Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كورونا والجماعات الإرهابية والمتطرفة والإجرامية

التعاون الدولي ضرورة لتجاوز آثار هذه الجائحة

أفغاني يبيع أقنعة الوجه في كابول (غيتي)


تسبّب فيروس كورونا المستجد، الذي بدأ كأزمة صحيّة في المقام الأول، في هزّات عنيفة مسّت جميع نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. بعيداً من آثار هذه الأزمة المحتملة على تحولات النظام العالمي، وطبيعة التعاون الدولي، وتأجيجها للتنافس الاقتصادي والجيوسياسي الأميركي - الصيني، فقد ألقت هذه الأزمة كذلك بظلالها على البيئة الأمنية في العديد من الدول بشكل ينذر بتحديات مرتقبة للأمن والسلم المحلي والإقليمي والدولي. من الصعب في هذه العجالة حصر جميع المخاطر الأمنية التي تسببت بها أزمة فيروس كورونا على كافة المستويات، ولكن من الممكن محاولة فهم الأسلوب والطريقة التي تعاملت بها بعض الجماعات المختلفة المهددة للأمن والسلم مع هذه الجائحة، بالأخص تلك القابعة على الأطراف الراديكالية للأطياف الفكرية والوجود القانوني في المجتمعات المختلفة.

على اختلاف طبيعة وأهداف جماعات التطرّف والإرهاب والجريمة المختلفة، إلا أن القاسم المشترك بينها جميعاً أنها وجدت في بيئة الأزمة التي تسبب بها فيروس كورونا المستجد فرصاً سانحة للاستغلال ومحاولة توسيع النفوذ سواء كان ذلك على أرض الواقع أم في عالم الأفكار والتنظير. إلا أن السؤال المهم يتعلق بالكيفية والطريقة. ففهم ذلك بشكل دقيق يعطينا مدخلاً هاماً ليس لفهم أعمق لطبيعة هذه الجماعات فحسب، بل للطريقة الأمثل لمواجهتها وتحييد خطرها.

لنبدأ بتنظيم داعش الإرهابي وكيفية قراءته للأزمة. أولاً، اعتبر التنظيم فيروس كورونا "عذاباً من الله" سلّطه على "أمم من خلقه، أكثرهم –ولله الحمد– من المشركين"، وهذا التفسير ليس بمستغرب على تنظيم يرى جميع الخلق والأمم خارج دائرة أتباعه الضيقة من الكفار والمشركين. كما أشار في أكثر من موضع إلى أنه لا يجب الخوف من الفيروس فهو "جند من جنود الله" موجّه ضد أعدائها. ثانياً، لم يخف التنظيم تشفّيه وفرحه بالضغوطات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تسببت بها الجائحة على الدول عامة و"الأمم الصليبية على وجه الخصوص"، وذكر أن هذه "الأوقات الحرجة" ستجعلهم، رغماً عنهم، يخففون الضغوط ويمنّون أنفسهم بفترة تهدئة مع من أسماهم بـ"المجاهدين". كما كرّر التأكيد لأتباعه بأن "الأزمة الاقتصادية التي بدأت معالمها بالظهور "هي في صالح التنظيم حيث ستؤدي غالباً إلى تراجع في حدة الحملات العسكرية [ضده] وسعي جيوش الطواغيت إلى تبريد الجبهات لفترة من الزمن... ولن تتأخر آثار كل ذلك بالظهور للعيان خلال الشهور المقبلة". كما تتّضح رؤية التنظيم من حيث النظر إلى هذه الأزمة على أنها خلقت فرصة من الممكن، بل والمفترض، استغلال أجواء الخوف والانشغال التي ولّدتها لشن الهجمات وتحقيق المكاسب. حيث أن "آخر ما يتمنونه [الأعداء] اليوم أن يتزامن وقتهم العصيب هذا مع تحضيرات من جنود الخلافة لضربات جديدة لهم".

أخيراً، انتقد التنظيم الإرهابي الدول الإسلامية وعلماءها الذين أفتوا "بإغلاق المساجد بحجّة العدوى وكأنها لا تنتقل إلا في مساجد المسلمين". وعلى الرغم من تهافت هذا الخطاب، إلا أنه من المهم قراءته والتعامل معه بجدّية، حيث أنه يكشف محاولة تنظيم داعش تجيير أزمة فيروس كورونا لصالحه من خلال قيامه بإدماجها ضمن إطار أيديولوجيته المتطرّفة القائمة أساساً لخدمة أهدافه المسبقة والدفع بها. فلم يفت التنظيم، على سبيل المثال، التأكيد لأتباعه بأن إعلان القوات الفرنسية والتشيكية انسحابهما من العراق، وكذلك انسحاب القوات الأميركية، والذي تزامن مع انتشار فيروس كورونا، من قاعدتين عسكريتين في العراق في محافظتي نينوى وكركوك وتسليمهما للجيش العراقي، هو بسبب ضغط الأزمة الاقتصادي والصحي.

أما في ما يتعلق بتنظيم القاعدة وقراءته للأزمة، فقد نشرت القيادة العامة للتنظيم بياناً عاماً في مارس (آذار) 2020 ذكرت فيه أن الفيروس أصاب العالم و"الأمة الإسلامية" بسبب ذنوبهم، ولم يخف التنظيم كذلك سعادته بالضرر الذي لحق بالاقتصاد الأميركي الذي وجد نفسه فجأة "في غرفة العناية المركزة" جراء الأزمة. كما دعا المسلمين إلى التفكّر والتوبة والعودة إلى "الجهاد"، ومواطني الدول الغربية إلى التفكّر في فسادهم الأخلاقي واقتصاداتهم الربوية والظلم الذي تسببت به حكوماتهم. بمعنى آخر، وجد تنظيم القاعدة في أزمة كورونا فرصة لمحاولة كسب القلوب والعقول من خلال الدعوة للتأمل الذاتي والتفكّر والدعوة للدين، بحسب تفسيره المتشدّد طبعاً. من المهم التأكيد هنا أن كون خيارات تنظيم القاعدة في هذا الجانب تبدو أقل تشدّداً ووحشيّة من تنظيم داعش، فإن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال اعتدالها. فهو لا يزال يتبنّى أيديولوجية متطرّفة تدعو لاستخدام الإرهاب كوسيلة وخيار، لتحقيق الأهداف السياسية. كل ما في الأمر أن نسبيّة المقارنة مع الأكثر تشدّداً جعلت الصورة تبدو وكأنّها كذلك. إن اختلاف التنظيمين الإرهابيين في كيفية التعامل مع الأزمة يعكس خلافاً أعمق في رؤية واستراتيجية كل منهما. فكما ذكرت الباحثة نيللي لحود، "إن كانت قيادات القاعدة تريد إظهار أنهم وأتباعهم مستعدون للموت من أجل القضية، فإن قيادات داعش حريصون على إبراز أنهم يريدون أن يقتلوا من أجل القضية".

من الملاحظ واللافت في قراءة التنظيمين الإرهابيين الرسمية لأزمة كورونا عدم اللجوء لنظريات المؤامرة لتفسيرها، وذلك على عكس تفشّيها لدى أوساط جماعات أقصى اليمين المتطرّف، والتي تضم مفاهيمها، بشكل عام، خليطاً من كل أو بعض الأفكار الفاشيّة، القوميّة المتطرفة، والنازيّة، ومناهضة الإسلام، ومعاداة الساميّة، ومكافحة الهجرة. من غير المستغرب أن تنشط التفسيرات المؤامراتية في ظل مناخ الأزمات وأجواء الخوف والارتياب، إلا أن نظريات المؤامرة كانت رائجة ما قبل أزمة كورونا في أوساط جماعات أقصى اليمين المتطرف. وقد أتت الجائحة، والتي كان بعض من نتائجها وآثارها الأولية في صالح العديد من الرسائل التي كانت تدعو إليها هذه الجماعات مسبقاً، لتعطي هذه النظريات زخماً إضافياً. فالجائحة في ذروتها، على سبيل المثال، تسبّبت في كشف بعض الجوانب السلبيّة للعولمة، إغلاق الحدود، تعزيز انكفاء الدول على ذاتها، وإضعاف الثقة في المؤسسات والمنظمات الدولية. من المحتمل والمتصوّر إذن أن يؤثر ذلك سلباً في آفاق التعاون الدولي، ويعزّز من شعبية الاتجاهات الشعبوية والحمائية والقومية المتطرّفة، والتي كان لها وجود وحضور في المجتمعات الغربية ما قبل كورونا، خصوصاً في أوساط أقصى اليمين المتطرّف.

من أكثر النظريات المرتبطة بكورونا والتي لاقت رواجاً في أوساط هذه الجماعات نظرية "الجيل الخامس". تدّعي هذه النظرية أن الفيروس بحد ذاته غير مضر، وأن المرض والوفيات سببها في الواقع قوة إشعاعات الترددات الكهرومغناطيسية التي تصدرها أبراج اتصالات الجيل الخامس، حيث أنها تسحب الأوكسجين من الهواء والكائنات الحية، وهي التي يتم توجيهها عمداً نحو أشخاص لقتل شرائح معيّنة من السكان. أما تدابير القيود على الحركة التي أقرتها غالبية الحكومات لاحقاً للسيطرة على الوباء فقد تم تفسيرها على أنها "جزء من جهد تدريجي لسلب حريّات الناس سعياً وراء خلق ما يسمّى بالنظام العالمي الجديد"، وأن المرحلة المقبلة هي مرحلة اللقاحات أو التطعيم الذي سيتم تطويره من قبل اليهود لغرض التحكّم بالنسل والقضاء على العرق الأبيض. هذه النظرية وغيرها من النظريات المتعلقة بفيروس كورونا تم توظيفها وتفسيرها لخدمة وتأييد نظريات شائعة وقائمة مسبقا كنظرية "الإحلال العظيم" أو "الإبادة البيضاء"، أو النظرية التي تدور حول تآمر "الدولة العميقة" وحتمية "الصحوة الكبرى".

على الطرف الأكثر تشدّداً في تيار أقصى اليمين المتطرّف تقبع بعض جماعات النازيّين الجدد وأولئك الذين يطلق عليهم "المُسَرِّعون"، وهم الذين يدعون علانية لتبنّي أعمال العنف والإرهاب. هؤلاء "المسرّعون" يؤمنون بأن زرع الفوضى ونشر أعمال العنف ستسرّع بانهيار المجتمعات والأنظمة الغربية، مما يمكّنهم من بناء مجتمع ونظام جديد يقوم على أفضلية وتفوّق العرق الأبيض، بالتالي هم يرغبون ويدعون لقيام حرب أهلية داخل مجتمعاتهم. هذه النظرية "التسريعيّة" حفّزت تيموثي ويلسون، والذي كان يتردّد على منتديات النازيّين الجدد، للتخطيط لتفجير مستشفى مخصص لرعاية مرضى كورونا في كنساس بالولايات المتحدة الأميركية في مارس (آذار) الماضي.

أما في ما يتعلق بجماعات الجريمة المنظمة، فاستغلال الجائحة وآثارها السلبية جاء من خلال استغلال هشاشة مؤسسات الدولة وضعف استجابتها لتحديات الأزمة في المناطق التي تنشط فيها وتسيطر عليها. فاستغلال جماعات الجريمة المنظمة، كالمافيا، لفيروس كورونا لم يعتمد بالدرجة الأولى على التنظير الأيديولوجي والدعائي كما فعلت الجماعات الإرهابية "الجهادية" وأقصى اليمينيّة المتطرّفة، بل انعكس ذلك على أفعالها على أرض الواقع. ففي محافظات جنوب إيطاليا على سبيل المثال، معقل شبكات المافيا والجريمة المنظمة في البلاد، وحيث ارتفاع نسب البطالة، يعمل أكثر من مليون شخص في ما يعرف بـ"الاقتصاد الأسود"، وهو الجزء من النشاط الاقتصادي للبلد غير المسجّل وغير الخاضع لضريبتها. هناك، حيث الطبقات المهمّشة الأكثر تضرراً جراء الآثار الاقتصادية للأزمة، تم توثيق قيام عصابات الكامورا (المافيا النابوليّة) والدرانغيتا (المافيا الكالابرية) والكوسا نوسترا في باليرمو بتقديم سلات غذائية وطبية وخدمات أساسية للسكان بالمجان. بحسب المدعي العام الإيطالي لمكافحة المافيا، جميع هذه العصابات "موجودة لتقديم خدماتها لأولئك الذين يعانون، فهم يقدّمون لهم ما يحتاجونه الآن لطلب تحصيله لاحقاً بفائدة".

إضافة إلى ذلك، في حال عدم رغبة أو عدم قدرة الدولة لتقديم الدعم الاقتصادي الكافي في الوقت المناسب لمساعدة أصحاب الأعمال والفئات المتضررة، هناك أيضاً خطورة أن تقوم هذه العصابات والجماعات، والتي لا تعاني نقصاً في السيولة، بتقديم الدعم المادي للقطاعات والشركات المتضررة، ومن ثم خروجها كأحد أكبر المستفيدين في بيئة ما بعد كورونا من خلال تسللها لقطاعات وأعمال لم تكن تتحكم بها. وهو ما حدث خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، على سبيل المثال، حيث تحوّلت المافيا، والتي كانت تملك سيولة مقدارها 72 مليار دولار، إلى "أكبر بنوك إيطاليا" بسبب سهولة إقراضها للأموال واشتراطها لضمانات أقل من البنوك الرسمية التي كانت تعاني أصلاً جرّاء الأزمة.

في أميركا الجنوبية كذلك، حيث تسيطر بعض جماعات الجريمة المنظمة بالفعل على أحياء ومناطق مأهولة بالسكان، لن ترى بعض حكومات تلك الدول بداً من التفاهم والتعاون مع هذه الجماعات للسيطرة على الأوضاع في ظل هذه الأزمة التي من المتوقع أن تفاقم الوضع الاقتصادي وتعزّز من الاضطرابات الاجتماعية. إلا أن الخطورة على المدى الطويل أن ذلك سيجعل من شرعية هذه الجماعة الإجرامية أو تلك أكثر رسوخاً ويجعلها تبدو في مظهر "الدولة الموازية"، مما يجعل من استعادة مناطقها لسيطرة وحكم مؤسسات الدولة لاحقاً أمراً أكثر صعوبة وتعقيد.

إن العديد من الدول بشكل عام أنهكتها آثار الجائحة الاقتصادية وأرهقت مؤسساتها الأمنية متطلّبات حفظ الأمن وحظر التجوال خلال هذه الجائحة، مما أعطى مجالاً وحرية أوسع لهذه الجماعات المتطرفة والخارجة عن القانون للتنفس ومتابعة أنشطتها غير الشرعيّة. وهنا، حيث تكمن فراغات السلطة التي تتشكّل إما لعدم رغبة أو قدرة الدولة على فرض الأمن أو تقديم الدعم الاقتصادي المطلوب، تبرز الفرص الجاهزة للعديد من جماعات الإرهاب والجريمة المنظمة للاستغلال.

من الواضح إذن أن أزمة فيروس كورونا المستجد خلقت تحديات ورسمت تصوراً جديداً للبيئة الأمنية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، مما يحتّم النظر إلى جماعات الإرهاب والتطرّف والجريمة على أنها فاعلة وديناميكيّة وليست ثابتة وجامدة. فهي تتفاعل مع البيئات المتغيّرة، وتتأقلم مع الأحداث المتسارعة، وتستغل التحديات التي تواجهها المجتمعات لتخلق منها فرصاً جديدة لها. بالتالي، فإن ذلك يستدعي رؤية استشرافية وتعاطياً استباقياً وحيوياً مستمراً لمواكبة التحولات والتطورات والبقاء ما أمكن خطوة إلى الأمام. وهذا يؤكد ضرورة وأهمية العمل الجماعي والتعاون الإقليمي والدولي لمساعدة وتعزيز قدرات الدول الأكثر فقراً والأعمق تضرراً على تجاوز آثار هذه الجائحة، فالتهديدات الأمنية في عالم اليوم عابرة للوطنية ولا تعترف بالحدود.

* هذه المقالة ملخص لورقة علمية ستنشر في العدد الخاص بفيروس كورونا للمجلة العربية للدراسات الأمنية، وهي مجلة علمية محكمة تصدر عن جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية.

المزيد من آراء