Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يسرى مقدم تحطم "قفص" الأمومة بحثاً عن مثال مفقود

كتابها "صباح الخامس والعشرين من شهر ديسمبر" نص مفتوح على إمكانات الكتابة ومتاهتها الداخلية

الامومة"لوحة للرسام بول غيراغوسيان (موقع الرسام")

تستهل الكاتبة يسرى مقدم كتابها "صباح الخامس والعشرين من شهر ديسمبر" (شركة المطبوعات 2020) بملاحظة مختصرة مفادها أن نصها هذا عصي على التجنيس، فهو اختار لنفسه "عمارة هندسية" تجعله "نصاً حراً، سائب الضفاف، فوضوي السياق". وفي هذا القبيل يمكن أن يُعدّ هذا النص "مفتوحاً" (ليس طبعاً في المفهوم الذي قصده أمبرتو إيكو في كتابه "الأثر المفتوح") على إمكانات الكتابة المتحررة من معايير النوع الأدبي (رواية، قصة طويلة، قصيدة نثر...)، وعلى مصادفات التداعي والتذكر والتأمل والاستعادة وسواها. ولكن ما إن يشرع القارئ في تصفح النص حتى يتبدى له أنه أمام نص سير- ذاتي أو أوتوبيوغرافي، بدءاً بحضور ضمير المتكلم الذي يمثل الراوية من دون لف أو مداورة، ثم انتقالاً الى المادة المسرودة نفسها، بحقائقها ووقائعها وحتى ببعض الشخصيات، وفي مقدمها الأم سكنة والأب القتيل والجار القاتل والشقيقة التوأم والابن والابنة والزوجان، بحضورهم المختلف. حتى المكان والبيئة واضحا الهوية، بين ريف قروي لبناني (الجنوب) وبيروت ومنطقة اليونسكو التي يقع فيها مقهى الغندول الشهير. وبدت يسرى وفية تماماً لما يسميه الناقد الفرنسي فيليب لوجون "ميثاق السيرة الذاتية" الذي يحدده "بالسرد النثري الاستعادي يكتبه شخص حقيقي عن وجوده الخاص، مركزاً على حياته الفردية وبالأخص على تاريخ شخصيته".

لم تخن مقدم هذا الميثاق بتاتاً ولم تعمد إلى التحايل عليه، لكنّ وفاءها له لم يكن "إتباعياً" ومشروطاً، بل تجلى بصفته فعلاً إبداعياً، خلاقاً، يختبر إمكانات الكتابة ومنحنياتها. وقد استعانت يسرى بضروب أو فنون أدبية عدة، ومنها فن المخاطبة الذي يمكن وصفه هنا بـ"الفن التراسلي" (الإبيستوليري) الشفهي، في معنى التوجه إلى المخاطَب كالأم الراحلة والابنة والابن الذين تجعلهم ثلاثتهم ايضاً، يتولون فعل المخاطبة. لكن القارئ هو المخاطب المضمر والمتلقي أولاً وأخيراً. وتؤدي يسرى بمهارة تقنية ما يشبه لعبة الضمائر، بين إزاحة ضمير الغائب واستدعاء ضمير المخاطب. ويمكن الكلام من ثم عن فن الاعتراف (كونفسيون) الذي يساعدها كراوية تدعى يسرى مقدم، على الخروج من نفسها من دون أن ينتبه لها أحد، وعلى التخلص من عقدة الذنب التي تتحكم بها، بحسب ما تروي. وعبر هذا الاعتراف تتمكن الحياة من مقاربة الحقيقة من خلال السبيل الذي يشتقه أمامها. وهذا ما تعلمناه من "اعترافات" جان جاك روسو الشهيرة . ففي أحيان تبدو يسرى كأنها في كرسي اعتراف متوهم، تكشف وتبوح وتتنفّس وتتخفف مما يوغر صدرها، مقاسية حالاً من أحوال المازوشية الذاتية ليس بحثاً عن التلذذ (المجازي) بل العكس، من أجل التطهر أو التحرر من أسر عقدة الذنب، المزدوجة بل المثلثة (الأم، الابن، الابنة التي انتقلت إلى الأمومة). ناهيك عن عقدة أخرى "مكتسبة" ولو كانت شبه قدرية، والناجمة عن كون الراوية ولدت مع شقيقتها التوأم، ما جعل العمة ترمي عليهما لعنة "شؤم التوائم من جنس واحد" ملقية على عاتقهما سبب مقتل الأب.

نفَس سردي

في بعض المقاطع يظهر نفس سردي، تتوالى عبره بعض الأحداث والوقائع المروية، عطفاً على إطلالة بضعة أطياف لشخصيات، لكنّ مقدم تعي جيداً أنها لا تكتب رواية ولو قاربت أجواءها أحياناً. مثلاً كان في مقدورها أن تغذي شخصية شقيقتها التوأم لتجعل منها شخصية روائية طريفة جداً، كما كان بإمكانها أيضاً أن تطور شخصية أخرى هي ابنة قاتل أبيها التي تدعى يسرى أيضاً، وكانت تدرس في مدرستها وفي صفها وتجلس على المقعد نفسه بالقرب منها. هذه لقطة روائية بديعة: أن تلتقي ابنتا القتيل والقاتل اللتان تحملان الاسم نفسه. لم تشأ يسرى أن تخون "الميثاق الأوتوبيوغرافي" وتتخطى تخومه لتكتب سيرة روائية، متخيلة، غير حقيقية تماماً. فغايتها أن تكتب نصاً يكون صورة أمينة لها ولأمها وفيها تتداخل صور أخرى: الابن والابنة والأب. وربما تجب الأشارة هنا إلى أن لغة يسرى ليست لغة روائية أفقية، خارجية ووصفية، بمقدار ما هي لغة مسبوكة ومتينة، تضمر نزعة بلاغية بيّنة بجزالتها وسلالستها في آن واحد، وفيها تنتقي يسرى مفرداتها وتعابيرها ومترادفاتها بدقة وحذاقة، من غير أن تقع في شباك التصنع والتكلف.

قد يكون نص يسرى مقدم من النصوص النادرة، غير الروائية، التي تتطرق إلى "موضوعة" (يمة) الأمومة بمثل هذه الجرأة والعمق، مع أنها لا تسعى إلى "قتل" الأم مجازياً أو إلى محو صورتها من الذاكرة والوجدان. لا عقدة "أوديبية" (مقلوبة) هنا، ولا صراع على شخص الأب، فالأب رحل باكراً مقتولاً، والابنة ترفض التشبه بأمها، بل "تفزع" من هذا التشبه، قائلة: "كان الشبه بك قيداً دهرياً يكبلني". لا تسعى الابنة إلى الحلول محل أمها أو منافستها، بل تحاول أن تكون نقيضها، ويبلغ هذا الشعور لديها مبلغاً حتى لتقول: "كأنني أمسح وجهك عن وجهي وأمحو عنه كل أثر يشير إليك". وتعلن لها أن ألاسئلة بينهما تفارقت والخيارات تخالفت وكذلك الأساليب، وأنها ترفض أن تكون وريثتها وشبيهتها... إلا أن هذه "الكراهية" ليست سوى وجه من وجوه حب الأم أو محبتها، فهي ليست كراهية للأم التي تدعى سكنة ولا للأمومة التي تجسدها، إنها كراهية للصورة التي تظهر فيها الأم، ضحية نفسها أولاً وضحية أعراف الأمومة المفروضة عليها فرضاً، ضحية الإذعان والرضا به، ضحية الإماتة  والقهر والطاعة والزهد بالحياة و"الانتحار حباً".

حارسات أمينات

كان على الابنة التي هي يسرى مقدم، أن تتمرد على ما تسميه "ثقافة القفص الأمومي" الذي تقضي الأمهات شطراً كبيراً من أعمارهنّ وراء قضبانه "حارسات أمينات لملكية بطريركية نصيبهنّ منها فرعي وتبعي". وفي حين تدين الراوية صورة أمها والإطار الذي وضعت فيه، تعترف لها قائلة: "لذا أراني أحاكمك وأقسو وبالقسوة نفسها أحاكم نفسي". ولعل كراهية الأم هنا هي كراهية الابنة لنفسها، بصفتها أماً خارجة عن الأمومة ومتمردة عليها تمرداً ذاتياً وغير أيديولوجي. فهي كما تعترف أيضاً أم أشاحت بأمومتها المبكرة وأهملتها وتقول: "حاصرتني الزنزانة وضاعفت الأمومة حصاري. أحسست أنني كسيحة، عاجزة ومهددة". ولعل عقدة رفض صورة الأم سوف تتضاعف إزاء أمومة ابنتها لاحقاً، فهي أهملتها وكادت أن تتنصل منها مثلما تنصلت من أمومتها الأولى عندما أنجبت ابنها البكر وأوكلت مهمة الاعتناء به وتربيته إلى أمها (جدته). تتضاعف عقدة الذنب بل تتثلث في طوية "الأم الغائبة والابنة العاقة" كما تصف الراوية نفسها. ولعل الذنب الذي تشعر به إزاء ابنها هو الأقسى، فإهمالها إياه منذ الطفولة أبعده عنها وجعله في حال من الغياب المجازي المزدوج: غيابها عنه وغيابه عنها.

وما زاد من سوء الحال أن زواجها من أبيه (كما تسميه) سرعان ما  انتهى مؤذياً الابن. وتعترف أنها حاولت مراراً استرضاء الابن و"ابترازه عاطفياً" بغية الاعتذار منه، عن "حب محجوب" قصرت عنه، ولم تفلح. حتى هو لم يكن ليفضي إليها بحياته الحميمة وكان يتحاشى النظر إلى عينيها مباشرة. لكنه مرة نجح في جرحها وإيلامها عندما روى لها حلماً (حقيقياً أو مختلقاً) أبصرها فيه تمثالاً من شمع أبيض، فراودته للفور رغبة في إذابتها ، فأشعل النار في رأسها وراح يراقبها كيف تذوب إلى أان تحولت بقعة شمعية رخوة، ما لبثت أن تكورت وأصبحت دائرة ارتسمت داخلها عينان باكيتان وفم. ويكاشفها بأنه لم يشعر بالأسف والذنب والخوف تجاه ذوبانها. وعندما ودعته في المطار بعد يومين لم يفتها أن تقول له:"كان يجدر بك إذابتنا نحن الاثنين معاً، أنا وأباك، اللذين أورثناك عقدة الذنب اللعينة".

الأم والأبنة

أما العلاقة بينها كأم وبين ابنتها التي أصبحت أماً، فليست على مقدار من السواء والأمومة المفترضة. ومثلما عاشت أمومتها الأولى مع ابنها البكر، في حال من الإهمال واللامبالاة والأنانية، عاشت كذلك أمومة ابنتها مع ابنها البكر. وكما اختلفت الراوية عن أمها طباعاً وثقافة وسلوكاً، حاولت الابنة – الأم أن تختلف عن أمها (الراوية). بل هي واجهتها مخاطبة إياها قائلة: "قد أسامحك يا أمي، لكنني لن أنسى أنك تخليت عني بقسوة جاحدة وجارحة. تركتني أتكبد وحدي، إرباكات أمومتي الأولى. لم تبالي بخوفي وقلة حيلتي، تصرفت تجاهي كأنني غريبة عنك. كأنني لست ابنتك". ولا غرابة أن يوقظ تأنيبها الجارح لها وفضح أنانيتها، عقدة الذنب الخبيئة والمؤلمة في سريرتها، وقد رافقته مواجهات مشحونة بينهما. لكن حب الأم لابنتها جعلها تعيش محنة الأمومة من جديد، وشعرت بعجز عن شرح "السرساب الملعون" الذي يتملكها، و"شبهة الأمومة الغائبة" التي جعلتها تمضي عمراً "في تسديد كفاراتها".

وكما واجهها ابنها بحلمه الرهيب الذي ذوبها فيه كشمعة، تواجهها ابنتها قصداً أو عن غير قصد بنشر صورة عائلية بدت الأم محذوفة منها. هذا الحذف يهز كينونة الأم، وتعده  فعلاً "مريباً" أعادها إلى النقطة الصفر، و"غياباً معلناً وصريحاً"، ودلالة على "الإبعاد والهجر"، فالصورة "شهادة بالحضور" كما يقول رولان بارت. تشاهد الأم الصورة العائلية التي حذفت منها صباح الخامس والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) 2018 وهو عنوان الرواية. وقد اختارت هذا التاريخ عنواناً للكتاب بصفته شهادة على إلغائها وعلى الخسارة الرهيبة التي حلت بها. ومقابل هذه الصورة الناقصة تحضر صورة الأم الأولى، أم الراوية، في الألبوم العائلي، ترمقها الابنة بحنو، وكأنها حية أبداً، على الرغم من اعتقادها أن "الصور محاولة فاشلة لإبقاء الميت حياً".

نجحت يسرى مقدم في حبك العلاقة المعقدة بين الثلاثي الأبدي: الأم (الجدة أيضاً) وابنتها الأم والابنة (الحفيدة) بصفتها أماً، وما يتخلل هذا المثلث من أضلاع أخرى كالابن والأب... إنها الكتابة التي تغدو قرين الولادة أو صنوها، وفيها تلد الكاتبة الكلمات كما تلد الأم أجنّتها، ولا تنكتب الكلمات، كما تعبر، إلا كي "تستقل عنا في تكرار أبدي". لقد وجدت الراوية – الأم في الكتابة أداة لـ"احتشاش" ذنوبها وسلخها عنها كمن يسلخ جلده، مع أنها على يقين أن الكتابة تظل وهماً، ولو كان سمها "ترياقاً حراقاً"، وتقول: "بعض الكتابة لا يشفي، بعض الكتابة سم صرف".

المزيد من ثقافة