Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اِيزابيل الليندي تسترجع الحرب التشيلية في رواية حب

"إيفالونا" مصائر شخصيات تتقاطع في قصتين متوازيتين

الروائية التشيلية إيزابيل الليندي (موقع الكاتبة)

ثمّة سلكان سرديان ينتظمان الأحداث في رواية "إيفالونا" للروائية التشيلية إيزابيل الليندي (دار الآداب). يتمحور كلٌّ منهما حول شخصية معيّنة منخرطة في شبكة من العلاقات.  ينطلقان من نقطتين مختلفتين، وينخرطان في علاقة يتعاقبان فيها، على المستوى النصّي. ويتوازيان غالباً، على المستوى الوقائعي، ويتقاطعان نادراً في نقاط محدّة، بشكل غير مباشر.  ويلتقيان في نهاية الرواية. فالخطان المتوازيان اللذان لا يلتقيان في العلم يمكن أن يلتقيا في الفن. فهذا الأخير من طبيعته خرق القواعد العلمية، وانتهاك المواضعات العامة. على أن الأحداث التي ينتظمها السلكان تحدث في النصف الثاني من القرن العشرين. وتتموضع في فضاء روائي ريفي شمال النمسا، وفضاء ريفي / مديني في التشيلي. وينخرط فيها عدد كبير من الشخوص، ما يعني أنّنا إزاء عمل روائيٍّ مترامي الأطراف زمنياًّ، ومكانياًّ، وشخوصاً.

السلك الأوّل يتمحور حول "إيفالونا"، الشخصية التي تعهد إليها الكاتبة بمهمّة الروي وتطلق اسمها على الرواية، ويتناول مسار حياتها في وقائعه الكثيرة، المتعلّقة بالولادة والنشأة والعمل والتشرّد والاهتمامات والعلاقات والوظيفة والدور. وفي هذه الوقائع: ولادتها من علاقة عابرة بين خادمة وبستاني. فالأمّ لقيطة، تنتقل من إرسالية دينية في الريف، إلى دير للراهبات في المدينة، إلى بيت طبيب أجنبي على أطراف المدينة، حيث تولد الراوية وتنشأ. والأب هنديٌّ، أصفر العينين، تنقذه الخادمة من لدغة أفعى وتقوم بتدليكه، حتى إذا ما انتصب جسده، تمارس الجنس معه قبل أن يغادر، وتكون إيفالونا ثمرة هذه العلاقة العابرة. وتنشأ في بيت كئيب بين أثاث عتيق ومومياءات بشرية يقوم الطبيب بتحنيطها، غير أنّ هذه النشأة لا تؤثّر في حبّها الحياة وانخراطها فيها، فتأخذ عن أمّها ضيقها بالطقوس، ونزوعها نحو التحرّر، وميلها إلى التمرّد، وولعها بحكاية الحكايات، وتأخذ عن أبيها قوّة الدم.

حين تموت الأم والطبيب، يكون على إيفا أن تجترح مساراً جديداً، يمتد من الخدمة في البيوت، إلى التشرّد، إلى العمل في مؤسسة تجارية، إلى الانخراط في العمل الثوري، إلى كتابة المسلسلات التلفزيونية. وفي هذا المسار، تتمظهر مواصفات الشخصية المختلفة، من خلال العلاقات التي تربطها بالشخوص في الرواية. وهم بمعظمهم من المنتمين إلى القاع الاجتماعي، فنجد بينهم الخادمة، والطاهية، والمشرّد، والقوّادة، والبغيّ. وبعضهم ينتمي إلى الطبقة الوسطى كالتاجر والمصوّر التلفزيوني والضابط. على أنّ العلاقات مع هؤلاء، على اختلاف طبقاتهم، كانت تفاعلية. هم يمنحونها الرعاية والاحتضان والعطف. وهي تمنحهم المتعة الحكائية. ولعلّ امتلاك إيفا مهارة حكي الحكايات، بحيث تبدو كشهرزاد معاصرة، هو الذي يمنح هذه العلاقات تفاعليّتها. وإذا كانت شهرزاد التاريخية قد مارست هذه المهارة لتحقيق هدف واحد هو إنقاذ بنات جنسها من حكم شهريار المبرم، فإنّ إيفا تمارسها لأهداف متعدّدة هي: التقرّب من الآخرين، تبادل المنافع، التسرية عن الذات والآخر، الحنين إلى الماضي، التكيّف مع الحاضر، والحلم بالمستقبل. وبذلك، تغدو الحكاية حياةً في الحياة.

صفات إيجابية

تتمظهر صفات إيفا الشخصية، في الرواية، من خلال العلاقات المختلفة التي تنخرط فيها، من موقع المبادر أو المتلقّي. ففي علاقتها مع العرّابة والطاهية اللتين احتضنتاها صغيرةً، وأمدّتاها بوسائل مواجهة الحياة صبيّةً، يتمظهر وفاء إيفا بأبهى صوره، فحين تتقطّع بهما السبل، ويُخني الزمن عليهما، تقوم مع صديقتها ميمي بوضع العرّابة "الأم" في مستشفى خاص، وتأتيا بالطاهية "الجدة" لتقيم معهما. وفي علاقتها بميمي، المتحوّلة جنسياًّ، يتمظهر التفهّم والتعاطف والصداقة . وفي علاقتها بهوبيرتو، الصبي المتشرّد الذي يتحوّل لاحقاً إلى قائدٍ ثوري، يتمظهر الإخلاص والأمانة على العهد والانحياز للفقراء والانتصار للثورة. وفي علاقتها بالسيّدة العانس والوزير السخيف يتمظهر تمرّدها واعتدادها بنفسها. وفي علاقتها برياض حلبي، المغترب اللبناني الذي يجسّد صورة مشرقة للاغتراب بشهادة كاتبة غربية، يتمظهر الاحترام والصداقة والحب. وفي علاقتها بالكولونيل تولوميو، يتمظهر شرف الخصومة. وفي علاقتها برولف، المصوّر السينمائي، يتمظهر الحب الذي يتوج مسارها الروائي في نهاية الرواية.

وهكذا، نكون إزاء شخصية روائية مركّبة، تجمع بين صفات إيجابية أفرزتها الوقائع الروائية المتعاقبة، فإيفا المتحدّرة من أمٍّ لقيطة وأبٍ بستاني، الناشئة في بيتٍ كئيب بدون أتراب وزائرين، العاملة في خدمة المنازل، والمتشرّدة مرّاتٍ عدّة، لم تحل ظروف حياتها الصعبة دون حبّها الحياة، وانخراطها فيها، وكانت تجسيداً لاسمها الذي يعني الحياة في بعض اللغات.

السلك الثاني في الرواية يتمحور حول رولف كارليه المولود في قرية شمال النمسا لأبٍ معلّمٍ قاسٍ، غريب الأطوار، يُعنّف زوجته وأولاده وتلاميذه، وأمٍّ هادئة، صابرة، تحرص على تلقين اولادها التعاليم الأخلاقية، وتصبر على تعنّت الأب وسوء معاملته وغرابة أطواره. ويتناول هذا السلك رولف في أطوار حياته المختلفة، بدءاً من الطفولة، مروراً بالصبا والشباب، وصولاً إلى الكهولة. وفي كلّ طورٍ من هذه الأطوار، تنخرط الشخصية في علاقات معيّنة، تُفرِز وقائع معيّنة، تتمظهر فيها صفاتها؛ فنرى رودولف في طفولته صبياًّ سميناً، وردياًّ، ذا يدين قويتين. ونراه في شبابه محافظاً، متكبّراً، صلباً، يخفي ميوله الرومنسية، ويتمتّع بجمالات الفصول المتعاقبة. ونراه في كهولته حسّاساً، حنوناً، قلقاً، عنيداً، على قسوة التجارب التي يمرّ بها. هذه الصفات تتمظهر، من خلال الأعمال التي يقوم بها، والعلاقات الي ينخرط فيها، والوقائع التي تُفرزها.

قتل الأب

في القرية النمساوية، يعاني رولف علاقة ملتبسة مع الأب المفرط في قسوته، فيتمنّى لو أنّ محاكمته التي تتولاّها القوّة الروسية المحتلّة تتمخّض عن إعدامه، أي أنّه يتمنّى قتل الأب بالمعنى المادّي للكلمة وليس بالمعنى الفرويدي. وحين تتحقّق هذه الأمنية لاحقاً على أيدي مجموعة من التلاميذ المتضرّرين من معلّمهم القاسي، فيُعثر على الأب معلّقاً في الغابة، يعيش رولف صراعاً بين فرحه بتحقّق أمنيته الدفينة، وإحساسه بالذنب لعدم انتقامه من قتلة أبيه، ويتردّى في نوع من الكآبة. إزاء هذه الوقائع، تتدخّل الأم لإنقاذ ابنها، وتقوم بتسفيره إلى أميركا الجنوبية حيث يقيم خالها روبيرت وأسرته. وهنا، تتحقّق نقطة التقاطع الأولى بين السلكين السرديين، بوجود بطليهما على الأرض نفسها، وهو تقاطع غير مباشر بطبيعة الحال.

بعد ثلاث سنوات من الإقامة في قرية الخال، يُشكّل لقاؤه بالصحافي آرامنينا نقطة تحوّل في مسار حياته؛ يصطحبه أيّاماً في الحديث والنزهة، يطلعه على الأخبار الدولية والسياسة المحلية، يُوجّه مطالعاته، يُعلّمه استخدام آلة تصوير سينمائي، ويُقنعه بالانتقال إلى المدينة لدراسة السينما، فيفعل. وإذ يخبره لاحقاً بأحداث ستقع في التشيلي تؤدّي إلى الإطاحة بالجنرال الحاكم، يقوم رولف، وقد أتقن التصوير، بتصوير الأحداث، وإجراء التحقيقات الجريئة، ما يكسبه شهرة تخوّله الانضمام إلى التلفزيون ليصبح واحداً من أهم مقدّمي الأخبار. وهنا، تضيء الرواية، انطلاقاً من رصد حركة الشخوص المختلفة، الصراع السياسي في التشيلي بين الديكتاتورية العسكرية والديمقراطية الجمهورية الذي ما أن يرسي أوزاره في مصلحة الثانية، حتى يندلع من جديد بينها وبين الثوّار، بذريعة خروج الديمقراطية عن مسارها، ورضوخها للضغوط الأميركية. وهو صراعٌ يشارك فيه رولف من موقع المصوّر التلفزيوني، ومقدّم الأخبار، والمراسل الحربي. ويكتسب خلاله ثقة الثوّار، وتقوم علاقة احترام متبادل بينه وبين زعيمهم هوبيرتو أو القومندان روخيليو، الصبي المشرّد الذي احتضن إيفا أيّام تشرّدها وساعدها وغدا صديقها لاحقاً. وهنا، تكون نقطة التقاطع الثانية بين السلكين السرديين في وجود صديق مشترَك بين بطليهما، وهو تقاطع غير مباشر أيضاً. وتكون نقطة التقاطع الثالثة حين يلتقي كل من إيفا ورولف، ذات سهرة، في بيت ميمي. وتكون الرابعة حين يدعوها إلى تناول الغداء في مطعم ساحلي. والتقاطع في هاتين النقتطين الأخيرتين هو تقاطع مباشر، تنمو فيه علاقة حبٍّ دفين بينهما، يُؤتي ثماره في نهاية الرواية. وخلال هذه التقاطع المباشر، يحصل تعاون فنّي بين البطلين، فتقوم إيفا بتضمين مسلسلها الجديد مشاهد من الأفلام التي صوّرها رولف وتعذّر عليه بثّها خشية السلطة الحاكمة.

وإذ تفتح هذه الأخيرة أعينها على هذا التعاون، يُهرع كلٌّ من إيفا ورولف إلى قرية الخال، وهناك، يتبادلان القبل والاعتراف بالحب، ويتعاهدان على البقاء معاً، ويتمّ الاحتفاء بهما من أسرة الخال. وبذلك، يتحقّق التقاطع الحقيقي بين السلكين اللذين انطلقا من مكانين متباعدين، وكان على كلٍّ منهما أن يمتدّ طويلاً قبل التقاطع مع نظيره. وهنا، يثبت الحب قدرته، مرّةً أخرى، على جمع المختلفَيْن قومياًّ واجتماعياًّ وجغرافياًّ. ويَشهُر بقاءه حين تنتهي الحرب.

العلاقة بين السلكين يطغى عليها التعاقب، على المستوى النصّي، والتوازي، على المستوى الحَدثَي. ويتأخّر التقاطع غير المباشر بينهما حتى الفصل الرابع من الرواية، والتقاطع المباشر حتى الفصل العاشر منها. ويحدث الاندماج بينهما في الفصل الحادي عشر والأخير، ما يجعلنا إزاء سلكين مستقلّين، أو روايتين متجاورتين، يحكمهما الانفصال أكثر من الاتصال، والتجاور أكثر من التفاعل. وإذا كانا يشتركان في الفضاء المكاني، والتزامن الزماني، ووحدة الراوي، فإنّ هذه المشترَكات هي مجرّد معايير خارجية لا تكفي لصنع التفاعل المنشود بينهما، ذاك الذي تأخّر حتى نهايات الرواية. وعلى الرّغم من ذلك، تبقى "إيفالونا" رواية جميلة، تستحقّ الجهد المبذول في قراءتها، والوقت المخصّص لها، لا سيّما أنّ قارئها يعود منها بغنيمتي المتعة والفائدة معاً.

 

  

المزيد من ثقافة