Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التاريخ يقلب موازين مكافحة العنصرية في أميركا لصالح السلم

ذاكرة تمرد السود على الفصل العرقي مفعمة بالانتصارات ومثقلة بالهزائم

مظاهرة سلمية في الولايات المتحدة عام 1963. (غيتي)

حفلت حركة الحقوق المدنية التي انطلقت في الخمسينيات الميلادية بالولايات المتحدة بأفكار وحملات سلمية مبتكرة، شكّلت فضاءات آمنة نسبياً للأميركيين من أصول أفريقية، بمساندة مجموعات من البيض، للتنديد بواقع بلادهم الغارق في صراعات عرقية ما زالت آثارها تدفع الأجيال المتعاقبة، إلى ممارسة حقهم الدستوري بالتظاهر، تحت شعار "حياة السود مهمة"، في احتجاجات واسعة، كان آخرها انتفاضة الغضب المصاحبة لمقتل جورج فلويد على يد الشرطة، في ولاية مينيسوتا الشهر الماضي.

لكن انحراف التظاهرات إلى العنف حجب التركيز على إدانة العنصرية، وأدى بدلاً من استنكارها، إلى شجب المجتمع بمختلف أعراقه لعمليات النهب التي أظهرتها الصور ومقاطع الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، بل وكدَّر حال كثير من مساندي القضية نفسها، وهو ما انعكس في محاولات أميركيين من أصول أفريقية، منع مواطنيهم من العرق نفسه من اقتحام المحال، وإيقافهم عن ممارسة العنف، وإشعال الحرائق رغم همهم المشترك وإيمانهم بعدالة مطالباتهم.

الحركات السلمية أكثر تأثيراً

يقف السياق التاريخي في وجه العنف باعتباره وسيلة تفاقم مأساة الأفارقة في أميركا، ويؤكد نجاح الحلول السلمية التي يزخر بها نضالهم في إنهاء قوانين الفصل العنصري قبل 56 عاماً، حين قوّضها بشكل رسمي قانون الحقوق المدنية الذي جاء بمقترح جون كينيدي، ووقعه الرئيس ليندون جونسون عام 1964.

وعلى الرغم من أن قصور صلاحيات تطبيق القانون في بداياته سهّل للبعض محاولة التلاعب أو الحيلولة دون الامتثال إلى مواده، فإن التشريع التاريخي نضج لاحقاً ليصبح خطاً أحمر لا يمكن المساس به، دشنت أميركا على إثره عهداً جديداً يحظر التمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو الأصل القومي إضافة إلى إلغاء مظاهر الفصل في الأماكن العامة.

ومع ذلك، لا يمكن القول إن مؤازرة جونسون أو المظاهرات التقليدية التي عمت الشوارع وحدهما كانا بمثابة حجر الزاوية في مسيرة إلغاء مظاهر الفصل، فهو ثمرة نضال ممتد بالأفكار والكلمات والأفعال التي تجسد رغبة السود في التحرر من براثن العبودية التي، وعلى الرغم من سقوطها في عهد لينكولن، فإن آثارها استمرت في ملاحقة الأميركيين من أصول أفريقية إما بالتهميش أو الإقصاء أو نزعة متعصبة تجنح نحو عزلهم عن الحياة العامة.

 

وسائل النقل تحت عجلات العنصرية

سادت مظاهر الفصل العنصري في الحافلات لفترة طويلة، وعلى الرغم من أن أغلبية ركابها يتجذرون من أصول أفريقية، فقد كان يُفرض عليهم الجلوس في مؤخرة الباص، والوقوف إذا جاء رجل أبيض ولم يجد مقعداً. ومما يشير إلى تأصل العنصرية في أميركا، هو أن الولايات، لا سيما الجنوبية منها، استمرت في تطبيق الأعراف المتعسفة، ولم تعبأ إلى إمكانية توقف الحافلات عن الحركة وخسارة إيراداتها في حال أضرب السود عن استقلالها.

إحدى الحركات السلمية التي شهدت اتحاد الأميركيين البيض والسود للقتال تحت راية واحدة نأت عن العنف والنهب وإشعال الحرائق الذي تشهده الاحتجاجات الحالية، كانت حملة "ركاب الحرية"، أو ما يعرف في الثقافة المحلية بـ(Freedom Riders)، التي انطلقت في الرابع من مايو (أيار) 1961، حين ركب 13 شخصاً، 6 من البيض، و7 من أصول أفريقية الباصات بجوار بعضهم البعض، في تحدٍّ صارح لمظاهر التمييز.

وانطلق النشطاء من العاصمة واشنطن، متجهين إلى الولايات الجنوبية الأكثر تضرراً بالعنصرية، مروراً على ولايات فرجينيا وكارولاينا الجنوبية والشمالية وجورجيا وألاباما وميسيسبي، وانتهاء بمدينة نيو أورلينز في ولاية لوزيانا، وكان الهدف الرئيس هو التنديد بتجاهل الولايات الجنوبية ممثلة بحكوماتها الفيدرالية، لقراري المحكمة العليا مورغان ضد فرجينيا الصادر عام 1946، وبوينتون ضد فرجينيا في عام 1960، حين حكمت بعدم شرعية الفصل العنصري في حافلات النقل العام.

ونصت أساليب الحركة التي أحدثت أثراً ولفتت اهتماماً شعبياً إلى ثورة الحقوق المدنية، على وجود زوج واحد على الأقل من عرقين مختلفين يجلسان في المقاعد المتلاصقة، وراكب أسود على الأقل في مقاعد المقدمة المحجوزة بحسب العرف المحلي في الجنوب للعملاء البيض، على أن يتوزع بقية أعضاء المجموعة في أنحاء الحافلة.

 

السلم يُقابل بالعنف

ولم يغب في ذهن المنظمين إمكانية أن تقود ممارساتهم المتمردة من دون أخذ بعض الاحتياطات اللازمة إلى عواقب وخيمة، الأمر الذي دفعهم إلى إلزام فرد منهم باتباع قواعد الفصل وعدم التمرد من أجل تجنب الاعتقال، حتى يستطيع لاحقاً التواصل مع المنظمات الحقوقية، وترتيب الكفالة لمن يمكن القبض عليهم، وهو ما حدث بعد مناوشات في ولايات فرجينيا، وكارولينا الشمالية والجنوبية، وميسيسبي.

وعلى الرغم من النجاح في إيصال الرسالة المناهضة للعنصرية من دون استخدام العنف، فإن الأخير تجسد في غضب العنصريين أنفسهم الذين اعتدوا على الحافلات، وهوجم حينها الناشط السياسي جون لويس، الرئيس الثالث للجنة الطلبة التنسيقية السلمية أو ما يعرف بـ"سنيك"، التي لعبت دوراً تنظيمياً بارزاً.

وبلغ العنف ضد حركة ركاب الحرية أوجه في ولاية ألاباما، حيث نظم مفوض الشرطة بول كونور مع زميله توم كوك، أعمال عنف تجاه النشطاء، ووضعوا خطة تبدأ بهجوم في مدينة أنيستون وتنتهي بآخر في برمنغهام، من منطلق رغبتهم في أن تكون ألاباما المحطة الأخيرة للحملة، على أن يتم مهاجمة منظميها من قبل واحدة من الجماعات المتطرفة، من دون أي حاجة لتنفيذ اعتقالات.

وفي منتصف مايو 1961، اعتدت منظمة كو كلوكس كلان، المعروفة بتوجهاتها القائلة بتفوق العرق البروتستانتي الأبيض ومعاداة السامية، على واحدة من الحافلتين المتوجهة نحو محطة (The Greyhound)، وحاول حينها السائق مغادرة المحطة، إلا أن أعضاء الجماعة سدّوا الطريق، وقطّعوا إطارات الحافلة، التي انتهى بها الحال إلى التوقف على بعد عدة أميال خارج المدينة، ثم ألقوا عليها قنبلة حارقة.

وحسب الرواية التاريخية، فقد أغلقت الجماعة المتطرفة أبواب الباص، بقصد حجز الركاب داخله حتى الموت حرقاً، قبل أن يتمكنوا من الخروج بعد تراجع الهائجين الذي ما زال محل جدل، هل هو بسبب الخوف من خزان الوقود المعرض للتفجر بأي لحظة، أو لتلويح أحد المحققين بمسدس لتفريق المتجمهرين.

وبعد خروجهم تعرض ركاب الحرية للضرب، قبل أن يتوقف الغوغاء على دوي الطلقات التحذيرية من قبل دوريات الطرق، وبعد نقل المصابين إلى المستشفى، استمرت معاناتهم مع وجود المناهضين لحقوق السود خارج المستشفى وسط قلق الطاقم الطبي، إلا أن مبادرة زعيم الحقوق المدنية في مدينة أنيستون فريد شاتلز وورث أنقذت الموقف، إثر تنظيمه موكب سيارات مسلحاً لإخراج وحماية الجرحى في تحدٍ علني للعنصرين البيض.

أما الحافلة الثانية، فتعرضت هي الأخرى عند وصولها إلى أنيستون بعد ساعة من حرق الأولى، إلى اعتداء أفراد من الجماعة نفسها، الذين أبرحوا الركاب ضرباً، وتركوهم في حالة أقرب إلى الإغماء.

 

حراسة حكومية خجولة

عندما تناهت الأنباء إلى المدعي العام روبرت كينيدي، حثَّ ركاب الحرية على ضبط النفس، وأرسل مساعده إلى ألاباما في محاولة لتهدئة الوضع. وعلى الرغم من العنف والتهديدات، كان النشطاء يعتزمون مواصلة رحلتهم، الأمر الذي دفع كينيدي إلى ترتيب موكب آمن لنقلهم إلى مونتغمري، وألاباما، حيث كانت التقارير الإذاعية تفيد بوجود حشد ينتظرهم في محطة الوصول، وكذلك على الطريق.

وبعدما جذبت جهود الحركة بالفعل الاهتمام الوطني لقضية الحقوق المدنية، أجبر رفض سائقي الحافلات المواصلة، منظمي الحملة على إكمال رحلتهم إلى نيو أورلينز عبر السفر جواً، لكنهم عندما صعدوا على متن الطائرة، أُبلغ المسافرون بالخروج بسبب تهديد بوجود قنبلة.

وفي الأسبوع التالي لحادثة أنيستون، تدفق مزيد من ركاب الحرية إلى مدينة مونتغمري، لمواصلة الجولات عبر الجنوب واستبدال زملائهم الجرحى في المستشفى، واتفقت إدارة كينيدي مع حاكميّ ولاية ألاباما وميسيسبي على حمايتهم من عنف محتمل، على ألاّ تتدخل الحكومة الفيدرالية لمنع الشرطة المحلية من القبض عليهم إذا انتهكوا قوانين الفصل.

وصل الركاب على متن الحافلات المحاطة بدوريات الطريق السريع والحرس الوطني إلى مدينة جاكسون في مسيسيبي، في 24 مايو 1961، ولم يتعرضوا لأي اعتداءات بفضل موكب السلطات، غير أن الأخيرة لم تتردد في القبض عليهم عند محاولتهم استخدام المرافق المسموح باستخدامها للبيض فقط، كما اعتقلت ركاب الحافلة الأخرى التي وصلت بعد أربعة أيام.

ولم تحصّن المبادرة السابق ذكرها الحكومة الفيدرالية من الانتقادات حول تعاطيها مع الحملة، وما زال تصريح المدعي العام روبرت كينيدي الذي أكد "عدم انحياز وزارة العدل إلى مجموعة أو أخرى في نزاعات حول الحقوق الدستورية، محفوراً في ذاكرة حركة الحقوق المدنية وأنصارها، الذين يحملون المؤسسة العدلية مسؤولية تنفيذ أحكام المحكمة العليا، والدفاع عن المواطنين الذين يمارسون حقوقهم الدستورية.

 

الدب الروسي يطل برأسه

وعلى الرغم من تصريحات الرئيس كينيدي المتّقدة بقيم الحرية والمساواة، فإن موقفه لم يكن حاسماً بسبب مخاوف من خسارة أصوات ولايات الجنوب، وبالتالي عدم الفوز بولاية رئاسية ثانية، ودعت حينها الإدارة الأميركية إلى تهدئة الأوضاع في ألاباما، وأدانت ركاب الحرية لعدم وطنيتهم، ودورهم في إحراج الأمة أمام العالم في ذروة الحرب الباردة، وسط مناوشات الاتحاد السوفياتي الذي انتهز الفرصة لانتقاد الولايات المتحدة بشأن العنصرية وحادثة إحراق الباص.

وهو ما يعيدنا إلى تدخل روسيا التي لطالما كانت محل الانتقادات الأميركية بسبب ملف حقوق الإنسان، واستغلالها الأخير لأحداث العنف الحالية في الولايات المتحدة، حيث وصفت موسكو ما يحدث بـ"المأساة الحقيقية"، وطالبت واشنطن بحماية حقوق مواطنيها.

وكانت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، صرحت في وقت سابق، بأن "السلطات الأميركية بإجراءاتها لمنع النهب والتصرفات التي يحظرها القانون، يجب ألا تنتهك حقوق مواطنيها في الاحتجاج السلمي"، أما المتحدث باسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فعدَّ الاضطرابات في الولايات المتحدة شأناً داخلياً، وأشار إلى "مخاوف من انتهاكات لحقوق الإنسان".

وبمعزل عن الجدل، يُحسب لحركة ركاب الحرية في مستهل الستينيات الميلادية أنها جذبت اهتماماً شعبياً بدفاعها السلمي عن حقوق الأميركيين من أصول أفريقية، واستحقت تعاطفاً عالمياً مع حقوقهم، صعّد من وتيرة الضغوط على القيادات السياسية في الولايات المتحدة لتبني القضية أو على الأقل عدم الوقوف ضدها.

وما زال النصب التذكاري الذي دشّنته ولاية ألاباما، في يناير (كانون الثاني) 2017، بجوار المحطة التي أُحرقت فيها حافلة أنيستون، راسخاً يجسد تضحيات نشطاء الحملة من السود والبيض الذين كان لمبادرتهم دور محوري في إنهاء مظاهر الفصل العنصري في وسائل النقل العام.

المزيد من تحقيقات ومطولات