت كما أسلفنا، فإن فرنسا اليوم تستعيد ذكراه متسائلة بدهشة عن سر ذلك القدر الكبير من البراءة والنقاء الذي طبع أعمال كاتب عاش كل شرور القرن العشرين وتقلباته دون أن يفقد إيمانه بالإنسان.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة