يحاول رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي أن يجد طريقاً للإيفاء بشيء من وعوده المتعلقة بالحرب على الفساد المالي والإداري في العراق، لكنه يواجه ممانعة شديدة بسبب سيطرة "مافيات سياسية" قوية على ملفات اقتصادية حيوية.
موازنات "انفجارية"
ارتبطت موازنة العراق السنوية منذ العام 2006 بمصطلح "الانفجارية"، بسبب الزيادة الكبيرة في عائدات النفط آنذاك، وتضاعفِ معدلات الإنفاق الحكومي، وتلازم العمل السياسي مع الفساد، الذي بات بوابةً لإثراء يُستغَل في توسيع نفوذ شخصيات وأحزاب على حساب تردي الخدمات العامة في مختلف القطاعات.
ومع أن موازنة البلاد تتضمن سنوياً، منذ حوالي 10 سنوات، مخصصات مالية تفوق أحياناً الـ 100 مليار دولار، يُفترض أن تُصرَف على الخدمات والتنمية، فإن قطاعات الخدمات الأساسية، كالكهرباء والماء والصحة والتربية، تواصل انهيارها، في ظل ضغط شعبي متزايد لتحسينها، وصل حد الاصطدام بقوات الأمن في بعض المحافظات، ولا سيما خلال أشهر الصيف.
من جهة أخرى، شكّل إعلان بغداد القضاء على تنظيم "داعش" بوابةً لدخول مرحلة جديدة، ظن المراقبون أنها ستركز على محاربة الفساد الذي ينقل الأموال من خزائن الدولة إلى حسابات شخصيات سياسية داخل البلاد وخارجها. ومع وصول عبد المهدي إلى منصب رئيس الوزراء، وهو سياسي مخضرم عُرف بعصاميّته وابتعاده عن الطرق التي انتهجها سياسيون آخرون لترسيخ نفوذهم في الدولة، زاد الاعتقاد بأن الحكومة العراقية موشكة على خوض حرب شرسة ضد الفساد. لكن نواباً عراقيين ومراقبين يقولون إن إجراءات الحكومة لا ترقى إلى متطلبات مواجهة الفساد، الذي يُدار سياسياً، ويحوّل كل دوائر الدولة إلى "شركات حزبية".
وفاة رئيس هيئة النزاهة في ظروف غامضة
نظراً إلى تفشي الفساد على نطاق واسع بين الأحزاب، لا يجد عبد المهدي عدداً كافياً من الشخصيات النزيهة ليعتمد عليها، وفق ما يقول مقربون منه.
وأحاط رئيس الوزراء العراقي نفسه بشخصيات تربطه بها علاقات قديمة، وكلفها تنفيذ مهمات تتعلق بمتابعة ملفات الفساد من دون صدور قرارات رسمية بذلك، وهي الصيغة التي يعتقد عبد المهدي أنها ستمنع الأحزاب المتنفذة المتهمة بالفساد من الالتفاف على خططه، التي تنجح عادة في مواجهة أي مسؤول يتصف بالنزاهة.
على سبيل المثال، توفي رئيس هيئة النزاهة (جهاز إداري يخضع لرئيس الوزراء)، القاضي عزت توفيق، الخميس الماضي، في حادث مروري أحاط الغموض بظروفه.
وكانت تسربت أنباء عن عزم توفيق فتح ملفات فساد تتعلق بمنافذ العراق الحدودية، ولا سيما مع إيران، حيث تسود ظاهرة دفع الرشى لإدخال بضائع منتهية الصلاحية أو تهريب مواد مخدرة.
وربط ناشطون بين ظروف وفاة رئيس هيئة النزاهة، والحديث عن الفساد في ملف المنافذ، مطالبين الحكومة بفتح تحقيق عاجل.
وبدلاً من أن يطلق عبد المهدي تحقيقاً في وفاة رئيس هيئة النزاهة، أرسل فريقاً من مقربيه إلى أحد المنافذ الحدودية الرئيسة بين العراق وإيران، للتثبت من مزاعم الفساد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما كان "غريباً" اندلاع حريق في مبنىً مخصص لجمع وثائق تعاملات هذا المنفذ، بالتزامن مع وصول الفريق الحكومي. وأتى الحريق على كل الملفات الورقية، التي يمكن مراجعتها للوقوف على شرعية التعاملات في هذا المرفق الحيوي.
وذكرت مصادر حكومية مطلعة لـ "اندبندنت عربية" أن هذا المنفذ هو أحد أشهر مواقع التهريب بين العراق وإيران، إذ تمر عبره بضائع منتهية الصلاحية ومخدرات وأسلحة.
وأشارت المصادر ذاتها إلى أن خطة عبد المهدي تقوم على ضرب الحلقات الوظيفية الوسطى، التي عادةً ما تكون نقطة ارتكاز الأحزاب في الدوائر الحكومية، بسبب صعوبة التعرض للشخصيات السياسية النافذة.
استبدال 3 آلاف موظف
على هذا الأساس، تقول المصادر الحكومية إن "عبد المهدي أعد قوائم تضم أسماء ثلاثة آلاف موظف في دوائر حكومية مختلفة، تراوح درجاتهم بين معاون مدير عام ووكيل وزير، استعداداً لاستبدالهم".
ويعتبر عبد المهدي أن استبدال هؤلاء الموظفين، سيحرم الأحزاب المتورطة في الفساد من فرصة التأثير في عمل المؤسسات الرسمية، ولا سيما ما يتعلق بتوجيه عقود المشاريع والمناقصات إلى شركات تابعة لأحزاب وشخصيات سياسية بارزة.
وتكشف المصادر أن بعض هؤلاء الموظفين مسؤول عن تسهيل حصول قياديين في أحزاب عراقية بارزة، على عقود حكومية لتنفيذ استثمارات في مواقع مميزة من العاصمة، بعضها يتصل ببناء مجمعات تجارية وسكنية فخمة.
ويُعتقد على نطاق واسع في العراق أن هذا النوع من المشاريع الذي يدرّ أرباحاً بملايين الدولارات، يشكّل ضماناً أكيداً لتوسّع نفوذ أحزاب وشخصيات عراقية، وهذا ما يسمح ببقاء مشاريعها السياسية حاضرة في المشهد العراقي، على غرار الإشارات المستمرة إلى "حزب الدعوة"، الذي أحكم قبضته على إدارة البلاد بين العامين 2005 و2018.