Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"قلعة آكسل" لإدموند ويلسون: أجمل النقد ما كان تهكميا

الناقد الأميركي يعزو إلى الرمزية كل أدب كبير في زمانه

إدموند ويلسون (1895 – 1972) - (غيتي)

يمكن القول دون الكثير من التردد أن الحياة الأدبية العربية عرفت النقد الغربي الحديث من خلال عدد من الكتب المترجمة عن الإنجليزية، بريطانية كانت أو أميركية، التي ظهرت في أواسط القرن العشرين. وكان ذلك ما خلّص قراءها من طغيان صنوف النقد التقليدي ولا سيما الفرنسي منه التي كانت قد وصلتهم من خلال مجلة "الكاتب المصري" والعميد طه حسين على سبيل المثال. ولا ريب أن كتاب "قلعة آكسل" للأميركي إدموند ويلسون كان في مقدمة تلك الكتب. وذلك منذ ترجمه إلى العربية حينها الناقد والكاتب جبرا ابراهيم جبرا ما اعتبر فتحاً جديداً في عالم النقد. والطريف أن سمعة إدموند ويلسون العالمية كانت قد سبقت ذلك من خلال جملة واحدة اختصر فيها وعلى شكل سؤال عميق متهكم، كل ما كان يريد أن يقوله في مجال انتقاد الأدب البوليسي. كانت الجملة: "وهل ثمة من يهتم حقّا بمن قتل روجيه آكرويد؟" ويعرف قراء آغاثا كريستي أن السهم إنما كان موجهاً إلى واحدة من أشهر رواياتها "من قتل روجيه آكرويد"... بيد أن هذا ليس موضوعنا هنا، موضوعنا هو الإطلالة على ويلسون من خلال كتابه الأشهر "قلعة آكسلّ" بالنظر إلى أنه أحدث تجديدا لا في التذوّق النقدي العربي وحسب، منذ أوصله جبرا إلى القراء العرب، بل على صعيد حركة النقد في العالم.

حول حفنة من مبدعين

وضع ويلسون لكتابه هذا عنواناً ثانوياً يكاد يبدو أكاديمياً هو "دراسة في الأدب الإبداعي الذي ظهر بين عامي 1870 و1930". ولئن كانت الدراسة قد اقتصرت على سبعة كتاب اعتبر ويلسون أنهم ينتمون إلى الأدب الرمزي بصورة أو بأخرى، فإنه عمد إلى تحليل الحياة الإبداعية الأدبية برمتها من خلالهم باعتبار أن معظمهم كانوا من أبرز المبدعين ولكن أيضاً من الذين حذا حذوهم العدد الأكبر من مبدعي الأجيال التالية لهم. ويلفت جبرا النظر إلى أن ويلسون حين وضع دراسات الكتاب كان لا يزال زمنياً شديد القرب من موضوعه حيث أن خمسة من الأدباء الذين جعلهم محور البحث الرئيس كانوا لا يزالون على قيد الحياة "فيما لم تكن قد مرت سوى سنوات قليلة على موت مارسيل بروست" بينما كان إليوت لا يزال في مطلع أربعيناته و"لم يكن قد كتب بعد أياً من رباعياته الأربع وأيا من مسرحياته فضلاً عن بعض نقده المتأخر". أما الذين تناولهم ويلسون في فصول كتابه فهم وليم بطلر ييتس وبول فاليري وجيمس جويس وغرترود شتاين ناهيك ببروست وإليوت وفصل بعنوان "آكسل ورامبو". ولنضف إلى ذلك ملحقين بعنوان "سهرة فينيغان" و"ذكريات عن الدادائية". وكل هذا في أقل من 250 صفحة علماً أن ويلسون اعتاد في كتاباته استخدام جمل قصيرة ومكثفة.

"الرمزية خلقت أدبنا المعاصر"

منذ الصفحات الأولى يحدد ويلسون أنه إنما أراد بكتابه هذا أن يرسم "ما الذي يجب أن يكون عليه النقد: تاريخ أفكار الإنسان وخيالاته في إطار الظروف التي أسبغت عليه أشكالها". وما يهم ويلسون هنا خاصة في نهاية المطاف هو أن يصوّر كيف ورثت الرمزية في بدايات القرن العشرين مجمل التيارات التي سبقتها (ولا سيما الرومانسية والطبيعية) وتجلّت في كتابات الأدباء الذين يدرسهم شارحاً كيف أتت الرمزية موروثة من مالارميه الفرنسي علناً بأن "هناك أمور كثيرة استجدت في الأدب الإنجليزي يصعب علينا فهمها دون الإطلاع على المدرسة الرمزية" مؤكّداً أنه "إذا كان أكثر النقد الإنجليزي والأميركي يقف حائراً إزاء أعمال بعض الأدباء المحدثين فإن بعض ذلك يعود إلى أن أعمال هؤلاء الأدباء اتت نتيجة ثورة وقعت خارج الأدب الإنكليزي". وهنا يخلص ويلسون في مقدمته إلى أن "تاريخ الأدب في عصرنا إن هو في معظمه إلا تاريخ نطور الرمزية واندماجها في النزعة الطبيعية أو صراعها معها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إنطلاقا من هذه النظرة التي بدت شديدة الغرابة حينها، تناول ويلسون إذاً بعض أشهر الأعمال الأدبية في الثلث الأول من القرن العشرين، ما جعله يعتبر في نظر الكثيرين، أفضل ناقد أدبي معاصر. ولئن كان إدموند ويلسون قد عرف بالجدية في نقده، فإنه كذلك عرف باللؤم الشديد وباستخدامه العبارات الجارحة حين لا تنفع حجة مع "خصومه" ولا ينفع جدال. ومهما يكن، إذا كان إدموند ويلسون قد برز كناقد كبير، فإنه لم يكن ناقداً وحسب، بل كان روائياً وباحثاً ومؤرخاً ايضاً، كما أصبح واحداً من كبار أقطاب الحركة الأدبية الأميركية بعيد الحرب العالمية الأولى، واشتهر بمعاركه الأدبية الصاخبة، تماماً كما اشتهر بزيجاته المتعددة، وكان من أشهر زوجاته الكاتبة التقدمية ماري ماكارتي، التي رغم طلاقهما السريع ظلت صديقة له، ولسان حالها يقول: "الإبقاء على صداقته خير، في نهاية الأمر، من اكتساب عداوته"، وهو حافظ على تلك الصداقة ودافع عن أدب السيدة دفاعاً شديداً.

اللامنتمي في كل مكان

ولد إدموند ويلسون العام 1895 في ردبانك بولاية نيو جيرزي الأميركية، وتخرج العام 1916 من جامعة برنستون حيث كان رفيقاً لسكوت فيتزجيرالد. خاض ويلسون الحرب العالمية الأولى مع الجيش الأميركي المحارب في فرنسا، وبعد عودته عمل أولاً في الصحافة حيث راح يكتب المقالات النقدية لمجلة "فانيتي فير" ثم لمجلة "نيو ريبابلك" وبعد ذلك لمجلة "نيويوركر". وكانت كلها من أهم مجلات النخبة التقدمية في الولايات المتحدة في ذلك الحين. غير أن ويلسون، خلال كتابته في تلك المجالات، لم يشعر بأدنى انتماء إلى أي منها، على أي حال، بل كان يشعر باستقلاله التام، وهذا ما جعله، في الوقت نفسه، محل غضب الشلل المتحكمة في الأدب الأميركي، كما محل رضا أنواع الكتاب المستقلين والطليعيين كافة.

طوال الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، أصدر إدموند ويلسون روايته الوحيدة "فكرت بديزي" (1929)، كما نشر عدة قصص قصيرة جمعها لاحقاً في مجموعة وحيدة حملت عنوان "مذكرات مقاطعة هيكات" (1946) وخمس مسرحيات جُمعت في مجلد واحد عام 1954، كما نشر العديد من القصائد والأفكار في كتابين حملا عنواني "دفاتر الليل" (1942) و"أفكار ليلية" (1961).

 

غير أن هذا كله لم يكن ما صنع مجد إدموند ويلسون، كما لم تصنعه نصوص أدب الرحلات التي كان يتفنن في كتابتها. ما صنع سمعة ويلسون ومكانته كان دراساته النقدية، ولكن خصوصاً عمله كـ "مؤرخ للأفكار" في هذا الإطار يبرز مثلا كتابه الفذ "محطة فنلندا" الذي رسم فيه فصولاً رائعة لا تخلو من طرافة وتهكم مع شيء من الحنان، لتاريخ الحركة الإشتراكية وحياة بعض مؤسسيها من ماركس إلى لينين. وفي نصوصه النقدية كان ويلسون يبدو كرجل موسوعي من طراز رفيع، يستخدم كل مهاراته المعرفية وأسلوبه الجزل لتوجيه سهام النقد. والنقد بالنسبة إليه كان عليه دائماً أن يكون نقداً بناء، كما هو حال دراسته المتميزة حول الأدب الرمزي "قلعة آكسل" التي نتناولها هنا، ودراسته حول العلاقة بين العصاب والإبداع الأدبي، وهي الدراسة التي لا تزال تعتبر مرجعاً أساسياً في موضوعها حتى يومنا هذا، وعنوانها "القوس والجرح" (1951)، ناهيك عن دراسته الموسوعية حول الأدب الأميركي في القرن التاسع عشر بعنوان "صدمة الاعتراف" (1952).

في أعماله جميعاً كان ويلسون حاذقاً هادئاً ثابتاً، بحيث أن كاتبي سيرة حياته والباحثين في أدبه قالوا عنه على الدوام إنه الرجل الذي أعاد اختراع ما يطلق عليه في الأدب الأميركي اسم "مراجعة الكتب" إذ لولاه لما كان لهذا النوع من النقد المكانة التي يحتلها الآن. كل هذا على رغم أن ويلسون يكاد يكون شبه منسي اليوم، بعد مرور نحو نصف قرن على موته، هو الذي رحل عالمنا عام 1972.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة