Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السودان وإريتريا ورهان العلاقات بين الوحدة والتكامل

على الرغم من التباين الواضح بين مجتمعي البلدين تظل الأسباب الموضوعية للتقارب مرجِّحة

أفورقي في زيارة سابقة لسد مروي شمال السودان لبحث سبل مد خطوط الكهرباء إلى إريتريا عام 2011 (حسن حامد)

كان ديدن العلاقة السودانية - الإريترية هو الاتهامات والتوتر، إذ احتضنت إريتريا العمل المسلح للمعارضة السودانية الجنوبية والشمالية، عقب اتهام الرئيس الإريتري أسياس أفورقي الخرطوم بدعم جماعات إسلامية في بلاده، عام 1994. وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 2002، اتهم الرئيس السوداني السابق عمر البشير إريتريا بـ"الخيانة" بعد تعرّض مواقع الجيش في منطقة الحدود السودانية - الإريترية لهجوم شنَّته "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بقيادة الراحل جون قرنق بإسنادٍ إريتري بالقوات والأسلحة، لترد أسمرة على الاتهامات السودانية واصفةً إيَّاها بأنها ترقى إلى إعلان حرب. ولم تفلح المصالحات الإقليمية التي عُقدت بين الطرفين، لتتواصل العلاقة متأرجحةً بين شدّ وجذب، وتقارب وخلاف حتى عام 2018 حين أغلقت حكومة البشير الحدود بين البلدين نتيجة اتهاماتٍ متبادلة بإيواء المعارضين وتغذية نشاطات التهريب. فهل تفتح زيارة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى السودان، وهي ثاني زيارة رسمية له عقب عزل البشير، صفحةً جديدة في العلاقات مع الخرطوم، وبداية نهاية عزلة إريتريا وانكفائها؟


إيحاءات عسكرية

أغلقت الحكومة السودانية السابقة الحدود بين السودان وإريتريا في 6 يناير (كانون الثاني) 2018، بموجب مرسوم جمهوري خاص بإعلان الطوارئ في ولاية كسلا شرق البلاد أعقبه إرسال تعزيزاتٍ عسكرية إلى الولاية. وبرّرت الحكومة إقدامها على تلك الخطوة بحجج، منها عملية جمع السلاح، ومكافحة تهريب المخدرات والسلع والاتجار بالبشر.
وكان المشهد بكامله خاضعاً لإيحاءات تحركاتٍ عسكرية بين مصر والسودان عند الحدود الإريترية. وذهبت الآلة الإعلامية فوراً نحو تصوير مصير مجهول، وتبعها النظام السوداني منقاداً بخلافاته الظرفية مع مصر وظنّاً منه أنّه امتلك مفاتيح حل أزمة سدّ النهضة، فنكص عن اتفاقات وتسرَّبت أخرى من بين يديه. وكان مستبعداً وقتها أن يذهب رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ويعقد اتفاقاته مع مصر، ومصالحته التاريخية مع إريتريا، تاركاً السودان ينظر بأسى إلى ماء النيل المسكوب، في وقتٍ كانت قطر وتركيا تحاولان وضع إريتريا داخل السياق الجغرافي السياسي لمنطقة القرن الأفريقي بشكلٍ عاجل.

في الجهة المقابلة، كان رهان البشير على الحصان الخاسر أخرج السودان من لعبة التوازنات الإقليمية. فبعد إغلاق حدوده مع إريتريا، تواءمت جميع الأضداد، فظهرت من وراء الحدود محفِّزات إقليمية أدت إلى الالتفات نحو إريتريا، أبرزها الفوضى في اليمن، إذ تقابل بموقعها المميز منطقة القرن الأفريقي بما تمثله من أهمية إستراتيجية متصاعدة نسبةً إلى نشاط صناعة نقل النفط البحري، بالإضافة إلى الشاغل الأمني المتمثّل في إمكانية التحكم بالممرات المائية في هذه المنطقة. وتنبع هذه التهديدات أساساً من المميزات الجيوسياسية والاقتصادية للمنطقة التي تُشكل ممراً لناقلات النفط ومعبراً للتجارة الدولية، بالإضافة إلى وجود نقاط ومضائق إستراتيجية عسكرية تسمح بانسياب القوات الدولية عبره إلى المحيطات المختلفة.

وهنا يظهر الإدراك المتأخر الذي كان سمة النظام السوداني السابق، سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية، ما جعله لا يأبه بمنطقة شرق البلاد وأهميتها الإستراتيجية بالنسبة إلى الدولة والإقليم ومنطقة القرن الإفريقي. وعندما افتعل المشاكل مع أسمرة، ذلك البلد الصغير الذي كان يعاني من أكبر عزلة في داخل أفريقيا، وقبل أن تمرَّ سنة واحدة على إغلاق حدوده معها، أصبحت إريتريا ذات أهمية بالنسبة إلى قوى إقليمية ودولية، ورُفعت عنها العقوبات الدولية بعد توصلها إلى اتفاق سلام تاريخي مع إثيوبيا وتحسن علاقاتها مع جيبوتي، وتحوَّلت بعده إلى منطقة جاذبة إستراتيجياً.
 


عبء الرجل الأسود


لا يشعر الإريتريون أنهم غرباء على شرق السودان، فثقافة الطرفين وعرقيتهما وتاريخهما متشابك بشكلٍ وثيق منذ عصورٍ قديمة. ربما يكون الأمر الأهم من ذلك والذي يفسّر كون إريتريي الشرق جزءاً مكمّلاً من شرق السودان على مرِّ التاريخ، هو أنَّه بخلاف قضايا اللجوء، لم يفرّ الإريتريون عائدين إلى بلادهم، وإنَّما مكث مَن لم يتمكّن منهم من الهجرة إلى أوروبا أو إسرائيل، طوعاً في كسلا أو المدن المتاخمة، ويعيش كثيرون منهم في الخرطوم. ومع أوجه التشابه هذه، توجد أيضاً فوارق بين السودانيين والإريتريين الذين يتعامل معهم أهل الشرق يومياً. هناك تباينٌ واضح في القيم التقليدية بين المجتمعين وعلى الرغم من ذلك تظلّ الأسباب الموضوعية والذاتية للتقارب مرجِّحة، ومحقّقةً فرصاً، يستطيع بموجبها المجتمعان تحقيق اختراقات نوعية على صعيد العلاقات الثنائية.
ونسبةً إلى نقاط الالتقاء هذه، فإنَّ عائلات عدة متداخلة بين البلدين لا تقتنع بهذه الحدود بل تشجب على الدوام طبيعتها الاصطناعية، بل وتقول إنّها لا ترتقي إلى أن تكون مصدر خلاف كما في الخلافات الحدودية الأفريقية التي دخلت الأدبيات السياسية مثل الجدل الذي أطلقه بازل دافيدسون في كتابه "عبء الرجل الأسود: أفريقيا ولعنة الدولة-الأمة" في عام 1992، بقوله إن "التقسيم الاستعماري أدخل القارة في إطارٍ من الحدود الاصطناعية البحتة والتي هي ضارة في الغالب". وهو ما يأتي على توصيف المشكلة في الحدود السودانية - الإريترية التي لا تكمن في طبيعة الخطوط الوهمية المرسومة بقدر ما تنتج من التطورات على الأرض، فطبيعة هذه الحدود تميل إلى أن تكون أقل استقراراً نسبة إلى كثافتها السكانية، فهي تضم شرايين حياة اقتصادية على الجانبين. ومن هنا، كان إضفاء الشرعية الاجتماعية على حدودها الحالية مهماً لتلطيف النزاعات التي تنشب بين الحين والآخر، وتتجاوز ما تقوم به الحكومات من رفع غطاء الحماية عن مواطني الدولتين بواسطة القوة العسكرية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


معركة مع الإسلاميين

 بدأت المياه تعود إلى مجاريها بين السودان وإريتريا وهذه الزيارة التي تمت يوم الخميس الماضي 25 يونيو (حزيران) الحالي، هي الثانية للرئيس أسياس أفورقي بعد قيام الثورة السودانية في ديسمبر (كانون الأول) 2018، بعدما جرت الأولى عقب تشكيل المجلس السيادي. وأوضح مجلس السيادة السوداني في بيان أن اللقاء بين رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان والرئيس الإريتري أسياس أفورقي عُقد "لبحث العلاقات المتطورة بين البلدين، وجهود إرساء السلام والاستقرار في الإقليم، والمساعي الجارية لدعم التكامل الإقليمي بين دول المنطقة". وكان أفورقي قبل ذلك متوجَّساً من المشهد الإريتري الداخلي وصعود تيار الإسلاميين وأغلب قادته ممَن نالوا تعليمهم العالي في مصر والسودان. ولم يكن وجودهم بكثافة، خصوصاً في السودان، غريباً، إذ كانت نسبة كبيرة منهم تدرس في "جامعة أفريقيا العالمية" بالخرطوم، وتلقفتهم الحركة الإسلامية السودانية فتدربوا وتنظموا على أيدي قادتها.
وتعود جذور هذا التكوين إلى ما قبل أن تنال إريتريا استقلالها من إثيوبيا عام 1993، حين نشأت "حركة تحرير إريتريا" وكانت أول من أعلن الكفاح المسلح، وانطلقت منذ عام 1958 وكان رأيها في أسلوب التحرير أن يكون في وحدة الصف الوطني لإزالة الفجوة المصطنعة بين المسلمين والمسيحيين، وتنفيذ أسلوب الكفاح المسلح داخل إريتريا.
وافتتحت الحركة فروعاً لها في دول عربية أهمها مصر والسودان من حيث التأثير في الوضع في إريتريا. وبعد سقوط الحركة لافتقارها إلى "جيش تحرير" قوي، تكوّن "تنظيم الجبهة الديمقراطية الإريترية" وفشل أيضاً، ثم قامت "جبهة التحرير الإريترية" من القاهرة عام 1960. كان قوام هذه الجبهة مجموعة لاجئين إريتريين إضافة إلى طلاب أتوا إلى مصر للتحصيل الجامعي. في عام 1965 تنظمت الجبهة وانبثقت منها "القيادة الثورية" التي أُسند إليها "العمل الفدائي" وكان مقرها مدينة كسلا في شرق السودان. وكانت الأسلحة تأتي من الإريتريين الذين يعملون في دول عربية عدة ويتم تهريبها عبر السودان.
بعد استقلال إريتريا، سيطرت "الجبهة الشعبية" الحاكمة اليوم، بقيادة الرئيس ذاته منذ الاستقلال أسياس أفورقي، على المشهد السياسي. ولكي تحكم قبضتها أجرت عمليات اعتقال واسعة في أوساط الإسلاميين، وصلت ذروتها عام 1994، الذي شهد اختفاء عشرات المعلمين الدينيين من مدن عدة.

هل التكامل ممكن؟

بعد المصالحة السودانية - الإريترية، وزوال "نظام الإنقاذ" (أواخر عهد البشير)، أشار البعض إلى أنه بالإمكان تكوين كونفيدرالية تجمع إريتريا والسودان بحكم التقارب الشديد بين الشعبين، بالإضافة إلى إثيوبيا بحكم التقارب والمصلحة. قد لا تستند هذه الفكرة إلى أسس قوية، نسبةً إلى أن السودان على الرغم مما يجمعه مع مصر، جرَّب التكامل معها في عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري وفشل، ثم عانى من حالات الانقسام السياسي وانفصال الجنوب.
وهذا الاتجاه الذي يحاول التسويق لفكرة "كونفيدرالية القرن الأفريقي"، تنبع توجهاته من عاطفة تم تنميطها على أساس قالب واحد للعلاقات، أفريقي أو عربي. كما ينبع من مرارات نزاع الهوية بين عربية وأفريقية في تلك الدول.
من ناحية أخرى، إذا كان الاتحاد الكونفيدرالي خياراً إستراتيجياً يبدأ من السودان ليشمل دول القرن الأفريقي فإنّ السلوك السياسي السوداني بغضِّ النظر عن نوع الحكم، تحكمه تصورات للسيادة تنزع إلى استدامة الصراع مع الآخر في أقرب خلافٍ والوصول السريع إلى مفترق الطرق وتدمير مشروع الاتحاد كلياً. كما يُلاحظ أن الحكومات السودانية المتعاقبة تنزع إلى التحالف مع الأضعف دوماً في منظومة الدول الإقليمية وذلك يعبر عن ضعف ثقة القيادة بنفسها، وبرؤيتها والفائدة التي يمكن أن تقدمها. وتفاقم هذا الشعور عند "نظام الإنقاذ" على الرغم من عزلته بسبب العقوبات، حتى وصل إلى الترويج لرغبات وتصورات زائفة بالإحساس بالأفضلية الإقليمية على الدول الضعيفة.
في ظل عدم مقدرة السودان على الوحدة الكاملة مع دولةٍ أخرى، فإنَّ التكامل مع إريتريا وإثيوبيا يحتمل سيناريوهات عدة تغيب ملامحها الحالية على الأقل إلى أن تنجلي أزمات أكثر إلحاحاً مثل قضية سد النهضة والنزاعات الداخلية. وإلى ذلك الوقت، ستعمل الحكومة الانتقالية التي تنقسم إلى الشق العسكري بهواه العربي، و"قوى الحرية والتغيير" بهواها الأفريقي على تقليص فكرة الوحدة إلى تعاونٍ فقط.

المزيد من تحلیل