Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا يبقى "برسبوليس" أحد أعظم أفلام التحريك في زمننا؟

يستند إلى تجربة حياة مرجان ساترابي في إيران ويمثل خريطة عن خيالها وأفكارها

بين إحباط وقمع نظام إيران ما بعد سقوط الشاه، ومتاهة الغربة في أوروبا، ولدت أخيلة فيلم "برسبوليس" (أ ف ب)

تجلس امرأة وحيدة خائبة في صالة المطار. تسند بيدها رأسَها المثقل كأنه كومة صخر، فيما يبدأ عمودها الفقري بالتهافت والانهيار جراء ذلك الثقل، وتتدلى سيجارة من فمها. المطارات مليئة بتلك النماذج من الهيئات الغامضة والمنطوية على ذاتها. ونتساءل على الدوام عما يدور في رؤوس أولئك الأشخاص. هل إنه الأسى؟ الوهن؟ الخيبة؟ السأم؟ في هذه الحالة، المرأة هي "مرجان" (تشيارا ماستروياني)، بطلة فيلم "برسبوليس" (2007)، أحد أكثر أفلام التحريك إبداعاً وإثارة في زمننا. ونشاهدها في قاع معاناتها وصراعها مع أزمة الهوية.

وفعلياً، إن "مرجان" هي مرجان ساترابي، مخرجة الفيلم وكاتبته، التي استقرت في فرنسا كشابة هاربة من نظام القمع في إيران. ويأتي فيلم "برسبوليس" اقتباساً من روايتها المصورة الواسعة الانتشار التي تروي قصة حياتها، وقد صدرت في جزءين ظهرا عامي 2003 و2004. تجلس مرجان وحيدة عند مكتب تسلم الحقائب في المطار، لأنها عاجزة عن استجماع قواها كي تعود إلى بلادها. إذ ما زالت تلك البلاد مرتعاً للألم. وفجأة نرى الألوان تبهت. وتعدو طفلة عبر المشهد. إنها "مرجان" في عمر أصغر. ويدخل الفيلم على الأثر في نطاق الذاكرة، وينساب كشريط ذكريات تستعاد وقائعها على نحو انطباعي صارخ، بالأسود والأبيض.

وكفتاة صغيرة، تبدو "مرجان" بتصرفاتها فرحةً ومشاغبة، ومدللة وذكية وصاخبة وفضولية. مهووسة ببروس لي [ممثل شهير لأفلام الكاراتيه]، وتراودها أوهام بأنها رسولة من السماء. ويساير أهلها شطحاتها تلك. إذ إن أباها وأمها اشتراكيان ميسوران في إيران إبان حقبة السبعينيات من القرن العشرين، قبل الثورة. وإذ كان الشاه ديكتاتوراً سجن العديد من أقرباء مرجان، غير أن أباها وأمها التزما الصمت، وعاشا في حرية نسبية.

وذاك كله تغير في 1979، عندما خلعت الثورة الإيرانية الشاه وأحلت في مكانه الجمهورية الإسلامية الأصولية. وآنذاك، حلم والدا مرجان بمستقبل أكثر إشراقاً، بيد أن ما راح يسود كان يصدر من مشاعر التعصب القومي والديني. وجاءت الحرب مع العراق لتَنْكُب البلاد. وانكبت الحكومة الإيرانية على إعدام الآلاف من معارضيها. وارتدت النساء الحجاب. وانتقلت حفلات الشراب واللهو إلى العالم السري والسفلي. وجرى إرسال مرجان التي بلغت الرابعة عشرة من عمرها إلى فيينا مخافة أن تقودها شخصيتها المتمردة إلى مكروه. إذ كانت سترتها التي صنعتها بنفسها، والمزدانة بعبارة "البانك لم يمت" Punk is not dead، قد باتت سلفاً تجذب إليها فضولاً غير محبب.

ومع عروضه الأولى، لاقى "برسبوليس" استحسان النقاد، واعتبرته "اندبندنت" "متعة فريدة"، ومهرجانات الأفلام الدولية. وقد حاز على جائزة هيئة التحكيم في "مهرجان كان" 2007. حتى أنه رشح للفوز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم تحريك، وخسر في المنافسة مع فيلم "راتاتوي" الذي صنعته شركة "استديوهات بيكسار" الشهيرة. في المقابل، جاءت ردود الفعل السياسية على الفيلم متوقعة وعنيفة بطبيعتها. وفي 2011، عرضت إحدى قنوات التلفزة التونسية ذلك الفيلم على شاشتها بعد وقت قصير من فوز "حركة النهضة الإسلامية" بغالبية مقاعد البرلمان في تونس. وعلى الأثر، أحرق متظاهرون مبنى القناة التي عرضت الفيلم، وفرضت الحكومة التونسية على صاحبها، نبيل القروي، دفع غرامة جزائية مقدارها 24 ألف دينار (1000 جنيه إسترليني)، بتهمة "إهانة القيم المقدسة" و"الإخلال بالنظام العام".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في المقابل، حذرَتْ ساترابي الجمهور مراراً من معاملة فيلمها "برسبوليس" كأداة سياسية. إذ يمثل الفيلم، أولاً وقبل كل شيء، بموازاة وفائه للخطوط الواضحة والتصميم الاختزالي [= مينيمالي] في الروايات المصورة، مقاربة حميمة لسرديات التاريخ الشخصي وأسلوب التعبير الفني الانطباعي. وبحسب المخرجة، تمنح تلك البساطة الفيلم القدرة على أن يكون "حكاية عالمية" متخففة من كل محاولة للتعامل مع مواقع حدوثها من منطلق إكزوتيكي. وإنه لمن المؤسف أن يكون ثمة مخرج في العالم مضطراً إلى معايشة مشاعر ضمنية ضاغطة، بهدف إرضاء الجمهور الغربي. إذ لا تصدر الحرية الحقيقية لأفلام التحريك التقليدية عن خصوصية ثقافية محددة، بل عن حدود الحقيقة المادية.

واستطراداً، غدا "برسبوليس"، بشراكة إخراجية بين ساترابي وفينسينت بارونو، وبمعاونة فريق من 20 فنان تحريك، خريطة انطباعية مترامية الاطراف لأفكار صاحبته، ومنشغلاً بالفكاهة والخيال بمقدار انشغاله بصدمات الحروب. إذ نرى فيه مرجان أثناء خوضها في أحاديث متخيلة مع الله وكارل ماركس. وكذلك نتابع، في مشهد يستحضر فترة نقاهة عاشتها إثر محاولة انتحار، لعباً مونتاجياً، ومرجان تؤدي بصوت خفيض محبب، صيغتها الخاصة من أغنية "آي أوف ذا تايغر" [حرفياً، "عين النمر"].

وفي الإطار نفسه، تحاول ساترابي إطلاق العنان لإحساسها المضطرب والمتضارب تجاه الهوية. ولا يقدم الفيلم هروبها إلى النمسا بالفيلم كلحظة خلاص، الأولاد ممن هم بعمرها يعاملون اضطهادها كحدث طارئ استثنائي وواسطة عصرية لتموضعهم الفوضوي. وكذلك تخبر غرباء أنها فرنسية، فهل يأتي هذا محاولة منها لتجنب الأسئلة الغريبة أم ينبع من إحساسها المكبوت بالذنب؟ إذ ما زالت عائلتها رازحة في المعاناة، فيما هي هنا، تسهر في الحانات وحفلات الـ"بانك"، وتقبع في "مشاعر وانفعالات البرجوازية الصغيرة" المتمثلة بالحب الرومانسي.

ومن جهة أخرى، لقد تحطم قلبها مرة، فليس لها كتف ترتاح عليه. ومع عودتها إلى إيران، فإن ذاك الحب، من جديد، هو ما سيطبعها بميسم الغريبة. ويحدث ذلك إثر اعتقالها بسبب إمساكها يد رجل في العلن.

وبأسى، تضيف مرجان، "أنا غريبة في النمسا وأنا الآن غريبة في وطني". إذ إن المكان الذي يشعرها بالدفء والانتماء، إيران التي كانت، لا يوجد الآن إلا في الذاكرة. لذا فإننا، بعد مرور أعوام، نراها وحيدة في قاعة المغادرة بالمطار، ولا يقدم لنا "برسبوليس" جواباً عن ذلك، سوى الإحساس بورطة الزمان والمكان.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات