Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الخدمات الصحية الوطنية" البريطانية تحتفي بعامها الـ72

روح الانتصار في الحرب العالمية الثانية وحكومة عمالية والسعي إلى بلاد أكثر عدلاً

وزير الصحة البريطاني أنورين بيفان أثناء زيارته أحد أوائل مستشفيات هيئة "الخدمات الصحية البريطانية" في 1948 (غيتي)

تصادف 5 يوليو (تموز) مع احتفاء هيئة "الخدمات الصحية الوطنية" البريطانية بعيد تأسيسها الثاني والسبعين. وآنذاك، تمثّلت انطلاقة خدماتها بافتتاح "مستشفى بارْك" في مانشستر (التي هي "مستشفى ترافورد العامة" الآن)، من قبل وزير الصحة العمالي، أنورين بيفان، في 1948. وقد صُمّم ذلك المشروع الضخم كي يجمع كل مقدمي الرعاية الصحية تحت جهاز إداري واحد، بغرض توفير العلاج الطبي مجاناً للجميع "من الولادة إلى الوفاة"، في مكان تلقي الخدمة الطبية.

وكذلك تقرر تمويل تلك الهيئة الصحية الجديدة، بشكل حاسم، بواسطة المساهمات الضريبية، ما يعني أن الأفراد يموّلونها بحسب قدراتهم المالية. وكذلك ألا يُقصى أي شخص من الحصول على العلاج الطبي بسبب التكاليف الصحية العالية، ولا يُدفَع إلى وضع يكون فيه تحت رحمة الأقساط الشهرية التي يتوجب عليه أن يدفعها مقابل حصوله على التأمين الصحي.

وتجدر الإشارة إلى أنه قبل تأسيس هيئة "الخدمات الصحية الوطنية"، قُدِّمت الرعاية الصحية في بريطانيا في شكل مبعثر، وأُديرت من قِبل مزيج من برامج تعود للقطاع الخاص والبلديات، وكذلك تباينت نوعيتها من مكان إلى آخر بشكل كبير، مع تدخل قطاع الجمعيات الخيرية للإمساك بزمام الأمور، وذلك أمر يعتمد بحد ذاته على مساعدات مالية من خيرّين.  

بقول آخر، ظهر ذلك النظام الصحي كأنه من مخلفات العصر الفيكتوري، ولم يكن ملائماً أيضاً لتحقيق الرعاية الصحية للمواطنين البريطانيين، الذين نال الأثرياء منهم عناية جيدة، فيما تفشى الحرمان بين أبناء الطبقة العاملة الذين أُقصوا بسبب الأسعار الباهظة، من علاجات أساسية ضرورية.

ويعود الفضل في ابتكار تسمية "الخدمات الصحية الوطنية" إلى بنجامين مور، طبيب من ليفربول أسس "جمعية الدولة الطبية". إذ أوصى في كتاب أصدره عام 1910 بعنوان "فجر العصر الصحي"، بإنشاء نظام طبي يكون تابعاً للدولة ويعمل فيه أطباء متخصصون كأنهم رجال شرطة، فيتولون كبح المرض على غرار ما تفعله مراكز الشرطة في معالجتها الجريمة.

واستطراداً، جاءت البادرة المبكرة صوب تحسين الخدمات الصحية لكثير من الأفراد العاملين، مع تقديم وزير المالية ديفيد لويد جورج "قانون التأمين الوطني" في 1911. وتضمن استقطاع مبلغ صغير بشكل أوتوماتيكي من أجور العمال الأسبوعية، مقابل تمكنهم من الحصول على الرعاية الطبية، مع ملاحظة أن ذلك الأمر يتطلب تسجيل كل مريض لدى طبيب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وخلال الحرب العالمية الأولى، أظهر الجيش البريطاني قيمة الرعاية الطبية المنظمة في دعمه للجنود المقاتلين على الخطوط الأمامية عند تعرضهم للإصابة خلال المعارك. وقد كُلّف السير برتراند دوسون لاحقاً من قبل وزير الصحة الليبرالي، كريستوفر أديسون، ترؤس مجلس يقدم الاستشارات حول الكيفية التي يمكن تطبيق الخدمات الصحية المنظمة على المستوى الوطني.

وعلى ضوء ذلك، أصدر جهاز الدولة  في مايو (أيار) 1920 "التقرير المؤقت حول التوفّر المستقبلي للخدمات الطبية والخدمات المتصلة بها 1920". واعتبر ذلك التقرير استشرافاً للتطور الذي حدث لاحقاً.

إذ استنتج اللورد دوسون في تقريره أن "القصور في التنظيم أصبح أكثر وضوحاً مع نمو المعرفة، ومع القناعة المتزايدة بأن أفضل طريقة للحفاظ على الصحة ومعالجة الأمراض، يتطلبان جعلهما متوفّرين للمواطنين جميعاً".

ومضى عضو مجلس اللوردات، في تحديد بنية معنية بتوفير الرعاية الصحية. ورأى أنها تبدأ من معالجة  المرضى في عيادة طبيب أولاً قبل أن تستمر تالياً في مركز صحي أولي أو ثانوي، باعتبار أن ذلك يعتمد على مدى حاجة المرضى إلى رعاية وقائية أو معالجة متقدمة من قِبل متخصص.

وكذلك توقفت اللجنة التي ترأسّها اللورد دوسون، عند تأييد العلاج المجاني، تخوفاً من أن تفوق كلفة ذلك الإجراء قدرة خزينة الدولة على تحمّله.

وكذلك لم تُفعّل التوصيات التي قدمها السير برتراند بسبب سقوط الحكومة اللاحقة التي ترأسها لويد جورج، لكن السلطات المحلية تحملت بالفعل مسؤولية المستشفيات التي تعتني مجاناً بالفقراء وفق "قانون الفقراء" (الصادر عام 1834) بموجب "قانون الحكومات المحلية 1929" في نهاية ذلك العقد.

ومثلاً، تسلّم "مجلس مقاطعة لندن" مسؤولية 140 مستشفى من "مجلس مقاطعة متروبوليتان" غداة إلغائه.

وخلال عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، قدمت "الجمعية الطبية البريطانية"، و"جمعية المستشفيات" ومراكز عدة للدراسات الاستراتيجية، تقارير تطالب بإصلاح النظام الصحي، وتدعو إلى تعاون أكبر بين مقدمي الرعاية الصحية محلياً بهدف ضمان زيادة التجانس والكفاءة.

وفي 1932، قبِلَ حزب العمال بالحل الذي اقترحه سومرفيل هايستنغز (رئيس "الجمعية الطبية الاشتراكية") المتضمن دعم إنشاء خدمات طبية تابعة للدولة.

وبالنتيجة، يمكن القول إن شعبية رواية الطبيب أيه جَي كرونين "القلعة" (1937) خلّفت تأثيراً كبيراً في المساعدة على فتح حوار عام حول القواعد الأخلاقية التي يقوم عليها العمل الطبي. وإذ سجل ذلك الكتاب المُستَلْهَم من تجارب المؤلف بصفته طبيباً عاماً عمل في خدمة مجتمعات عمّال المناجم الواقعة في منطقة "ساوث ويلز فاليز" بويلز، الظلم والفقر والتليف الرئوي التي واجهها الطبيب كرونين في بلدة "تريديغار". وفي تلك الرواية، أورد المؤلّف إنه ينقل "الفظائع وأوجه الإجحاف المفصلة التي شهدها بنفسه. ولم يكن ذلك هجوماً ضد أشخاص معينين، بل ضد النظام".

وفي تطوّر متصل، مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، جرى تأسيس "خدمة مستشفيات الطوارئ" في 1939، فمهّدت تلك التجربة لما سيأتي من الأمور. وثمة تأثير عميق آخر، تمثَّل بالسير ويليام بَفَريدج الذي مهد تقريره المعنون "التأمين الصحي والخدمات المرفقة به" في 1942، الطريق لدولة الرعاية الحديثة، عبر تشخيصه "خمسة عمالقة" بحاجة إلى التخلّص منها قبل أن يتمكن البريطانيون من التمتع بالازدهار الاجتماعي، وهي العوز والمرض والجهل والقذارة والبطالة.

وعلى الرغم من أن السير ويليام نفسه لم يكن اشتراكياً، فإنه آمن بأن إراحة الأشخاص العاملين وأصحاب العمل من مشكلتي الرعاية الصحية وتكاليف معاشاتهم التقاعدية، ستحقق تقدماً في الروح التنافسية للصناعة البريطانية وتنتج قوة عمل أصح وأسعد. وكذلك حاجج بأن الالتزام الجماعي بإزالة الأمراض الاجتماعية التي شخصها، ستحقق الفائدة للجميع.

وفي 1944، استلهاماً من "تقرير بَفَريدج" أصدر وزير الصحة المحافظ، هنري ويلينك، توصيات أولية في ذروة الحرب العالمية الثانية، مقترحاً فيها إطاراً لتقديم الرعاية الصحية على المستوى الوطني. واحتوت التوصيات عدة مبادئ جوهرية لـ"الخدمات الصحية الوطنية"، تشمل خدمات مجانية في أماكن تلقيها تكون ممولَّة بواسطة ضريبة مركزية ومتوّفرة للجميع.

في المقابل، لم يُعطَ ويلينك الفرصة أبداً كي يُجرب حظه في تطبيق خطته التي أثارت معارضة شديدة من قبل زملائه في حزب المحافظين. إذ حقق حزب العمال بزعامة كليمنت آتلي انتصاراً كبيراً في انتخابات 1945 العامة، مقصياً بذلك رئيس الوزراء المنتصر للتو في الحرب العالمية الثانية، ونستون تشرشل.

واستطراداً، عُين أنورين بيفان، 48 سنة؛ الأصغر سناً في حكومة أتلي، وزيراً للصحة، ليأخذ العصا من ويلينك. وإذ أعرب عن عدم اتفاقه مع سلفه حول قدرة السلطات المحلية في إدارة المستشفيات، استنتج بيفان أن "الشيء الوحيد المطلوب فعله يتمثّل في تأسيس هيئة خدمات جديدة تماماً للمستشفيات، كي تسيطر على المستشفيات الأهلية بشكل طوعي، وتضع تحت سيطرتها كل مستشفيات الحكومات المحلية، وتنظمها ضمن هيئة خدمة واحدة معنية بالمستشفيات".

وفي 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 1946 كسب "قانون الصحة الوطنية لعام 1946" الموافقة الملكية. وبذا، وُلدت هيئة "الخدمات الصحية الوطنية". وقد تمثّلت طموحات حكومة أتلي في تحقيق الاشتراكية الديمقراطية ودولة الرعاية الاجتماعية، من خلال مواجهة "العمالقة الخمسة" التي شخّصها بَفَريدج، بشجاعة وجرأة وتعاطف، شكلّت السمة المميزة للحظة تاريخية غير عادية، توافر فيها إجماع الشعب البريطاني ووحدته، ولعلها لحظة فريدة في التاريخ البريطاني. وكذلك أشّرت روحيّة الـ1945 (عام الانتصار على النازية)، والمزاج الوطني المتفائل الذي اكتسح بريطانيا بعد "يوم الانتصار"، إلى إيمان صادق بإمكانية بناء مجتمع أكثر عدالة على أنقاض الخراب الذي سببته هجمات الطائرات الألمانية.

واستطراداً، من المؤكد أن نجاح حكومة أتلي في الحصول بسهولة على عائدات تمكنها من تحقيق دولة الرعاية الاجتماعية عبر استهداف أصحاب العمل الأثرياء بزيادة الضرائب عليهم، وإعادة توزيع الثروة التي شعرت الحكومة بأنها تأتي من العمال في الدرجة الأولى؛ شكّل أمراً لا يمكن تصور تطبيقه من دون صراع في المناخ السياسي السائد حاضراً. وفي المقابل، أفاد بيفان في كتابه الصادر عام 1952 بعنوان "بدلاً من الخوف" بأن "المبدأ الجماعي يؤكد أنه لا يمكن لمجتمع أن يسمّي نفسه متحضراً بشكل شرعي، إذا حرم شخص مريض من الدعم الطبي بسبب افتقاده القدرة المالية اللازمة في الحصول على ذلك".

© The Independent

المزيد من تقارير