Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شكسبير مصابا بحمّى الغرام في "لا شيء مثل الشمس" لأنطوني بارغس

حياة غامضة لشاعر الإنجليز كما كتبها سيّد من مبدعيهم المعاصرين

لوحة زيتية تمثل شكسبير (عن موقع (biography.com

حقّق المخرج الأميركي ستانلي كوبريك، الذي أنجز معظم أفلامه في إنجلترا لاجئاً إليها من اضطهاد جابهه في وطنه، معظم أفلامه انطلاقاً من مقتبسات عن نصوص روائية أو غير روائية لكتّاب كبار. فمن فلاديمير نابوكوف إلى ستيفن كينغ ومن ويليام ثاكري إلى أنطوني بارغس وسي- كلارك وصولاً إلى آرثر شنيتزلر، حملت النصوص التي اشتغل عليها كوبريك تواقيع كبار في عالم الأدب. لكن واحداً منهم أزعجه بشكل خاص وهو ستيفن كينغ المعروف بسيّد روايات الرعب. فهذا لم يرض أبداً عن إخراج كوبريك لروايته "شايننغ" وملأ الدنيا صخباً ضارباً الصفح عن أن المتفرجين والنقّاد ومؤرخي السينما اعتبروا الفيلم بالإجماع على رأس قائمة أعظم أفلام الرعب في تاريخ السينما. وفي المقابل تعامل صاحب رواية "البرتقال الآلي" التي اقتبس منها كوبريك تحفته التي تحمل الاسم نفسه بأناقة وحرفية حين سئل عن رأيه في هذا الفيلم الأخير فقال إنه "فيلم رائع ومميّز في تاريخ السينما من دون أن يعني هذا أنه أمين أو غير أمين للرواية". وأضاف: "ليس على عمل فني اقتُبس من عمل فني آخر أن يكون أميناً له، وإلا سيفقد مبرر وجوده".

حياة قاسية لسيّد الشعراء الإنجليز

من هنا، حين أصدر أنطوني بارغس في عام 1964 تلك التي ستعتبر من أجمل رواياته ويتناول فيها بالتحديد حياة سيّد كتّاب المسرح والشعراء الإنجليز، ويليام شكسبير، كان من الطبيعي ألا يسمح لأحد بأن "يحاسبه" على ما إذا كانت الرواية أمينة أو غير أمينة للمسار المعروف عن حياة صاحب "هاملت" و"روميو وجولييت"، فهو، ومنذ العنوان حدّد أن ما كتبه رواية/ قصة/ حكاية وليس سيرة للكاتب الكبير. بل إنه اختار لتلك "الرواية" عنواناً رئيسياً مستقى من بيت في واحدة من سونيتات شكسبير (البيت الأول في السوناتا التي تحمل الرقم 130). صحيح أن هذه الرواية ودفاع بارغس عن حرية كتابته فيها، وحرية تفسيرها لما يبدو غامضاً في حياة شكسبير، أتيا قبل أعوام طويلة من ظهور "البرتقال الآلي" كفيلم، لكنه أتى مستبقاً السجالات ليعكس موقفاً حضارياً من الكاتب ويفسر الموقف الذي سيتخذه لاحقاً من اشتغال كوبريك على الرواية، ويبدو ردّاً استباقياً أيضاً على الصخب الذي أثاره ستيفن كينغ.

الطريف في الأمر أن رواية "لا شيء مثل الشمس"، تركّز على حكاية حب يرى بارغس أن شكسبير قد عاشها مع فتاة ليل سوداء تدعى فاطيما، مفترضاً أنها هي نفسها تلك التي يشير إليها شكسبير تحت لقب "الليدي السوداء" في السوناتا المذكورة. والطريف في الأمر أن بارغس يشير في مقدمة طبعة لاحقة من الرواية إلى أنه كان يتمهل في كتابتها أول الأمر لكنه وجد نفسه مضطراً إلى إنجازها بسرعة في النهاية كي تصدر لمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية الرابعة لولادة شكسبير ربيع عام 1964.

مهما يكن فإن الرواية هي رواية في قلب رواية أخرى. وهذه الأخيرة تحكي عن أستاذ محاضر يلقي محاضرة حول شكسبير و"اعتراف" هذا الأخير ضمناً بالتقاطه مرض الزهري وقد أصابه من طريق العدوى من تلك العشيقة التي انطلاقاً من هنا سيسمي غرامه بها بالحمى الملتهبة! أما القسم الآخر من الرواية وبعدما يطلعنا بارغس على حال البروفسور المحاضر السكير واسمه هو الآخر... بارغس وكيف أنه بالكاد يمكنه أن يكمل محاضرته، فيتابع حكاية شكسبير المفترضة المتأرجحة بين علاقته بالليدي السوداء وتركه منزله في ستراتفورد في عهدة أخيه الذي لن يلبث أن يقيم علاقة مع آن هاثاواي.... زوجة شكسبير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"بارغس" الآخر الذي تخيّل الحكاية

لا يخفي بارغس أن الحكاية كلها متخيّلة، لكنه يضيف أنه لم يكن هو من تخيّلها بل، ذلك الأستاذ المحاضر الذي جعلته المصادفة يحمل اسمه... والحقيقة أن القراء قبلوا كل تلك المبررات على الرغم من أن بارغس حين أصدر روايته وبرّرها على تلك الشاكلة لم يكن قد أصبح بعد ذلك الكاتب الذي أسبغ عليه فيلم كوبريك كل تلك الشهرة التي جعلت كتبه تترجم إلى شتى اللغات. واللافت أن متفرجي الفيلم كما قارئي بارغس اكتشفوا أمام ذهولهم، أن حكاية مدرس الموسيقى الذي يغتصب الشبان العنيفون زوجته أمامه على أنغام السيمفونية التاسعة لبيتهوفن في "البرتقال الآلي"، هي مع بعض التحوير حكاية جرت للكاتب نفسه. وهكذا راح الاهتمام به يتزايد ليكتشف القراء أن مأساته لا تقف عند ذلك الحد، بل تتجاوزه بكثير، وأن خلف كتابته العنيفة لا توجد قصة اغتصاب امرأته وحدها، بل خاصة قصة "موته". إذ في العام 1960 قرر الأطباء أن انطوني بارغس مصاب بالسرطان وأنه سيموت بعد عام لا محالة. وانطلاقاً من ذلك القرار المميت عكف بارغس على الكتابة يطفئ فيها مخاوفه ويقاوم بها الموت المقبل.

لكن العام صار عامين ثم خمسة ثم تكررت السنوات. وكانت النتيجة أن عاش بعد إعلان موته المحتم ثلاثاً وثلاثين سنة، لأنه في الواقع لم يرحل عن عالمنا إلا في خريف عام 1993.

ولكن لئن كان بارغس قد أفلت من الموت فإنه لم يفلت من هاجس الموت، الذي ظل يطارده وظل يكتب في ظله، الموت الذي كانت روايته "البرتقال الآلي" التي كتبها في 1962 باكورة تصديه له، لكنها لم تكن باكورة كتابته ما يجعلها سابقة على روايته الشكسبيرية بعامين، فبارغس الذي ولد في 1917 انتظر أواسط سنوات الخمسين حتى يشق لنفسه طريقاً في عالم الأدب، هو الذي حكمت حياته وتوجهاته منذ البداية أحاسيسه باللاانتماء، حيث نعرف أنه ولد في مانشستر من أسرة كاثوليكية وسط بحر من العوالم البروتستانتية، وكان يتطلع منذ بداية صباه لأن يصبح موسيقياً، ولئن كان قد فشل لاحقاً في أن يكون موسيقياً كبيراً، فإن الموسيقى لم تغب عن عمله، حيث نجد بيتهوفن يتجاور مع فاغنر وهايدن مع موزار، وحيث صاغ معظم كتبه صياغة تدين للموسيقى بالكثير، ولا ننسينّ هنا أن مشهد الاغتصاب في "البرتقال الآلي" يدور كله على خلفية سيمفونية بيتهوفن التاسعة.

من شكسبير إلى نابوليون ويسوع الناصري

مهما يكن، فإن توجه بارغس الحقيقي كان، منذ الخمسينيات توجهاً أدبياً، حيث كتب أولاً، وهو يعمل كمدرس في المدارس الاستعمارية الإنجليزية في بورنيو وماليزيا، رواياته الثلاث التي شكلت ما سمي "الثلاثية الماليزية" (1956 - 1959) وهي الثلاثية التي كتبها خلال عمله مع دوائر المخابرات البريطانية، عملاً قاده إلى ادعاء اعتناق الإسلام في ماليزيا لفترة سُمّي خلالها "الحاج عبدالله".

بيد أن "الثلاثية الماليزية" مثلها في هذا مثل معظم كتابات بارغس لم تُكتشف حقاً وتُقرأ على نطاق واسع إلا اعتباراً من العام 1972 يوم بلغت شهرة الكاتب آفاقها. وهو لئن كان قد كشف في "البرتقال الآلي" عن كل العنف الذي كان يتآكله، فإن تلك الرواية أتت، بعد كل شيء أشبه بتعويذة، لأنه هدأ بعدها وراح يتأمل موته المقبل بشكل بطيء، ولقد قاده ذلك التأمل إلى الاهتمام بشخصيتين لم تبرحا ذهنه: السيد المسيح، ونابوليون بونابرت، فهو كان يراهما معاً رمزين للبشرية جمعاء، وكل منهما في اتجاه، وهو بالفعل وضع عن كل منهما عملاً أدبياً كبيراً، ومن المعروف أن عمله عن "يسوع الناصري" قد نقل إلى مسلسل تلفزيوني شهير حققه الإيطالي فرانكو زيفريللي.

لقد حقق أنطوني بارغس طوال سنوات "موته" الطويل كل أحلامه الكتابية وكذلك تمكن من تحقيق بعض طموحاته الموسيقية، وهو لم يتوقف عن الكتابة حتى شهور حياته الأخيرة وكان من أبرز كتبه الأخيرة "عازف البيانو" و"آخر أخبار العالم" وطبعاً تلك الرواية الغريبة التي صوّر فيها جزءاً من سيرة شكسبير على الطريقة التي وصفناها. وكتاب نقد لأعمال جويس – الذي يرى الناقد هارولد بلوم أن "لا شيء مثل الشمس" تدين لها لغة وأسلوباً". وإلى ذلك وضع بارغس سيناريوهات عديدة. غير أن الحلم الذي داعب خياله طويلاً ولم يتمكن أبداً من تحقيقه كان تلك الأوبرا التي أراد كتابتها وتلحينها حول حياة فرويد وعمله ولم يقيّض له أن ينجزها أبداً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة