Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ليلى سليماني تروي إشكالية الحب المختلط زمن الاستعمار

"الحرب، الحرب، الحرب" جزءٌ أوّل من ثلاثية بعد نجاح رواية "أنشودة رقيقة"

المغربية ليلى سليماني نجمة الفرنكوفونية الراهنة (دار غاليمار)

بعد "في حديقة الغول" (2014) التي روت فيها حياة امرأة متزوّجة تتسلّط عليها رغبات يتعذّر إشباعها، و"أنشودة رقيقة" (2016) التي سردت فيها قصة مربّية تقتل الطفلين اللذين كانا في رعايتها، وحصدت عليها جائزة "غونكور"، انطلقت الكاتبة المغربية ــ الفرنسية ليلى سليماني في كتابة ثلاثية روائية بعنوان "بلد الآخرين" تطمح فيها إلى ليس أقل من إعادة قراءة تاريخ المغرب الحديث، من فترة الاستعمار الفرنسي وحتى اليوم، عبر متابعتها قدر عائلة مغربية على مدى ثلاثة أجيال.

الجزء الأول من هذه الثلاثية، الذي صدر حديثاً عن دار "غاليمار" الباريسية بعنوان "الحرب، الحرب، الحرب"، يغطّى السنوات العشر التي اختبر المغرب خلالها توتّرات وأعمال عنف أفضت عام 1956 إلى استقلاله. أما بطلاه، ماتيلد وأمين، فاستوحتهما سليماني من قصّة جدّيها، كما أسرّت بذلك في أحد الحوارات التي أجريت معها. ماتيلد شابة فرنسية من مقاطعة الألزاس تلتقي عام 1944 بالجندي المغربي أمين قرب بلدتها حيث كان يؤدّي خدمته داخل الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية، وتقع فوراً في غرامه. مغامِرة وجريئة، لا تتردد هذه الشابة في اللحاق بحبيبها إلى مدينة مكناس المغربية، بعد زواجها منه، حيث يعيشان بضعة أشهر في دار أمّه، ثم يستقرّان في مزرعة معزولة في ريف مكناس اشتراها والده قبل وفاته ونقل إليه الآمال الكبيرة التي كان يعلّقها عليها.

بورجوازية في الريف

بورجوازية، لا تلبث ماتيلد أن تكتشف ريف المغرب الفقير والمُمِلّ حيث لا يحدث أي شيّ مثير وينظر سكّانه إليه كمستعمِرة، مع أنها ستسعى جاهدةً للتأقلم في محيطهم. من جهته، يبدو أمين معجباً بزوجته الشقراء ذات القامة الطويلة والعينين الخضراوين، وفي الوقت نفسه، محرجاً من كونها ليست مسلمة وطليقة اللسان وفرنسية تمثّل المستعمِر، ما يعكس تمزّقاً لديه بين تقليد وحداثة وأيضاً بين عالمَين: وطن زوجته الذي صنع منه بطلاً بمنحه عدة نياشين على مآثره الحربية، ووطنه الأم الذي يعاني من استعمار فرنسا له. لكن بما أن هذين الزوجين اليانعَين اختارا العيش معاً على رغم كل شيء، نراهما يكافحان، كل واحد وفق طاقته وقناعاته وتطلّعاته، من أجل بلوغ نوعٍ من السعادة والطمأنينة وتحقيق الذات. وفي هذا السياق، نتابع عملية تحديث منزلهما على يد ماتيلد، عمل أمين المضني لتحسين غلّة الأرض التابعة للمزرعة، تطوّر علاقاتهما بعائلة أمين ومحيطهما الاجتماعي، من دون أن ننسى اهتمامهما بتربية وتعليم طفليهما عايشة وسليم.

باختصار، أكثر من عشر سنوات من الحياة المشتركة يحلّ فيها الكدّ والمرارة وأحياناً اليأس مكان شغف الأيام الأولى، ونتعرّف خلالها إلى سائر شخصيات الرواية: الطبيب الهنغاري دراغان بالوزي الذي قرر الفرار من تنامي الفاشية في أوروبا للاستقرار في مكناس مع زوجته الفرنسية، أم أمين التقليدية، مويلالة، شقيقته المراهقة سلمى، شقيقه الثوري عمر، رفيقه في الجيش الفرنسي مراد... شخصيات ترسمها سليماني بدقّة عبر سرد فصول من حياتها وكشف خياراتها وخيباتها، علماً أن الأكثر جاذبية من بينها تبقى ماتيلد لكونها عبارة عن مزيج من سكارلِت أوهارا ومدام بوفاري، وفي الوقت نفسه، امرأة تتمتّع بحسٍّ براغماتي يساعدها على أخذ الواقع حولها دائماً في الاعتبار. ومن هذا المنطلق، نراها تتعلّم العربية وتصبح، من دون أن تقرر ذلك، ممرضة لسكان الريف الذين يعيشون في الجوار، خصوصاً النساء منهم اللواتي يرفض رجالهنّ أن يكشف أي طبيب ذكر عليهنّ. ومن المنطلق نفسه، تبقى وفيّة لزوجها، على رغم العنف الذي ستخضع له من حينٍ إلى آخر على يده تحت تأثير المحيط الذكوري المحلي. عنفٌ لا يحُل دون صقلها تدريجاً طبعاً مستقلاً وسعيها على طريقتها إلى التحرّر. نتعلّق أيضاً بابنتها عايشة، وهي طفلة رقيقة وشديدة الذكاء تدفع غالياً ثمن هويتها الهجينة في مدرسة الراهبات التي تتعلم فيها، فهي لن ترفض زميلات صفّها معاشرتها فحسب، لأنها لا هي فرنسية ولا هي مغربية في نظرهنّ، بل يجعلن منها كبش محرقة وموضوع سخريتهنّ الثابت.

أجيال مغربية

وتجدر الإشارة هنا إلى أن غزارة شخصيات الرواية وتنوّعها يسمحان للكاتبة بخطّ بورتريهات لعدة أجيال مغربية. فأم أمين، مويلالة، تمثّل التقليد وتؤمن بضرورة احترام الحدود التي تفصل بين عالم الرجال وعالم النساء. وشقيقته سلمى التوّاقة إلى الحرية تمثّل جيل النساء الذي سينبثق إثر استقلال المغرب ومدافعة القوميين في هذا البلد عن تحرّر المرأة، علماً أن ما أراده هؤلاء للمرأة عموماً رفضوه لأخواتهم وبناتهم، وأمين يجسّد هذا التناقض بزواجه من فرنسية ورفضه الحداثة لشقيقته.

وهذا ما يقودنا إلى الرسالة التي تسيّرها سليماني على طول روايتها ومفادها بأن فصل الاستعمار الفرنسي لوطنها كان رهيباً وجائراً من دون شكّ، لكن بعض تقاليد المجتمع المغربي لم تكن أقل جوراً. وفي هذا السياق، تحضر في الرواية شخصيات أوروبية بشعة وعنصرية، مثل الفرنسي الذي يملك مزرعة محاذية لمزرعة أمين، وأخرى مليئة بالإنسانية، مثل الطبيب الهنغاري دراغان. شخصيات تمثّل مختلف وجوه الاستعمار وتستثمرها الكاتبة للتذكير بالاختلاط الثقافي والهوياتي المدهش الذي احتضنه المغرب آنذاك، وأيضاً بفصل العبودية المشين الذي كان ما يزال مفتوحاً فيه. فإلى جانب الإسبان واليونانيين والإيطاليين والهنغاريين والروس والغجرالذين كانوا يعيشون في هذا البلد، كنا نقع أيضاً على نساء ورجال أفارقة تم استقدامهم إليه كعبيد، مثل خادمة مويلالة التي اشتراها زوجها وهي صغيرة من أحد أسواق مراكش.

وثمة موضوع آخر مهم تقاربه سليماني في روايتها، ونقصد مأساة الشبّان المغاربة الذين جنّدتهم سلطات الاستعمار بالقوة في جيشها وزجّت بهم في حروبها المتتالية. فمَن لم يُقتَل منهم في المعارك وعاد في النهاية إلى دياره، عانى من صدمة الأهوال التي اختبرها وتوجّب عليه مواجهة ليس فقط صعوبات التأقلم، بل أيضاً نكران الفرنسيين لجميله، وفي أحيانٍ كثيرة، سخريتهم من "رجعيته"، مثل أمين وخصوصاً مراد.

من هنا قيمة العنوان الذي اختارته الكاتبة لثلاثيتها ودقّته، فجميع شخصيات الجزء الأول من هذا العمل تعيش فعلاً في "بلد الآخرين": المستعمِرون أولاً لكونهم صادروا بلداً لا يملكون أي حقّ فيه، الأجانب الذين اختاروا الاستقرار في المغرب لأسباب مختلفة، أبناء هذا البلد الذين جعلهم الاستعمار يشعروا بأنهم أجانب من الدرجة الثانية، خصوصاً النساء بينهم اللواتي لم يكن عليهنّ الانعتاق من سلطة المستعمِر فحسب، بل أيضاً من سلطة الرجل المغربي أيضاً!

الملاحظة السلبية الوحيدة التي يمكن تسجيلها على هذه الرواية هي الطريقة السريعة وغير المقنعة التي تختم سليماني بها نصّها. فصحيح أن الأمر يتعلق بجزءٍ أوّل من ثلاثية روائية، وأن سرديته لا تنتهي إذاً في خاتمته التي توحي بوضوح أن أبطال الجزء الثاني سيكونون شقيقة أمين، سلمى، وطفلاه، عايشة وسليم؛ لكن هذا لا يبرر الارتباك والنقص المستشعَرين في سطوره الأخيرة. فكما في أيّ عمل روائي متعدد الأجزاء، على كل جزء أن يشكّل نصّاً كاملاً ومكتملاً بذاته.

ومع ذلك، تبقى "الحرب، الحرب، الحرب" رواية مهمة نستمتع بقراءتها بفضل موهبة سليماني السردية والكتابية التي تحملنا حتى الصفحة الأخيرة من نصّها من دون أن نشعر إطلاقاً بملل. موهبة تتجلّى خصوصاً في تمكُّن الكاتبة بيُسرٍ من استبدال الأسلوب العيادي الذي استخدمته في روايتيها السابقتين بأسلوبٍ صُوَري سيّال يلائم أكثر الجدارية العائلية والتاريخية التي هي في صدد تشييدها.

المزيد من ثقافة