لا أستطيع ادّعاء الإحاطة بتجربة الشاعر السوري عبد القادر الحصني، ولا الإلمام بمجموعاته الشعرية كلّها (ثماني مجموعات)، ولا حتى بكتاباته النثرية، من مقالات وشروح منها شرح ديوان الحلاّج، 2011. وربما يستغرب البعض تأليفه كتاباً عن الشاعر "السياسيّ" مظفّر النوّاب (شاعر المعارضة السياسيّة، دراسة أدبية 1991)، هذا فضلًا عن قصص للأطفال "سر المدينة النائمة (1985). لذلك يصعب الإلمام بهذا التنوّع، لكنّ مختاراته الشعرية الجديدة هذه بعنوانها اللافت "الحمدُ للأرض الجميلة" (العائدون للنشر والتوزيع، عمّان، 2020)، قد تمنحُ قارئها إطلالة على جوانب مميّزة من هذه التجربة التي لا يمكن اختزالها في كتاب.
وعلى مضَضٍ أستطيع تقديم هذه "المجموعة" المختارة من بين أعماله، إذ لا يمكن "اختزال" تجربة كتجربته الثريّة، في هذا العدد من الصّفحات، حوالى مئتي صفحة. إنّ الاكتفاء بهذه "المختارات مُغامرة قام بها بنفسه، فاختار ما "يعتقد" أنّه الأفضل والأجمل، فكانت هذه المجموعة "الباسقة" كأشجار حِمص، في هذا العدد القليل من قصائده، من بين مجموعاته الشعرية الصادرة على مدى يزيد على أربعين عاماً، قدّم الشاعر أثناءها الكثير للحياة الثقافية السوريّة والعربية.
في كتاب المختارات نتنقّل بين ثيمات متعددة، لكنها متقاربة، بل أكاد أقول إنّها تحفر في "أرض" واحدة، وإن تعدّدت حقولها ومياهها. ثيمات تجمع الكونيّ والوجوديّ والروحانيّ، من دون أن تنفي الأرضيّ المتسامي وقيم الإنسانية والوطن الأعمق. فأرض الحصني التي في عنوان المختارات بالتأكيد ليست هي الكرة/ الكوكب، بل وكما تبدو في تنوّعها، أرض أوسع وأعمق كثيراً، ومن الممكن القول إنها "مخالفة" تماماً لهذه الأرض "الأرضيّة" التي يعارضها الشاعر بأرض يبدو أنّه "يبتكرها" من حياة عاشها في مراحل وأزمنة وأمكنة عدّة، وعلى نحو ما، هي الأرض التي تبدأ بالطفولة، وتجمع بين الأحلام والواقع والرؤى التي تجمعها الحياة بكل أبعادها ومعانيها ومعاناتها. فهل تكون أرض الحصني، في عنوان المختارات، هي "أرض الحياة"، أم أنها الحياة ذاتها في تصوّر شاعري يرقى إلى حدود الرؤى البالغة الشفافيّة، والبالغة التسامي عن "الحياة الأرضية" المألوفة والبالغة الولوغ في السفلي؟! ومن هنا يبدأ العنوان: "مِغزل الزّمن الجميل/ أناط عادات الشواطئ والنّساء/ بدورة القمر الملوَّن/ واستفاض على الحقائق/ بالشَّقائق من دم ثم استدار/ فكوّرت كفّاه قُبَّتَه البهيَّةَ/ فوق شيءٍ من حُطامي".
بهذا المدخل يمكن الاقتراب من مضمون العنوان "العريض" ودلالاته، إذ يتكئ على أسطورة الطوفان الشهيرة، فيجعلنا نحمد الأرض الجميلة التي هي الحياة الجميلة، وهذا من دون الفصل بين ما هو "حياتي" معيش، وبين ما هو اتّكاء على ما هو ثقافي ورؤيوي روحاني وشاعري، بل بالمزج بينهما على نحو نشعر فيه بالحوار والجدل، بلا تكلّف، بل بكثير من الطراوة والطلاوة والرواء. كما أن العنوان ينطوي على إشارة واضحة إلى أرض "غير جميلة"، أرض وربّما أراض قبيحة ينبغي إنكارها. وبعد العنوان، لا أنوي هنا عرضاً للمختارات، بل مجرد إطلالة على ملامح أساسية في هذا الكتاب الذي أشعر بأنّني تشرّبته بحب، بكل ما فيه من "خمريّات" وغزليّات لا تخلو من نفَس إروتيكيّ.
عالَم غنائي
أكثر ما يشد القارئ منذ بداية كتاب المختارات، إهداء ينم على قدر من التواضع، بحيث يخاطب قارئه بالقول "إذا وجدتَ في هذه القصائد شيئاً من الشعر، فهي مهداة إليك". لكنّه تواضع الواثق بما يقدّم للقارئ وللشعر، ثقة ناجمة عن عمق الإخلاص للعالم الذي يضع الشاعر نفسه فيه، عالم الأرض الجميلة/ الحياة وما تنطوي عليه من شغف بكلّ ما هو أجمل. ففي العنوان اختزال مبسط لعوالم الشاعر و"حيواته".
في البدء نقرأ في عدد من قصائد ديوانه الذي حمل عنوان "ينام في الأيقونة" (2000)، وتحديداً نبدأ مع قصيدته "المغنّي" المطوّلة وذات الإيقاعات المتنوعة، وفيها نقرأ رؤى الشاعر في أحواله ومقاماته، لو أردنا استعارة مفردات الصوفيّين، ونجد الشاعر/ المغنّي "يُسرِّحُ أنفاسَه في هوى الكلماتِ"، في ما يقارب عالم شعر الرّعاة والرّومانسيّين، الشعر الذي يحيل على حياة البساطة، ويحنّ إلى الطبيعة وعالم الريف بمفرداته الغنائية العذبة والرقيقة.
والحصني الذي يجمع مواقف النفّري ومخاطباته، وأحوال الصوفيّين ومقاماتهم، لا ينسى أنه ابن هذه "الأرض الجميلة"، فيبقى في "المقام الأرضيّ" السّامي، فينتقل ليعيش مع نزار قبّاني ومحمود درويش، أبناء الأرض الجديدة بحياتها الأجمل أيضاً. إنه يكتب عن جماليّات الرّيف كما عن عذاباته، حيث "دخان القرى في المساء أباديد كفّ الرّياح/ وقد غاب صوت المغنّي/ فماذا يفيد التَّريّث فوق سَماء الحقولْ؟".
وفوق هذا الحسّ الغنائيّ، والمأسوي ربما، ثمّة الأسئلة التي تجعل من عوالم الرّيف سؤالاً وجوديّاً عميقاً، فالنّاي الذي هو أحد معالم الحياة الريفية، يحمل سؤال الإنسان في تحوّلاته مع الزّمن والوجود، وكما ينتقل الإنسان من حال إلى حال، من الطفولة إلى الكهولة فالنهاية، فالنّاي أيضاً يجسّد مثل هذه الحالة في انتقاله من الشجر الأخضر إلى هذه القصبة التي تصدر أجمل الأنغام، ولكن "من سوف يحنو على النّاي/ صار إلى قصب يابسٍ/ وهو ما زال يحلُم أنْ يستعيد على ضفَّة النّهر خضرتَهُ/ وتمايلَ أوراقه في الهواءِ/ إذا انثال رمل ثقيل على شفتَيهْ؟". وبمثل هذه الصور الخضراء يرسم الشاعر مشاهد قصيدته الباذخة. وكما تحضر تلك الغنائية الحافلة بالدراميّ أيضاً، فإن للحكاية والسّرد حضورهما البارز في قصيدة الحصني، لكن حضور المفردات الثلاث يلتقي ويمتزج في مقاطع تجمع ذلك كله "إنّا نريد من الحكاية روحَها، ونريد من صوتِ المغنّي/ أنْ يقول لنا تفاصيل الحكايةِ/ رعشُهُ العذبُ الحميمُ"، وغالباً ما تتكئ الحكاية على أسطورة أو خرافة أو على نصوص تراثية كالقرآن، لكنها هنا تتخذ ملمَحاً ونكهة جديدين، كما في استعارته "خُذْ ريشةً بيضاءَ مثلك من جناح للبُراقِ/ واكتبْ من الكَلِم البواقي".
مرجعيّات وجذور
إذن، نحن حيال سماوي (وليس دينيّاً) يلامس الأرضي، لكنها ليست الأرض، وروحاني يمازج الجسدي، ونوراني مسكون بالعتمات. وفي هذه العوالم كلها، ينهل شاعرنا من "ثقافات"عدة، دينية وأسطورية ميثولوجيّة ضاربة في أعماق الحضارات، خصوصاً ما مر على سورية، وقد يظهر ذلك واضحاً حيناً، وخفيّاً حيناً، كما في اتكائه على نشيد الإنشاد مثلاً "وأنا عند حبيبي/ عُنُقي في عقدي/ عَسَلي في شَهدي".
ولا تخلو قصيدة الحصني من "الرؤية" السياسية، بل ترى ما يجري من حوله، لكن من منظوره هو، بعيداً عن كل منظور سياسيّ، فهو يرى أن "سوف يكون صقيع بقرب المَواقد/ عرس بطعم الحدادِ/ وسجن بحجم البلادِ"، ويكتب قصيدة "الضجيج" بمناسبة مرور خمسين عاماً على نكبة فلسطين، لكنه قد ينتقل فجأة إلى مناخ مختلف، إلى إنسان ليس في وسعه "إقناع ليل صغير، ليصبح (مَسْكَرَةً) لرموش البناتْ...، ومنديلها (جعلكته) قليلاً، وألقته في سلّةِ المهملاتْ". أي من قضايا الوطن عموماً، إلى قضايا الإنسان "الصغيرة" في صورة خاصة. وكما يرى كيف تكون ثمة "نياشين للهاربين من الحرب/ أقواس نصر لما ارتكبوا من مَجازرَ في أهلهمْ"، يعود إلى وجوديّته في القول "والحائرون بقول ما يَنقالُ/ سوف أبثُّهم فحوى ضَلالي في الوجودِ، وأنّني أعددتُ لي ولهمْ وللآتين أيضاً، بعدَنا، تيهاً جميلاً".
وختاماً، وبالعودة إلى "الأرض" التي تحمل المختارات اسمها ودلالاتها، وهو ما أحببت التركيز عليه هنا، فإن تعلق الحصني بالأرض، يقودنا إلى ما قال محمود درويش يوماً "هذا طبيعي، أنا شاعر أرض"، فهو شاعر أرض هي "الأرض الجميلة"، على الرغم من تنوع مناخاته وتعدّدها وثرائها.