Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اليوغسلافي دانيلو كيش المعقد الانتماء وطنه لغته

مجموعته القصصية "العود والندوب" تقترح تاريخا مغايرا لما سطره المنتصرون

الكاتب اليوغسلافي دانيلو كيش (موقع الكاتب)

تذكرنا قراءة أعمال الكاتب اليوغسلافي دانيلو كيش (1935 – 1989) بأن تاريخ الأدب العالمي هو تاريخ الحوار الجدلي الخلاق بين الكُتَّاب الكبار، ذلك الحوار القائم على تفاعل أحدهم مع ما كتبه سابقوه، ثم انطلاقه منه لكتابة ما لم يكن ليخطر على بالهم.

نقرأ كيش فنستحضر كُتَّاباً سابقين عليه مثل بورخيس وجويس وكافكا وبرونو شولتز ونابوكوف، وآخرين تالين له، أبرزهم الألماني زيبالد، الذي من الصعب أن لّا تذكرنا روايته "المغتربون" بـ"ضريح لبوريس ديفيدوفيتش" بسعيها لسرد حيوات أفراد دهستهم عجلة التاريخ، وأن لّا تعيدنا روايته الأولى "دوار- أحاسيس" إلى كتاب كيش الأخير "العود والندوب"، فطريقة زيبالد في استعادة كافكا وستندال فيها تبدو كما لو كانت تتحاور مع الآلية التي استعاد بها الكاتب اليوغسلافي كُتاباً شرق أوروبيين في قصصه الأخيرة.

ترتكز عوالم كيش على مرتكزين أساسيين؛ الأول معسكرات الاعتقال النازية والثاني معسكرات الاعتقال السوفياتية، لكنها لا تتوقف عندهما، بل ترفدهما بروافد أخرى وتضيف إليهما ما تمتحه من معين الميتافيزيقا والمخيلة التوراتية وتفاصيل الحياة اليومية. وتتشكل أدواته التقنية من وثائق مزيفة وتقارير وشهادات متناقضة واستجوابات (عبثية في الغالب) يفض عبرها الأحداث، أو قوائم مكتوبة بلغة شعرية ينسج من خلالها سيراً مفترضة لأبطاله. غير أن الرابط الأساسي بين كل أعمال صاحب "موسوعة الموتى" يتمثل في سعيه الدائم إلى القبض على المتلاشي والزائل وإعادة خلقه بقوة اللغة.

مقاومة النسيان

في تقديمه للترجمة الإنجليزية لمجموعة "العود والندوب"، يكتب الروائي البريطاني آدم ثيرلويل أن دانيلو كيش يسعى في أدبه إلى إحياء الموتى، وفي رأيي أن جل ما يهدف إليه كيش إضفاء المعنى على حيواتهم المنقضية وتحجيم عبثية موتهم، فـ"ضريح لبوريس ديفيدوفيتش" ليس مجرد عنوان كتاب، بقدر ما هو إشارة إلى منهج الكاتب اليوغسلافي المتمثل في منح قبر معلوم للضحايا وإنقاذهم من أن يُنسوا في عتمة المقابر الجماعية. فأن يسميهم ويحكي قصتهم أو يخترع لهم قصة مفترضة، يعني أن يقتنصهم من قبضة العدم إلى رحابة الخلق والابتكار.

منذ بداياته كان دانيلو كيش مدركاً أهمية الوثيقة – حقيقية كانت أم ملفّقة - في أدبه، وكان واعياً بأن هدفه تحويل العاديين إلى شخصيات أسطورية، ليس بالمعنى الساذج، إنما بمنحهم صوتاً وبأن يكونوا ممثلين لغيرهم من الضحايا، فقد احتفظ بوثائق أبيه الذي مات في أوشفيتز، وفي ذهنه أن هذه الأوراق والخطابات ستكون يوماً جزءاً من أدبه: "الخطاب الطويل الذي أعدت إنتاجه في نهاية "ساعة رملية" بيَّن لي أن والدي كان كاتباً فاشلاً بطريقة ما. عرفت أبي بصورة مبهمة جداً لدرجة أنني كنت قادراً على استخدام حقائق معينة لتحويل رجل عادي من وسط أوروبا إلى شخصية أسطورية".

هذا الرجل المعتل نفسياً الذي اختفى في غياهب معسكرات الاعتقال النازية، أدخله ابنه في سجلات الأدب العالمي في ثلاثيته: "أحزان مبكرة" و"حديقة، رماد" و"ساعة رملية"، كما أنه كان محور قصتة البديعة "موسوعة الموتى"، وظل طيفه مخيماً على عوالمه بأكثر من طريقة، بعضها مباشر وبعضها الآخر متوارٍ خلف أقنعة ذات صلة بهوية الأب ممثلة في إرث الإمبراطورية النمساوية المجرية. فالمتابع لأدب شرق ووسط أوروبا، المكتوب في النصف الأول من القرن العشرين، بإمكانه لمس إلى أي مدى خلَّف زوال تلك الإمبراطورية جرحاً لا سبيل إلى اندماله في نفوس الكُتَّاب المولودين في ظلها، وإلى أي مدى جعل مفهوم الوطن لديهم معقداً وهشاً في آن.

ومع أن دانيلو كيش ينتمي إلى جيل لاحق، إلّا أنه ورث هذا الجرح بطريقة ما، ربما لولعه الخاص بالمتلاشي والزائل، وربما لأنه (أي الجرح) مثَّل صلة لا تنفصم بأبيه الراحل، أو ربما بالأساس لوعيه العميق بتعدد مكونات هويته وتعقدها حد التضارب والتناقض، هو الذي حدس مبكراً بهشاشة فكرة يوغسلافيا كوطن جامع لقوميات متنافرة.

سقوط الأمبراطورية

في كثير من نصوصه يخيِّم شبح تلك الإمبراطورية الزائلة كضوء مخاتل ينبعث من بين كوى أبنية السرد، وفي عمله الأخير؛ "العود والندوب"، يتبدى جرح سقوطها عبر تأثيره في حياة كُتَّاب مثل أودون فون هورفات وإندريه آدي اللذين يستدعي كيش طيفيهما، مع طيفي إيفو أندريتش وبيوتر رافيتش، ويحيلهم جميعاً إلى شخصيات فنية في قصص تقدم درساً في كيفية تحويل سير شخصيات حقيقية إلى فن خالص.

تبدأ المجموعة القصصية بقصة "الرجل الذي بلا دولة"، التي يعيد فيها كيش تشكيل حياة الكاتب المجري باللغة الألمانية أودون فون هورفات في قالب فني يتراءى فيه طيف الشاعر المجري إندريه آدي المتبدي لفون هورفات كشبح في فندق باريسي سبق لآدي أن أقام فيه مع حبيبته ليدا. وبسهولة يمكننا ملاحظة أن آدي وفون هورفات يمثُلان في النص كقناعين فنيين لكيش نفسه، أو للدقة يمكننا ملاحظة أننا أمام لعبة مرايا، لا تكاد تُلحَظ من فرط رهافتها، يرى فون هورفات نفسه فيها في مرآة آدي، ويرى كيش المتواري خارج النص نفسه في مرآة الاثنين.

عنوان القصة مستلهم من توصيف هورفات لهويته: "إن سألتني عن موطني، أجيب: وُلِدتُ في رييكا، نشأتُ في بلغراد، بودابست، بريسبرغ، فيينا وميونيخ، ولدي جواز سفر مجري، لكن ليس لي وطن أسلاف. أنا مزيج نموذجي جداً من إمبراطورية النمسا والمجر الغابرة: مجري، كرواتي، ألماني وتشيكي في الوقت نفسه. دولتي المجر؛ لغتي الأم ألمانية".

تعقّد الانتماء هذا مرآة لتعقّد هوية كيش، فأبوه إدوارد كوهن يهودي من رعايا الإمبراطوية النمساوية المجرية قبل سقوطها، لكنه غيَّر لقبه لاحقاً إلى كيش في محاولة للاندماج مع القومية المجرية، وأمه ميليكا أرثوذكسية صربية أنقذته من الموت حين عمَّدته في الثالثة من عمره في الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية بنوفي ساد. وهو نفسه وُلِد في صربيا، ثم هرب مع أسرته طفلاً إلى المجر، قبل أن يُرَّحَّل مع أمه إلى الجبل الأسود حيث قضى صباه ومطلع شبابه قبل الانتقال إلى بلغراد.

وقد وصف كيش وعيه بازدواج انتمائه هذا بالصدمة، فقد انتقل إليه من أمه التقليد الملحمي للروح البطولية الصربية، مع واقع البلقان المرير، ومن أبيه أدب وسط أوروبا وانحدارها والشعر الباروكي المجري. "داخل هذا المزيج، المصنوع من التضاربات والمتناقضات، سوف تتورّط كينونتي اليهودية، ليس بالمعنى الديني، إنما بالمشهديات الثقافية الأساسية، كباحث".

لكن إن كان للثقافة اليهودية تأثير بالغ في عوالم دانيلو كيش ومعها إرث والده كأحد ضحايا أوشفيتز، فإنه اختار في وصيته أن يُدفن وفق الطقوس المسيحية الأرثوذكسية في بلغراد، منحازاً إلى انتمائه الصربي، ربما لأن "اللغة هي الوطن الحقيقي للمرء"، كما كتب في قصة "الرجل الذي بلا دولة". فكما ينتمي فون هورفات إلى لغته الألمانية، ينتمي كيش إلى للغة الصربية أكثر من انتمائه إلى أي شيء آخر.

هذا عن علاقته بفون هورفات، ماذا عمَّا يجمعه بإندريه آدي؟ في مقطع دال يُشار إلى آدي في النص كشاعر معبود في وطنه، لكنه أيضاً لديه أعداء أنكروا عليه أي أصالة، وادعوا أنه مقلد عادي للرمزيين الفرنسيين ومنتحل لأشعار فيرلين وبودلير، وكتبوا عنه نشرات مليئة بالاتهامات والافتراءات.

إتهامات مجحفة

ويستدعي هذا إلى الذهن فوراً ما عاناه كيش من تشهير واغتيال معنوي على يد النخب الستالينية المحافظة وكتبة الحزب الحاكم في يوغسلافيا بمجرد إصداره "ضريح لبوريس ديفيدوفيتش"، فبدلاً من نقد الكتاب فنياً أو حتى أيديولوجياً، انهالوا على مؤلفه باتهامات مجحفة، سخر منها جوزيف برودسكي في تقديمه للطبعة الإنجليزية من العمل الذي وصفه بـ "جوهرة أصيلة من السرد الشعري، أفضل كتاب صدر في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية".

من جهة أخرى، يحضر إيفو أندريتش بدوره في "العود والندوب"، وهو على فراش الموت، يعدّد في هذيانات مرضه الأخير، قائمة بأصحاب الفضل عليه، وعبر هذه القائمة تُسرَد قصة حياته بطريقة مبتكرة. واللافت أن هذه القصة المعنونة بـ"الدين" أشبه برسالة امتنان من كيش إلى أندريتش.

أما الكاتب البولندي الناجي من أوشفيتز بيوتر رافيتش، فتتخذ قصة "يوري غوليتش" من انتحاره عام 1982 موضوعاً لها. ومع أن عالمها قد يغري كاتباً أقل موهبة بالانغماس في القتامة، ينجح كيش في رفدها بالسخرية اللماحة، والإحالات المازحة، ويرسم فيها بورتريهاً شبه هزلي للمشهد الثقافي الباريسي. تحفل القصة بإشارات إلى أسماء مثل مدام (مارغريت) يورسنار وإميل سيوران أو راعية كُتَّاب أميركا اللاتينية في فرنسا، أو الصديقة المنشغلة بترجمة خوليو كورتاثر إلى الفرنسية، وبسخرية الراوي (يكاد يتطابق مع كيش الذي عاش آخر عشر سنوات من حياته في منفى طوعي بباريس) من نفسه، في تلاعب محسوب بالحدود الفاصلة بين ما هو تخييلي وما هو واقعي. وفي لحظة بعينها يصبح هذا التلاعب مزدوجاً، بتقديم النص كواقع يتقاطع معه الفن ممثلاً في رواية الكاتب المنتحر. فخلال مراسم الدفن يلمح الراوي جرذاً ميتاً بجوار القبر، فيتساءل: ما الذي أتى به إلى هنا؟ وما سبب موته؟ قبل أن يتذكر الجرذان المذكورة في الرواية الوحيدة لصديقه، فيخطر له أن هذا الجرذ الميت قادم مباشرةً من الرواية إلى مقبرة مونبارناس "لأن لا شيء ثابتاً باستثناء الوهم العظيم للخلق؛ لا طاقة تضيع هباءً أبداً؛ كل كلمة مكتوبة بمثابة سِفر تكوين".

عالم مستعاد

طوال قراءة هذه القصة، كنت أتساءل لماذا غيَّر كيش اسم بيوتر رافيتش في الوقت الذي ذكر فيه كُتَّاباً آخرين بأسمائهم الحقيقية، وبقراءة الحاشية الواردة في النهاية، اكتشفت أن الأمر ينطوي على لعبة إضافية، فاسم يوري غوليتش الذي اختاره لبيوتر رافيتش ليس مخترعاً ولا منبتّ الصلة بالكاتب البولندي، إذ إنه أحد الأسماء التي أطلقها الأخير على راوي روايته الوحيدة "دم من السماء". "لهذا فإن حضور يوري غوليتش في هذه القصة بقي في منتصف المسافة بين الواقع وعالم المُثُل الأفلاطونية". وفقاً لكلمات كيش.

وفي قصة "العود والندوب" يبدو الزوال كغمامة تتدفّق خلفها الأحداث برفق، فالراوي يسترجع عالماً زائلاً يخص بلغراد الستينيات، ويحكي عن زوجين روسيين لَجَآ إلى بلغراد وعلى جسديهما ندوب ماضيهما المندثر؛ في صورة آثار حروق قديمة على وجه وجسد المرأة، وفقدان الزوج المحب للعزف على العود حاسة السمع.

وتشترك النصوص الثلاثة الأخرى: "الشاعر" و"عدّاء الماراثون ومسؤول السباق" و"ألف وباء"، مع بقية نصوص المجموعة في نجاحها في تخييل الواقع وانطلاقها من حكايات وأحداث حقيقية لإعادة تشكيلها بلمسة الفن السحرية.

أخيراً، تبقى الإشارة إلى جملة لافتة، في قصة "العود والندوب"، على لسان شخصية هامشية: "هناك حيوات اتضح أنها لم تكن تستحق أن تُعاش. لقد عشنا كما لو كنا أمواتاً"، ويروقني تخيل أن مَن ينطبق عليهم وعلى حيواتهم هذا الوصف، كانوا الأكثر إغواءً لمخيلة دانيلو كيش وقلمه، فإن كان "التاريخ يكتبه المنتصرون. الأساطير ينسجها الشعب. الكُتَّاب يتخيّلون. وحده الموت مؤكد". كما سبق له أن كتب، فقد انطلق هو في معظم أعماله من حقيقة الموت المؤكدة، إلى اقتراح تاريخ مغاير لما سطره المنتصرون، بدافع من إيمانه بأن على الأدب أن يصحّح التاريخ.

المزيد من ثقافة