إنه عام 1997، وقد أبصرت "وزارة التنمية الدولية" النور، للمرة الأولى. إنها بريطانيا العالمية. في ذلك اليوم من مايو (أيار)، دخلنا إلى المبنى الواقع في شارع فيكتوريا، ولو كان الموظفون الحكوميون لا يزالون يرتدون قبعات، لرموها في الهواء تعبيراً عن البهجة. كان المبنى معزولاً، وفق تعبيرات حكوميّة. فقد مثّل موقعاً بعيداً يُرسَل إليه النواب الذين ربطتهم صداقة برئاسة الوزراء ودعت الحاجة إلى تكليفهم بمهمات معينة. في المقابل، بدا الوضع موشكاً على التغيّر.
ولدى تأسيسها، حازت "وزارة التنمية الدولية" طموحاً، وامتلكت تفويضاً. وفي تطور مهم في تلك الأيام المبكرة، إذ نالت تلك الوزارة قيادة مذهلة تمثلت في كلير شورت. وقد عرف رئيسا الوزراء طوني بلير وغوردون براون جيداً أن مكانتنا في العالم، وتقهقر الإمبراطورية والنفوذ، وفرصة القضاء على الفقر، تشكّل شعارات مهمة بالنسبة إلى ما يرغب حزب العمال الجديد في تحقيقه.
وقلما بلغت أخبار الوزارة الصفحات الأولى للصحف (على الرغم من تحقيقنا نجاحات)، ولكن حين بدأنا العمل، فاجأتني نوعية الموظفين. إذ لم يعمل أحد في تلك الوزارة إذا انحصر همه كله في الوضع والرتبة ضمن صفوف الخدمة المدنية. وبدا الموظفون أشخاصاً جديين أمضوا حياتهم في فهم طريقة "إجراء" التنمية، لكنهم لم يتملكوا تفويضاً. ولقد انتظروا هذه اللحظة. ولذلك شعروا بالبهجة من دون أن يرموا قبعات في الهواء.
كانت التنمية الكلمة المفتاح، وليست المساعدات. لم يكن الأمر يدور حول بناء الطرق أو المدارس أو المستشفيات ورفع العلم البريطاني عليها. ليس آنذاك، على أي حال. بل تعلق الأمر بالأسباب كلها المتصلة بحدوث الفقر في المقام الأول: تغير المناخ، والنزاعات، والحروب، والفساد، والضرائب، ونعم؛ السياسات الخارجية والاستعمار.
أذكر سفيراً أثناء تقديمه حساء "براون وندسور" وإقراره بأن السفر إلى خارج البلاد ورؤية ما يحصل، لم يكونا عمله ولا رغبته. وبحسب كلماته، "أنا ملحق الحكومة البريطانية في العالم، وسأعزز مصالحنا قبل كل شيء آخر. وأنا لا أتورط في ما يخالف مبادئي".
وبالطبع، تجاوزنا ذلك. فبعد 20 سنة، تغير الناس في وزارة الخارجية، ولا تتذكر سوى قلة أيام الإمبراطورية. لكن الأمر لم يتغير كثيراً. وكما يتذكر كثيرون في الإدارة العامة، تغصّ وزارة الخارجية بأشخاص يمتلكون نظرة نخبوية وقد عفّ الزمن عمّا تفهمه بالنسبة إلى الدبلوماسية الخارجية ككل، لذلك تبدو التوقعات بأنهم سيفهمون أن تمويل مشاريع تساعد مزيداً من الفتيات في الالتحاق بالمدارس، مثلاً، يصب في مصلحتنا شبيهة بالتوقعات بأن بوريس جونسون سيعرف ما يكون عليه أن يترعرع المرء في مدينة داخلية.
وللإنصاف، لقد دعت الحاجة آنذاك إلى تكليف كلير شورت بمهمة ما. إذ قرر فريق بلير أن ضم هذه السياسية المزعجة لكن الشعبية، إلى الفريق الحاكم أفضل من إبقائها خارجه. ولم تكن وزارتنا في رأس الأولويات في الأجندة. لكن كلير، بهدوء أحياناً وبصخب شديد أحياناً أخرى، عملت لبناء أجندة نبيلة لبريطانيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأعطى عمل كهذا ولا يزال، بريطانيا مكانتها. إذ شكّل قوتنا الناعمة. وكذلك يعطي المملكة المتحدة مكانة، خصوصاً بسبب خبراتها، إلى جانب التزامها الخيري بتحسين حياة الناس. وأحياناً، تحصل الحكومات في مقابل فعلها الأمر الصائب على شرف ضخم. وقد حققت لنا "وزارة التنمية الدولية" ذلك. وجاءت العوائد كبيرة في شكل لا يمكن تخيلّه، على الرغم من كونها في الأغلب غير قابلة للقياس. ويشكل الأمر درساً من المستحسن أن تتعلمه حكومات كثيرة، بما فيه حكومتنا.
ماذا عن الميزانيات؟ نعم، إنها تكبر، وقد أثار كثير منها الامتعاض. وتبلغ الميزانية اليوم 15 مليار جنيه إسترليني (18.6 مليار دولار)، لكنها ليست سوى 0.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. فكروا في الأمر. إنه مبلغ ضخم. وكذلك يترك مبلغ الـ 0.7 في المئة 99.3 في المئة للأشياء الأخرى كلها. لكن الهجمات وقعت. وقلائل هم الذين تقدموا بالحجة البديلة.
وللصراحة، لم تتمتع "وزارة التنمية الدولية" بمؤيدين كثر في الحكومة معظم الوقت. كذلك رغب وزراء خارجية في إلغاء الوزارة. لكن في تلك الأيام المبكرة، امتلكت أيدينا طوال الوقت غوردون براون. الممول. وبدا التزامه واضحاً منذ اليوم الأول.
وإضافة إلى أن الوزارة أعطته منصة عالمية، عمل الرجل على دفع البلدان إلى وضع التزاماتها بالإنفاق المستقبلي في سندات موّلت حصول ملايين الأطفال على لقاحات. وكذلك قاد الرجل عملية إلغاء الديون الخاصة بأكثر البلدان مديونية، فانتشل الملايين من الفقر. وامتلك رؤية اعتبرت "وزارة التنمية الدولية" قوة خيّرة، وأداةً تمكنت أيضاً من جعل المملكة المتحدة المحرك المحترم والرائد في التنمية الدولية.
لقد بدت هذه الأيام المبكرة زاخرة بالطموح والأهمية. وبدت مملؤة بالاهتمام بما هو أكبر من الأجندة الإخبارية القريبة الأجل. وكذلك بنت علاقات قيّمة ساعدت بريطانيا، وللمفاجأة، لقد أنشأت أيضاً فرصة حياة، بل فرصاً منها، ومنعت وفيات مبكرة، وبنت اقتصادات عدّة، ويجعلنا ذلك أكثر أمناً ومرونة في المملكة المتحدة.
إن وزارة التنمية الدولية موجودة منذ 23 سنة تقريباً، لكن بوريس جونسون أعلن أنها ستُدمَج الآن في وزارة الخارجية. وسواء احتُسِب الأمر بملايين الحيوات التي أُنقِذت أو المكانة التي اكتُسِبت، فإن ما خسرناه عبْرَ إجراء سياسي ضيق وانتهازي ومصمم للإلهاء في أزمنة مملوءة بالاضطراب وكذلك إجبار الخصوم على دعم شيء غير المصالح الوطنية، ستكون له تداعيات ستستمر ربع قرن آخر من الزمن. لقد ازداد موت الفكرة الحقيقية لبريطانيا العالمية بعض الشيء اليوم.
(عمل دانيال هاريس مستشاراً خاصاً في "وزارة التنمية الدولية" أيام كلير شورت، النائبة العمالية السابقة ووزيرة الدولة سابقاً لشؤون التنمية الدولية)
© The Independent