لم تكن الكاتبة البريطانيّة ج. ك. رولينغ، البليونيرة الخمسينيّة اليوم، لتتوقّع النجاح الباهر الذي ستحصده سلسلتها "هاري بوتر" التي كتبتها في تسعينيّات القرن العشرين وأصبحت في وقت قصير جدّاً إحدى اكثر السلاسل الروائيّة رواجاً في العالم. لم تكن لتتوقّع أنّ الرواية الأولى من السلسلة التي رفضها حوالى ثمانية ناشرين في بداية الأمر، ستكون فاتحة سلسلة ستحصد نحو 25 بليار دولار بين حقوق الكتب والأفلام وغيرها من الأنشطة والملحقات والأحداث الثقافيّة المرافقة. وقد خطرت فكرة عالم هاري بوتر السحريّ للمرّة الأولى على بال هذه الكاتبة البريطانيّة بينما كانت تنتظر قطاراً في إحدى المحطّات. خطرت فكرة هذه السلسلة في ذهن الكاتبة الشابّة التي كانت بالكاد تجني ما يكفيها، بينما كانت تنتظر قطارها الذي تأخّر أربع ساعات عن موعده. فماذا لو لم يتأخّر هذا القطار؟ ماذا لو لم تنتظر رولينغ على رصيف المحطّة بين مانشستر ولندن لأربع ساعات؟ أربع ساعات شكّلت المخاض الأوّل لسلسلة كتب ستبيع أكثر من خمسمئة مليون نسخة حول العالم. أربع ساعات من التأخير جعلت كاتبة بريطانيّة شابّة تصبح أشهر الكاتبات المعاصرات وأثراهنّ وأكثرهنّ ترجمة. فقد تمّت ترجمة سلسلة هاري بوتر المؤلّفة من سبعة أجزاء إلى زهاء ثمانين لغة، كما تحوّلت الروايات السبع إلى ثمانية أفلام سينمائيّة حصدت أرقام مشاهدة عالية بشكل غير متوقّع، لتصبح هذه السلسلة السينمائيّة رابع سلسلة تحصد عدد مشاهدين في العالم بعد سلاسل معروفة عالميّاً، كمثل جايمس بوند، مع مبلغ 6.5 بليار دولار.
تحتفل الأوساط الأدبيّة في هذه الفترة من السنة بسلسلة هاري بوتر بشكل خاصّ، لكونها الفترة التي كانت تصدر فيها الروايات الواحدة تلو الأخرى. فطالما صدرت أجزاء السلسلة أوائل شهر يوليو (تمّوز)، فالجزء الأوّل من هاري بوتر صدر يوم 26 يونيو (حزيران) 1997، والثاني يوم 2 يوليو 1998، والثالث يوم 8 يوليو 1999، والرابع أيضاً يوم 8 يوليو 2000، والخامس يوم 21 يونيو 2001، والسادس يوم 16 يوليو 2005، والسابع يوم 21 يوليو 2007.
أدب فانتازي
تنتمي سلسلة ج. ك. رولينغ إلى الأدب الفانتازيّ أو أدب الفانتاستيك، أيّ أدب العجيب الذي لا يراعي قوانين الطبيعة والعقل فيضع بين يدي القارئ عوالم متخيّلة غريبة لا يمكن تفسيرها بالعقل والمنطق ولا تمكن محاسبتها بحسب أسس علميّة واقعيّة. وأدب الخوارق هذا الذي عرفه القارئ في "ألف ليلة وليلة" مثلاً أو في أعمال كلٍّ من هانس كريستيان أندرسن الدنمركيّ أو الكاتب البلجيكيّ فرانس هلنس أو الأميركيّ إدغار ألن بو شكّل الجاذب الأوّل للقرّاء نحو سلسلة هاري بوتر. فالبطل هاري المراهق المظلوم المهمّش الذي لا يملك أن يدافع عن نفسه أمام عائلة خالته وزوجها وابنهما المدلّل يكتشف يوم عيد ميلاده أنّه ساحر. هاري اليتيم الذي لا يعرف شيئاً عن أمّه وأبيه، الذي عاش طفولة منهكة معذّبة تحت نير الظلم والقهر والاستبداد هو في الواقع ساحر في عالم سحر موازٍ للعالم الحقيقيّ. وليس هاري بأيّ ساحر، هاري بوتر هو الساحر المختار الذي أنقذ العالم من ساحر قويّ جبّار عندما ولد، وهو الساحر الوحيد القادر على هزيمة هذا الساحر نفسه –الذي لا نستطيع التلفّظ باسمه- والذي يهدّد عالم السحر وعالم الواقع بالظلام والظلمة.
وبينما يكون نجاح عمل روائيّ عموماً غير مبرّر أو غير واضح الأسس، تتميّز سلسلة هاري بوتر بمزايا لغويّة أسلوبيّة موضوعاتيّة كثيرة تجعلها إحدى أفضل السلاسل الأدبيّة المكتوبة. فلغة رولينغ قويّة متماسكة وأسلوبها ساحر بالإضافة إلى أنّ الشخصيّات التي يتناولها السرد إنّما هي شخصيّات تملك سماكة نفسيّة وذكريات ومشاعر وآلام وتشهد جميعها في دواخلها الصراع الأزليّ بين الخير والشرّ. وبينما تكون الأفلام عموماً أقلّ جودة وقيمة من الكتب، تمكّن مخرجو هاري بوتر الذين توالوا على هذا المنصب من إنجاز عمل رائع يحاكي الكتب الأصليّة جودة وجماليّة.
رحلة البحث عن الخلود
وبينما تمزج كتب هاري بوتر بين السحر والخيال والمغامرة والتشويق، نجدها زاخرة بموضوعات إنسانيّة بارزة. وتقول رولينغ في إحدى مقابلاتها إنّ الموت هو أحد أبرز الثيمات الموجودة في نصّها. فالموت حاضر في كلّ جزء من أجزاء هاري بوتر، وهذا ما يلاحظه القارئ منذ البداية. فيبدأ النصّ بهاري بوتر اليتيم الوالدين والوحيد، وبعد ذلك ينتهي كلّ جزء من الأجزاء بمقتل شخصيّة من الشخصيّات، ليبقى الخوف من الموت والبحث عن الخلود هما الموضوعان اللذان يدور حولهما العمل بأكمله. ففولدمورت ساحر الظلمة والساحر الذي لا يمكننا التلفّظ باسمه، يهشّم روحه إلى سبعة أجزاء ويضع كل جزءٍ منها داخل شيء ثمين ليتفادى الموت. عندما يقسم فولدمورت روحه إلى سبعة أقسام يمنع عن نفسه الموت ويمنحها سبع حيوات، ما يُضطرّ هاري أن يبحث عن هذه الأشياء السبعة التي تحوي أرواح فولدمورت ليدمّرها ويتمكّن من قتل فولدمورت في نهاية الأمر.
ولا يكتفي فولدمورت بهذا الأمر، فهو يحاول أن يصبح سيّد الموت وأن يتغلّب عليه عبر حيازته ثلاثة أمور منحها الموت للبشريّة وفق أسطورة بعيدة. فبحسب هذه الأسطورة مَن يصبح سيّد هذه الأمور الثلاثة، وهي عباءة الاختفاء وحجر استحضار الموتى والعصا السحريّة الأكثر قوّة في العالم، يصبح أقوى ساحر في العالم ويصبح سيّد الموت وخالداً. فتتحوّل هذه الأمور الثلاث إلى هاجس لدى فولدمورت يقتل ويبطش من أجلها.
وفي مقابل موضوعة البحث عن الخلود التي تجسّدها رولينغ في سلسلتها بشكل واضح وهي ثيمة عرفها الأدب العالميّ منذ ملحمة جلجامش، تظهر أهمّيّة التضحية. ففي كلّ جزء من أجزاء هاري بوتر، يكتشف القارئ أهمّيّة التضحية والشجاعة والصداقة وحبّ الآخر. في كلّ جزء يتعلّم القارئ أنّ التضحية بالنفس للآخر أمر جميل، فالحبّ يشفي ويُحيي. ويقول دمبلدور أحد أعظم السحرة ومدير مدرسة هوغوارتس: "لا تشفق على الموتى يا هاري، أشفق على الأحياء، وبخاصّة أولئك الذين يعيشون من دون حبّ." والحبّ بالتحديد هو ما ينقذ حياة هاري، قدرته على الحبّ والتضحية هي التي تحميه عندما يحاول فولدمورت قتله في كلّ مرّة. أمّا لماذا يريد فولدمورت قتله بهذا الإلحاح وهذه الضراوة، فذلك بسبب نبوءة قديمة تقول بأنّ الذي سيغلب سيّد العتمة فولدمورت إنّما هو طفل يولد أواخر شهر تمّوز ويكون أقوى من سيّد الموت ويملك سلاحاً لا يملكه هو. وهذا السلاح ليس سوى الحبّ والتضحية.
تبقى العبرة الأجمل هي في خلود الأحبّاء في قلوبنا. لا يموت الذين نحبّهم تماماً، بل يجدون دوماً طريقهم إلينا، فيرد في أحد الكتب: "هل تظنّ أنّ الذين نحبّهم يغادروننا فعلاً؟ لا يا هاري الذين يموتون من أحبّائنا يعودون إلينا عندما نحتاج إليهم وعندما تشتدّ الظلمة حولنا." وقد تكون هذه الخصائص هي التي تميّز سلسلة هاري بوتر، فهذه الكتب والأفلام ليست فقط قصصاً من عالم السحر والعجيب، هذه قصص أناس يملكون مشاعر وأفكاراً وأحزاناً، هذه قصص في التضحية والصداقة والشجاعة والحبّ والحكمة والقوّة والواجب والوحدة ضدّ الشرّ وضدّ الأعداء.
الصراع بين الخير والشرّ
"نملك جميعنا الضوء والعتمة داخلنا، ما يهمّ فعلاً هو أيّهما نختار. خيارنا هذا يحدّد حقيقتنا." من أهمّ الموضوعات الموجودة في سلسلة هاري بوتر هي موضوعة الصراع بين الخير والشرّ. موضوعة تتأرجح بينها الشخصيّات بخياراتها وتصرّفاتها واصطفافاتها. وتبقى الشخصيّة التي أثّرت أكثر ما أثّرت في جمهور هاري بوتر هي شخصيّة الأستاذ سنايب (ألان ريكمان)، أستاذ مخيف بارد، أستاذ مشكوك في ولائه، متّهم في أخلاقه، خطر في عداواته ويُعدّ من أتباع فولدمورت. إنّما تتجلّى الحقيقة في الجزء الأخير من السلسلة وتشكّل إحدى أجمل لحظات النهاية غير المتوقّعة، فيكتشف هاري حقيقة هذا الأستاذ الذي كان حارسه الأمين وحاميه والدرع التي ردّت عنه الأخطار والشرور لسنوات طويلة ومن دون أن يدري. يكتشف هاري أنّ الأستاذ سنايب حماهُ طيلة هذه السنوات ولاءً لأمّه ووفاءً بوعد قديم قام به بأن يحميه مهما كلّف الأمر.
شخصيّة أخرى شكّلت القدوة والمحرّك الأوّل للأحداث، هي شخصيّة مدير مدرسة السحرة البروفسور دمبلدور، رجل حكيم رزين يشكّل صخرة هاري والساحر الوحيد الذي يهابه فولدمورت. ويجسّد البروفسور دمبلدور بلحيته البيضاء وشعره الأبيض الطويل ونظّاراته على شكل نصف قمر الخير والمعرفة والحقيقة بمعناها الأسمى. هذا البروفسور الذي أدّى دوره في الجزءين الأوّلين من الفيلم ريشارد هاريس ثمّ من بعد وفاته انتقل الدور إلى مايكل غامبون هو مرشد هاري وبوصلته ومعيار الخير والشرّ لديه ولدى معظم شخصيّات السلسلة.
وتدخل في إطار هذه الموضوعة مسألة العبوديّة والحرّيّة أيضاً. فعالم السحرة عالم مليء هو الآخر بالطبقيّة والعنصريّة التمييز على أسس الأصل والعرق والولادة وغيرها من الأمور. فهناك في أعلى السلّم الاجتماعيّ طبقة السحرة من ذوي الدماء النظيفة أو الطاهرة. وينتمي إلى هذه الطبقة السحرة المتحدّرين من أُسَر عريقة وعتيقة في عالم السحر. وتُصنَّف هذه الطبقة في أعلى الهرم، لتأتي من بعدها طبقة السحرة المختلطي الدماء بين السحرة وغير السحرة، وأخيراً تأتي طبقة الكائنات السحريّة الأخرى. وعلى الرغم من القدرات الهائلة التي تملكها المخلوقات الخارقة، إلاّ أنّها مُصنّفة في أسفل السلّم ويمارس عليها السحرة أقسى أنواع التعذيب والتهميش والاستعباد. من هنا سخط هاري بوتر على هذا النوع من التصرّفات وحبّه ووفاءه لأصدقائه مهما كانت طبقتهم أو مرتبتهم على سلّم ترتيب المخلوقات السحريّة.
ويدخل في كتب هاري بوتر الصراع بين الخير والشرّ بشكل دائم. الصراع بين الخيار السهل والخيار الصائب، ليقول دمبلدور في هذا الشأن: "لا يهمّ أصل المرء، الأهمّ هو الخيارات التي يقوم بها في حياته". وتقوم كتب هاري بوتر على رغبة في إقامة عدالة بين السحرة على اختلافهم وبين المخلوقات الخارقة كلّها. ويلاحظ القارئ التوازي بين عالم السحر وعالم الواقع، فحتّى عالم السحر قائم على ظلم واستقواء ذي النفوذ والسلطة على الضعيف، فيرد مثلاً في موضع من السلسلة قول بارز هو نوع من الحكمة المتعارف عليها: "إن أردتَ أن تعرف قيمة المرء وأخلاقه أنظر كيف يعامل من هم دونه".
تُعتبر سلسلة هاري بوتر في الأدب العالميّ المعاصر من أبرز السلاسل الأدبيّة وأكثرها شهرة، وعلى الرغم من أنّ ج. ك. رولينغ وضعت من بعد هاري بوتر عدداً من المؤلّفات، منها ما هو متعلّق بهاري بوتر ومنها ما هو مختلف عنه تماماً، إلاّ أنّها لم تحقّق في كتاباتها الأخرى النجاح الذي حقّقته في هذه السلسلة. كما أنّها كتبت باسم مستعار حتّى في بعض المواضع، لتتفادى الضجيج الإعلاميّ والنقد المجحف، إلاّ أنّها لم تنجح في ذلك، فقد طالما كُشِفَت هويّتها وافتُضح أمرها، ليصبح هاري بوتر سبب نجاحها إنّما في الوقت نفسه العمل الذي ستُقارَن به أعمالها التالية كلّها والتي لن يصل أيّ نصّ منها إلى مصافّه.