Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قاهرة القرن الماضي والحاضر بين الاستاذ العائد والجد

"الغابة" رواية عن الاغتراب عبر شخصيات رومانطيقية

القاهرة القرن ال20 (ويكبيديا)

عبر قرن أو يزيد، تدور أحداث رواية "الغابة" (دار تويا- القاهرة) للأكاديمي المصري المقيم في الكويت أيمن بكر، وهي عمله الروائي الأول، متخذة بعداً توثيقياً يسجل تاريخ القاهرة في القرن العشرين وصولاً إلى القرن الحالي، عبر ساردين. الأول بصيغة ضمير المتكلم، يمثله "آدم سليمان توفيق المصري"، أستاذ جامعي في عامه الخامس والستين عائد إلى مصر بعد عشرين عاماً قضاها مغترباً في الهند. والسارد الثاني هو سارد عليم يحكي عن عالم جِد السارد الأول "توفيق المصري" الذي جذبه حبه للغناء والفن إلى المحروسة في بداية القرن المنصرم. هذا الخطان للسرد يمضيان في طريقهما حتى يتصلا في نقطة واحدة، عبر استرجاع "آدم" لماضيه في القاهرة في فترة السبعينيات والثمانينيات، فيما يمضي السارد الثاني في الحكي عن عاصمة مصر في بداية القرن العشرين حتى الستينيات منه، ليكون بذلك قد قدم الساردان تاريخاً شهد أحداثاً مفصلية وصولاً إلى إلى ثورة 25 يناير2011، وما تلاها من أحداث.

ولا يخفى على قارئ النص بعده الرومانسي، الذي يتجلى في الولع بالطبيعة والحياة البرية، خصوصاً في الهند، حيث عاش "آدم" في مكان يتجاور فيه الإنسان وحيوانات الغابة، مردداً بين الحين والآخر بيت الشنفرى في لاميته الشهيرة، وفيه يتحدث عن تركه الناس وتفضيله العيش في الصحراء مع الحيوانات الضارية التي اعتادته، فهم أفضل من أهله والناس لأنهم لا يذيعون سراً ولا يخذلونه أبداً: "هُـمُ الأَهْلُ لا مُسْتَودَعُ السِّـرِّ ذَائِـعٌ لَدَيْهِمْ/ وَلاَ الجَانِي بِمَا جَرَّ يُخْـذَلُ".

إستعادة الماضي

الرواية في بنيتها الأساسية ذات طابع رومانسي يتجسد في حنين إلى الوطن والرغبة في استعادة الماضي، والحزن على تغيير معالم الكثير من الأماكن في "وسط البلد" بالقاهرة. هي رواية تجتر ذكريات الماضي وتحيل دوماً إلى مقارنة بين زمنين، وأربعة أجيال، تتمثل في الجد الأول "توفيق المصري وزوجته ختام" وعالمهما قبل الخمسينيات والولع بأم كلثوم وحفلاتها وشارع عماد الدين ومقاهيه، والجيل الثاني والثالث لسليمان ابن توفيق وابنه آدم الذي عاني جيله من الانفتاح والتيارات الإسلامية المتشددة والسفر إلى الخليج، ثم الجيل الرابع وهو جيل أبناء وأحفاد "آدم" وتغول التكنولوجيا عليهم، والتفكير في الهجرة من مصر من دون رغبة في العودة إليها.

وتتجلى الرومانسية في الرواية كذلك في أن شخوصها في أسى دائم لما يتعرضون له من فواجع، بطلها القدرتارة، والمجتمع وسلطة غاشمة، تارة أخرى، فهناك البطل "أدم" الذي عاش حياة أسرية مفككة حين طلَّق والده والدته، واضطر إلى العيش في كنف جديه "توفيق وختام" وهو الأمر نفسه الذي سيحدث لحفيدته سلمى، حين يفترق والداها، وتنشغل عنها أمها بعملها فيكون الجد "آدم" هو وطنها. وهناك ابن البطل؛ "سامي"، وهو مهندس كومبيوتر، يُعتقل عقب ثورة يناير، ويهان فيقررالسفر إلى أميركا ويعلن إلحاده بعد أن عانى ما عانى في السجن. وكان "منصور السويفي"، المحامي والشاعر قد واجه مصيراً مماثلاً عقب ثورة 19 وحين خرج من المعتقل بات يرفض الحديث في السياسية. وهناك المآسي العاطفية، التي تتكرر فيها ثيمة واحدة لثلاث مرات مع ثلاثة أشخاص وهي أن "يحضر المحب عُرس محبوبته". الأولى مع "صديق"؛ ابن خالة "ختام" التي يتزوجها "توفيق المصري"، والثانية مع "آدم" الذي يحضر حفلة زفاف حبيبته "سامية السويسي" غلى زميله في الدراسة، وكذلك "عبدالحميد" الذي يحلم بالزواج من "الأميرة فوزية"، فيجد نفسه بعد تخرجه في الكلية الحربية، ضمن التشريفة العسكرية.

هي رؤية مأساوية لوطن، أتراحه أكثر من أفراحه، على مدى أكثر من مئة عام، ومنها حريق القاهرة، في بداية العام 1952 وتهجير أهالي مدن القناة، تحت وطأة تكرار قصفهم من الطائرات الإسرائيلية التي رصدها أيضاً من قبل يوسف السباعي في "الهزيمة كان اسمها فاطمة"، ونجيب سرور في مسرحيته الشعرية "قولوا لعين الشمس"، وهناك خيبة جيل كامل أجبره الانفتاح على السفر طلباً للمال، وانتشار الفكر المتشدد وتغول الجماعات المتاجرة باسم الدين والأخرى المتاجرة باسم الوطنية.

خيبات متوعة

إنها خيبات متنوعة سواء على المستوى الشخصي أو الوطني، مستمرة ويبدو أنها ستستمر في وطن داخل الرواية يبدو وكأنه طارد لمواهبه، إلى شتى بلدان العالم، حتى بعد اندلاع ثورة تطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية. إنها الفكرة نفسها التي تظهر مثلاً في رواية أريج جمال "أنا أروى يا مريم"، وفي رواية منى الشيمي "وطن الجيب الخلفي"، حيث يبدو الأمر وكأنه قد كُتِب على الناس، على حد تعبير إحدى شخصيات رواية "الغاية" أن يختاروا بين حكم ديني أو حكم عسكري ولا ثالث لهما.

ويبقى أنه في "الغابة" تظهر الصورة النمطية للمثقف المتمثل في "آدم"؛ الذي يعشق أم كلثم وفيروز، فيما يحمل كثير من فصول الرواية أسماء أغانيهما، وينتهي بكلمات أغنية مثل "أعطني الناي"، كما يحضر عدد من مقاهي المثقفين مثل مقهى "رسلان" ومقهى "ستراند"، تجسيداً لحنين إلى الماضي.

وهذه النمطية أيضاً موجودة في التفكير في لعبة الشطرنج على أن "الجنود" لا قيمة لهم، بالإضافة إلى الحكي عن اليهود في مصر وما حدث لهم في عهد عبدالناصر، وتغيير عدد منهم ديانتهم سواء للإسلام أو المسيحية من أجل البقاء في البلد. والنماذج كثيرة داخل الرواية للأشكال النمطية للأحداث وتكراريتها أو بعبارة أخرى عدم الجدة في ما تطرحه من المتاجرة بالدين، وسوء أفكار "الإخوان المسلمين"، وتسبب الهجرة إلى دول عربية لدخول مفاهيم دينية لم تكن موجودة من قبل ولا تناسب البيئة المصرية...

كما أن هناك بعض الشخصيات التي تظهر داخل العمل من دون لزوم، فيشبه وجودها بظهور مسدس في بداية فيلم ما لكنه لا يستخدم على الإطلاق داخل أحداث الفيلم، ومن تلك الشخصيات "ماريان" صاحبة البانسيون الذي نزل فيه "توفيق المصري" عند قدومه إلى القاهرة. ويبدو أنه من فرط زحام الشخصيات داخل العمل نسيها الكاتب، كما نسيَّ شخصية "عبدالحميد" الضابط في الجيش، وغيره، تاركاً الكثير من الفراغات. ويلاحظ أيضاً تأرجح الكاتب في الحوار ما بين الفصحى والعامية، لكن عموماً يبقى أن أيمن بكر اجتهد في العزف على وتر الاغتراب، حسب المصطلح التداولي في نظرية جاكوب ماي، عبر حالات ممتدة في أجيال عدة، مستعينًا بآليات فنية شتى أحسنَ توظيفها روائياً.

المزيد من ثقافة