Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ريف توفيق الحكيم لا يزال محكوما بنزاعات تاريخية

أشرف العشماوي يضع الإصبع على جرح قديم في رواية "بيت القبطية"

من أجواء الريف المصري (ويكبيديا)

لم يَمنح بطلَ سرده سوى سلاح خاوٍ من الرصاص، ورغم ذلك قرر الكاتب أشرف العشماوي في روايته "بيت القبطية" (الدار المصرية اللبنانية – القاهرة) أن يسلك طريقاً شائكة، ويكشف عن النار المستترة تحت الرماد، عبر اشتباكه مع قضايا شديدة الخطورة تنخر في جسد المجتمع المصري منذ عقود.

صوتان من السرد الذاتي؛ أحدهما للمحقق القضائي "نادر فايز كمال"، والآخر لامرأة قبطية بسيطة "هدى يوسف حبيب"، يتبادلان الحكي في خطين متقابلين حتى يلتقيا في قرية "الطايعة"، بؤرة الأحداث، في صعيد مصر.

يبدأ السرد بصوت المحقق الذي انتُدِب من القاهرة، حاملًا معه هواجس القانون ومسكونًا بتساؤلات حول رمز العدالة، وتلك العُصابة التي وُضعت فوق عينيها كيلا تفرق ولا تميز، ثم ما لبثت أن حالت دون أن ترى، فيما تُعري "هدى" واقعاً بغيضاً وتكشف عن مساحات من القبح، بعضها أكثر من أن يكون صادماً. فالفتاة التي تطلب من الله أن يخلصها من شرور أمها، لم تتوقف معاناتها عند الأم التي شذت عن الفطرة، وإنما امتدت لينال زوج أمها من بكارتها، فتُقتل أنوثتها على مرأىً ومسمعٍ من الصمت والخوف، ثم تتزوج من "الكلّاف" الذي يمتهن إنسانيتها ويواصل انتهاكها لتتمرد على عنفه وساديته، وتجنح لنزعة إنسانية في الخلاص، فتقتله دفاعاً عن نفسها. ثم يقودها الهروب إلى "الطايعة"، فيتلاقى صوتا السرد في فضاءٍ مكاني واحد، ثم تتصاعد وتيرة الأحداث التي وقعت في تسعينيات القرن الماضي، في ذروة مواجهة الدولة المصرية لتجدد حوادث "الفتنة" بين المسلمين والمسيحيين.

استدعاء الحكيم

استدعى الكاتب عبر السرد رواية "يوميات نائب في الأرياف" التي أصدرها توفيق الحكيم عام 1937، ولازالت تتوالى طبعات جديدة منها، استدعاءً صريحاً بالإشارة إلى عثور الشخصية المحورية "نادر كمال" على نسخة منها، ونسخة من كتاب آخر للحكيم بعنوان "عدالة وفن" في مكتبة الاستراحة في "الطايعة"، ليشي بالخلفية القضائية المشتركة لكليهما، ويمرر رؤيته بأن واقع القرية المصرية لم يتغير طيلة كل تلك العقود، وكذا العلاقة بين السلطة التنفيذية والقضائية. وربما ليمهد لما سيكتنف الأحداث من غموض، وغياب الإجابات والتباس الحقائق. فالفاعل الذي قتل "ريم" في "يوميات" الحكيم مثله كمثل الفاعل في جرائم قرية "الطايعة"؛ لا يزال كلاهما مجهولاً! بمجرد أن يرى المحقق الكتابين يتساءل "هل هي مصادفة أن أجد هذين الكتابين تحديداً الآن؟ كأنهما يخبرانني بما ينتظرني هنا!" (الرواية صـ10)

ينثر الكاتب خيوطه هنا وهناك ليشتبك مع قضايا شائكة ويطأ مواضع معطوبة من الواقع، يعري الفقر، والجهل، وتآكل الرقعة الزراعية في واقع القرية، ويستدعي التكسب وفساد الذمم من واقع النخبة، ليدور الكل في فلك عدالة معصوبة العينين، فلا يُسمع صوت القانون إلا همساً، بينما يُترك الأمر لـ"حُسن التصرف"! وهذا ما جاء على لسان أحد الشخوص "لازم حس سعادتك الأمني يكون سابق القانون بخطوة، وطبعاً معاليك عارف طبيعة الشغل بتاعنا، تسعين في المية حُسن تصرف وعشرة في المية قانون" صـ52.

تتدافع الأحداث في نسق زمني أفقي متتابع لتتصاعد وتيرتها وتبلغ الذروة. ومع هذا التصاعد يطأ الكاتب قضايا أشد خطورة كالثأر، والفساد السياسي، والتعصب الذي يمتزج مع خطاب ديني يحفز على الكراهية، فينجب فتنة طائفية تأتي على الأخضر واليابس. ورغم أن الكاتب استدعى في نسيجه السردي أحداثًا واقعية عاشتها قرية الكشح في نهاية التسعينيات، إلا أنه اختار  فضاءً مكانياً مُتخيَلاً يكاد يطابق الواقع.  وقد أتاح له هذا الفضاء المتخيل أن يطرح قضايا أخرى ليست ذات صلة بقرية غالبية أهلها من الأقباط، لكنها ذات صلة وثيقة بالواقع المصري كقضية تزويج الفتيات مِن أثرياء ليعُدن بعد تطليقهن إلى القرية ببعض المال. هكذا يتجلى قرار الكاتب في محاكمة الواقع، والكشف عن كل مساوئه وجرائمه، كما يفعل المدعي العام في ساحات المحاكم.

الترقب والمفاجآت

استغل الكاتب تبادل أصوات السرد ليدفع في نهاية كل فصل بالكثير من التشويق والإثارة، ما يجعل القارئ في حالة دائمة من الترقب، ثم عزز هذه الحالة بما دفعه في طيات السرد من مفاجآت. فالمحقق "نادر فايز كمال" الذي يشير اسمه وفعله لهوية قبطية يفاجئ "رمسيس"؛ حاجب الاستراحة، بأداء صلاة الجمعة، ثم يعود الكاتب للدفع بمفاجآت أخرى عندما تتبين "هدى" القبطية بعد رحلة من الهروب والتكيف والزواج مرة أخرى، أن زوجها الأول "خضر" لم يفارق الحياة، وأنه نجا من الموت فتنجو هي من جريمة قتله لتُحاكم بتهمة الزنا، والجمع بين زوجين.

اعتمد الكاتب في بنائه الروائي مستويات عدة من اللغة تراوحت بين الفصحى السلسة، وبعض العامية التي غلَّفت مناطق الحوار المتفرقة داخل النسيج لتزيد من واقعية النص، وتعزز التماهي بين القارئ والشخوص، لكنها كانت على كل مستوياتها لغة مشهدية نقل الكاتب عبرها (ببراعة) نبض الأحداث، ودفع  خلالها شحنات كثيفة من الجمالية والبلاغة دون أن يعيق تدفق السرد وسلاسته.

كذلك كان للدلالة والرمز حظ وافر داخل النص بداية من أسماء الشخوص التي  اختارها الكاتب بعناية ليمرر عبرها إسقاطاته، فالمحقق القضائي النزيه؛ "نادر"، والفتاة التي اتهمها الجهل بالضلال؛ "هدى"، والقرية التي تعاني وابلاً من العطب تحمل اسم "الطايعة" الذي تحول على ألسنة أهلها إلى "التايهة"؛ "بنقول عليها قرية التايهة من وقتها، وأهي كلها حواديت، وطايعة من تايهة مش فارقة، الاتنين ما يملكوش من أمرهم حاجة" صـ21.

وكما مرَّر الكاتب إسقاطاته بالدلالة الرمزية لأسماء الشخوص، مرَّرها أيضاً رمزاً  بالوصف الدال في بعض مواضع السرد، فهو في مشهد اللجنة الانتخابية التي لم يُدلِ فيها سوى ثلاثة أشخاص بأصواتهم، يصف المكان وصفاً تفسيرياً مبطناً يحمل إسقاطات سياسية، تشي بطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في نظام انتهت حقبته "لاحظت شجرة عجوز جذعها عريض، جذورها ضاربة في الأرض ولا شك منذ سنين لكنها غير مثمرة، تسد جانباً كبيراً من بوابة الخروج، فتُجبر الخارجين على تحسس خطواتهم وهم يدورون حولها، أغصانها الموفورة تُظلل سيارات الشرطة  ولا يُسمح لغيرها بالوقوف في ظلها بعدما تركوا حاجزاً معدنيًا وراءهم... تمنيتُ لوهلةٍ لو قطعتُها لكني شعرتُ باستحالة ذلك، فأنا وحيدٌ هنا".

نزعة ساخرة

لم يخلُ السرد من نزعة ساخرة أراد بها الكاتب أن يبرز ذلك الغبن الذي كرست له  قوانين أُريد بها عدلاً، لكنها سُلطت على الرقاب، بينما ظلَّ يمر من ثغراتها مَن كانوا أجدر بالعقاب، وقد بدت هذه النزعة في عدة مواضع من السرد، لا سيما في التحقيق مع الحارس الذي سرق الطاووس من حديقة الحيوان "صرخت في وجهه بدهشة: أكلته بالملوخية يا علوان، هزَّ الرجل رأسه بالإيجاب. راحت ابتسامتي تنفرج وتتعالى ضحكاتي، بينما تتعقَّد المشكلة التي تواجهني. جناية اختلاس تصل عقوبتها إلى الأشغال الشاقة المؤقتة بسبب هذا الطاووس، والقانون لا يفرق بين ملايين الجنيهات أو طاووس؛ فالعدالة عمياء!" صـ 70.

وكذلك أضفى العشماوي على السرد صبغة معرفية عبر ما نثره من معلومات في طيات النسيج، وقد أجاد توظيفها إلى حد بعيد حتى بدت كأنها جزء أصيل من النص وليست زائدةً عليه، وتدفقت في تناغم مع بقية مكونات الحكي، وعبر حركتها الرشيقة داخل النص، حاك الكاتب صوراً تاريخية عن اللورد"نورمان بيركيت، والسنهوري وشارل ديغول"، وغيرهم.

رسم الكاتب شخوصه بطريقة مغايرة، فمزج بين سماتها الواقعية التي جعلتها أقرب للتصديق، وما أتاحه لها من عوالم خاصة ابتعدت بها عن النمطية الراكدة، فـ"هدى" ليست امرأة واحدة، وإنما تبدو في وجوه الكثير من النساء اللاتي يشاركنها معاناتها  ويتجرعن الكأس ذاتها مِن واقع يظلمهن، لكنه أراد لشخصيته الرئيسة قدراً آخر  فراح ينفث في روحها من الجرأة، والتمرد، والتطلع للحرية، وحب الحياة، وهكذا نأى بها عن التنميط، ثم اختار لها النهاية الأكثر صدقاً، والأكثر ألماً في آن، تلك النهاية التي اتسقت مع معطيات واقع، أجهضت قسوته حلماً مشروعاً بالحياة.

المزيد من ثقافة