لم أستطع تبيّن الرابط بين "السّكينة"، عنوان الرواية الثانية للكاتب المجري آتيلا بارتيش، ومتنها الذي هو أبعد ما يكون عن السّكينة، إلى أن توغّلت في القراءة، وشارفت نهايات الرواية، حيث يقترح الطبيب الشرعي في بودابست إشتفان فريجل على الراوي الذي يعاني اضطراباً نفسياًّ عابراً، إثر وفاة أمّه، علاجاً لاضطرابه، بالقول: "ألّف إذن كتاباً صغيراً. تَسامَ. صَعّدْ حالتك. ستنال السّكينة والراحة، والنقود أيضاً." (ص 270). وبذلك، تكون "السّكينة" هي المآل الذي يؤدّي إليه فعل الكتابة. ويكون بين المتن والعنوان ما بين السبب والنتيجة. فالطبيب يقرن، في السّبب، بين الكتابة والتسامي والتصعيد. ويقرن، في النتيجة، بين السّكينة والراحة. على أنّ اقتران النتيجة بالنقود ليس أمراً لازباً بالتأكيد.
"السّكينة"، الصادرة في "سلسلة إبداعات عالمية" (المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت)، هي الحلقة الثالثة في سلسلة إصدارات الكاتب والمصوّر الفوتوغرافي المجري آتيلا بارتيش، المؤلّفة من سبع حلقات، تتوزّع على ثلاث روايات، وثلاث مجموعات قصصية، ومسرحية واحدة. وهي روايته الثانية الصادرة في العام 2001، بعد أولى هي "النزهة" (1995)، وقبل ثالثة هي "النهاية" (2015). وفيها يرصد الكاتب شبكة من العلاقات الملتبسة بين مجموعة من الشخوص تعاني من اضطرابات نفسية، طويلة أو عابرة. ويواكب التحوّلات المختلفة التي تطرأ على كلٍّ منها. وذلك، في فضاء يتزامن مع فترة حكم النظام الشيوعي في هنغاريا، ويتماكن مع العاصمة بودابست. وتتمخض، عن ذلك الرصد وتلك المواكبة، سلسلة من الأحداث، تتمحور حول ثلاثة شخوص رئيسية، هي: الراوي، الأم، والحبيبة. وتتعالق معها، بشكلٍ أو بآخر، شخوص أخرى ثانوية، لتشكّل معاً فسيفساء الرواية.
يُسنِد بارتيش مهمّة الروي، في "السّكينة"، إلى راوٍ مشاركٍ، هو كاتب قَصَصي. وهنا، يتقاطع الروائي مع الراوي في الوظيفة. ولعلّه يتّخذ منه قناعاً، يُعبّر من خلاله عن أفكاره. ويتموضع الراوي بين مجموعة من الشخوص، النساء والرجال. أمّا الشخوص النسائية، فتعاني بمعظمها من أعطاب نفسية، تنوء بالماضي، تصطدم بالحاضر، ولا تعرف ما يخبّئه المستقبل. ونجد بين الشخوص المذكورة: الأم، الأخت، الحبيبة، المومس، الساقية، الناشرة، وغيرهن. وأمّا الشخوص من الرجال، فنجد بينها: الكاهن، المثقّف، الحزبي، وسواهم. وهو ينخرط معها في علاقات، عابرة أو طويلة، تشكّل مجتمعةً الشبكة الروائية. على أنّ العلاقتين الأطول بينها هي علاقة الراوي بأمّه، وعلاقته بحبيبته، ما يشكّل موضوع هذه العجالة.
علاقات ملتبسة
في العلاقة بين الأم وولديها، الراوي وشقيقته، نحن إزاء علاقة ملتبسة، تتخلّى فيها الأمّ عن أمومتها، وتقدّم رغباتها وأهوائها على مصلحة ولديها، الراوي وأخته، كاسرةً بذلك الصورة النمطيّة للأم التي تضحّي بنفسها كرمى لأولادها. فريبيكا فيير، الفنانة المسرحية، المهتمّة بصورتها الفنية، مستعدّة للتضحية بكل شيء من أجل هذا الصورة. لذلك، نراها تخضع لابتزاز السلطةَ الحزبية ممثّلةً بالرفيق فنيو، الأمين الحزبي في المسرح. فحين يرسل الأخير في طلبها، ويبحث معها في عودة ابنتها العازفة ديويت التي تحقق نجاحاً في الولايات المتحدة إلى الوطن، مقابل أدوار جديدة للأم، وإسقاط تهمة الانشقاق عن الابنة، وبإزاء رفض الأخيرة العودة "مفضّلةً أن تكون خادمة في فندق، على أن تكون في الوطن عازفة كمان أولى في حفلة موسيقية مقامة على شرف انعقاد مؤتمر الحزب" (ص 52)، تقوم الأم الممثّلة بالتبرّؤ من ابنتها العازفة، وتعلن وفاتها، في سابقة تمثّل ذروة الخضوع للسلطة الحزبية الحاكمة التي تتدخّل في أدقّ التفاصيل، بأساليب ملتوية تجمع بين الترغيب والترهيب، وقمّة التنكّر لأمومتها. ورغم هذا الخضوع الكبير، يبصق الرفيق فنيو في وجهها، ويطردها، فتدخل في عزلة لخمس عشرة عاماً، وتنقطع عن العالم، وتتردّى صحّتها النفسية. ولعلّ هذا النوع من ممارسة الأمومة هو الذي يجعل ابنتها تغضب من أخيها حين يشبّهها بالأم ما يكسر نمطية العلاقة بين البنت والأم.
الأمر نفسه ينسحب على الابن، الراوي والكاتب القصصي، فتقوم بتبخيس إبداعه، وتسخر من نتاجه القَصَصي، وتصف أدبه بالقمامة، وتحاصره كلّما أراد الخروج من البيت بسؤالين اثنين يتكرّران في الرواية كلازمة، هما: "متى تعود؟"، و"أين كنت؟". ويكون عليه في كلّ مرّة أن يجترح الأجوبة المناسبة. وفي السياق نفسه، ترفض علاقاته النسائية، حتى إذا ما قام بتقديم حبيبته أستر إليها، تشتمها وتصفها بالمومس. في المقابل، ورغم اعتراضه مبكّراً على علاقات أمّه المتعدّدة، فإنّ الراوي يتفانى في الاهتمام بأمّه والقيام على خدمتها حين تدخل في عزلتها القسرية، وتتردّى صحّتها النفسية. وينقطع لها طيلة خمسة عشر عاماً مهملاً مستقبله الخاص. على أنّه حين كانت تمعن في محاصرته، وتضعف قدرته على التحمّل، لم يكن يتورّع عن الخروج عن طوره، إلى حد تمنّيه موتها، حتى إذا ما تحقّقت أمنيته، يلازمه شعور بالذنب ويختلّ توازنه النفسي، فيعترف بقتلها لمجرّد أنّه تمنّى لها الموت، ولا يتحرّر من هذا الشعور إلاّ بواسطة الكتابة التي تؤدي إلى السكينة في نهاية المطاف، نزولاً عند نصيحة طبيبه، وإلاّ بمساعدة حبيبته أستير فهير التي ترد على اتهامه نفسه بقتل أمه، بالقول: "لست من قتلت أمّك. أمّك من قتلتك. وقتلت شقيقتك بوديت أيضاً". (ص 285).
العلاج بالحب
في العلاقة بين الراوي وحبيبته، تهب عليها بعض العواصف، وتخضع لحركية المدِّ والجزر، غير أنّها تبلغ برّ الأمان في نهاية الرواية. وهي تبدأ مصادفةً بلقاءٍ على جسر سابد شاغ فوق نهر الدانوب، وتتطوّر من خلال ممارسة الحب، والحوار، وارتياد المرافق السياحية، والاهتمامات القَصَصية المشتركة. وتمرّ بمطبّات معيّنة، لا سيّما حين تخالجه الظنون حول ماضيها، ويتهّمها بمحاولة تلويثه من خلال دفعه إلى أحضان عشيقة أبيه، فتثور ثائرتها وتقتحم بيته وتهين أمّه، وتدخل بعدها مشفى الأمراض العقلية. غيرأنّ وقوفه إلى جانبها في مرضها، ووقوفها إلى جانبه في موت أمّه، يعيد المياه إلى مجاريها بين الحبيبين، فيقرّر بيع بيته كي يتسنّى لها الاحتفاظ ببيتها في بودابست، وكي تتمكّن من شراء بيت جدّها في بوخارست، ويتفقان على العيش معاً بين البيتين. وبذلك، شكّلت العلاقة بالحبيبة تعويضاً عن العلاقة بالأم، وتصويباً لها، ومنطلقاً نحو حياة جديدة.
إلى ذلك، ثمة علاقات عابرة نشأت بين الراوي وشخوص أخرى، ولكلٍّ منها وظيفتها في الرواية؛ فالعلاقة مع الكاهن لازار تتمخّض عن رجل دين منفتح على الحوار، يتفهّم الأخطاء، ويترفّع عن إدانة مرتكبيها، ويفتح لهم أبواب العودة عن الخطأ. والعلاقة مع الناشرة يوردان، عشيقة أبيه السابقة، تنكأ جراحاً كادت تندمل، وتشكّل فرصة لتصفية حسابات قديمة. والعلاقة مع الأخت تتكشّف عن اشتراكهما في تحمّل نَزوات أمّهما. وعلاقاته العابرة بالنساء شكّلت متنفّساً له يفيء إليه كلّما ضاق ذرعاً بالحصار الذي تضربه الأم حوله.
بنية ما بعد حداثية
يقدّم بارتيش، من خلال العلاقات المختلفة، صورة عن شريحة اجتماعية، تنتمي بمعظمها إلى القاع الاجتماعي، وتعاني الاستبداد الحزبي والاختلال النفسي والتفكّك الأسري، في كنف نظام الحزب الواحد الذي يحصي الحركات والسّكنات، ويكمّ الأفواه، ويقطع الأرزاق، ويقمع الحريات. وبذلك، يشكّل السياسي حاضنةً للاجتماعي، يعتلّ باعتلاله، ويدفع ثمن خطاياه.
هذه المسارات السردية والمصائر التي تؤول إلها، يضعها آتيلا بارتيش في بنية روائية ما بعد حداثية؛ يحشد فيها الكثير من المشاهد السردية، المتفاوتة المساحات، المختلفة الأزمنة، المتنوّعة الأمكنة. ونراه يجاور بين هذه المشاهد، بسبب وبغير سبب، ما يضعنا أمام بنية روائية فسيفسائية، مفكّكة. ويدخلنا في جوٍّ من "الفوضى الخلاّقة". ويرتّب علينا تجميع المفكّك وتنظيم الفوضى وتركيب البازل الروائي. وهو لا يراعي الشكل والإخراج للتمييز بين مشهدٍ وآخر، بل قد ينطلق من الفقرة الواحدة إلى مشهدٍ جديد، دون البدء بسطر جديد، أو ترك فراغ إخراجي بين مشهد وآخر. على أنّ الكاتب كثيراً ما يكسر نمطية المشاهد بالأحلام والكوابيس التي تدخل معها في جدلية الحضور والغياب، فيرهص الحلم أو الكابوس بالآتي من الوقائع أو يكمل نقصها. ولعل هذه المواصفات هي ما تجعل عملية القراءة نوعاً من الحراثة في الوعر، ومحفوفةً بالصعوبة، وتحتاج إلى النفس الطويل، الأمر الذي جعلني أستعير فعل "التوغّل" للتعبير عن هذه العملية. وإذا كان الصحيح أنّ التوغّل كثيراً ما يدمي يَدَيِ المتوغّل ويُعرّض قَدَمَيْهِ للشوك، فإنّ الصحيح أيضاً أنّ وردة الدهشة ومتعة الاكتشاف لا يمكن بلوغهما دون هذا التوغّل.