Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أحمد أبو سليم يرتب فوضى الحياة في رواية"بروميثانا"

الراوي يقع على مخطوط في جهاز كومبيوتر والأحداث بين موسكو والعراق وسوريا

موسكو حيث تدور بعض احداث الرواية (ويكبيديا)

بروميثانا بحسب بضعة أسطر في الرواية التي تصل صفحاتها إلى 450، هي بروميثان، ميثان، بروميثيوس، سارق النار، برروميثيوس، سرقة النار، الفعل، المعرفة المسروقة، المعرفة المسبقة... هل هي شيء من هذا القبيل؟

هذا فقط هو كل ما يرد في التعريف بهذه الكلمة "عنوان الرواية" (دار هبة 2020). ولكن مجريات الأحداث والحكايات ومصائر الشخوص و"الأقدار" المتناقضة والغريبة والمفاجئة، تشير إلى أن لبروميثانا معاني ربما أكبر وأعمق من مجرد المعرفة. فالقول بالمعرفة يقف وحده عاجزاً إلى حد ما عن لغز التقلبات وماهية الإنسان ومفاهيمه عن نفسه وعن الآخرين والكون والوجود والمصير والمصادفات وما إلى ذلك.

اللافت في هذه الرواية للشاعر والروائي أحمد أبو سليم، هو مقدرة الروائي على تحريك هذا المشهد الكلي الثري بشخوصه وحكاياته وزمنه الممتد طويلاً، بما ينطوي عليه من تقلبات وتطورات سياسية واجتماعية وتكنولوجية وثقافية متسارعة، في أماكن فائرة بالحروب والتغيرات والتقلبات والمفاجآت من موسكو إلى العراق إلى عمان إلى سوريا. وهو لافت جداً إذا ما أضفنا هذا التكنيك المركّب الذي اعتمده المؤلف في بناء روايته. وقد تعمدت وضع كلمة "مؤلف" وأنا أشير إلى التكنيك الفني، لئلا أقول "الروائي" لأن المؤلف يخبرنا منذ الصفحة الأولى أن هذه الرواية عثر عليها "دحدل" الشخصية الرئيسة في جهاز كمبيوتر لشاب كان طالباً في جامعة باتريس لومومبا في موسكو، في الفترة التي أخذ الاتحاد السوفياتي ينزلق نحو انهياره المريع.

ثمة إذاً روائي يدعى "محتسب الجيار" لم يسبق أن التقى "دحدل" أو محمد الصفدي (اسمه الرسمي)، يكتب رواية بطلها هذا الدحدل" الذي من المفروض أنه لا يعرف شيئاً عنه. لكن الرواية تقع في يد "دحدل" فيطير غرابه عجباً من التفاصيل الدقيقة التي يوردها الروائي بشأنه، بما فيها أحلامه، وخصوصاً ذلك الحلم الذي رافقه طوال حياته مذ قتل أخاه الرضيع من دون قصد، حين أراد كتم بكائه بحشو فمه بالخبز، ما أدى إلى اختناقه وموته.

بقراءة متأنية للرواية، نعثر أولاً على شخوص ليست نمطية، وإن كان منسوب النمذجة يتفاوت من شخصية إلى أخرى. ويتربع على قائمة الشخوص المدعو "دحدل" بفرادته وتميزه ومفارقته لكل ما هو نمطي. فهو شخص محب للحياة ويرغب في الاستمتاع بها طوال حياته، ولا يدع فرصة لتغيير واقعه البائس إلا ويحاول اغتنامها. من الطبيعي أن يكون السفر خارج الأردن هو من أولويات هذه الشخصية، وهو ما حاوله أول مرة وهو في السادسة عشر من عمره، حين فتح الأردن باب التطوع للشباب للقتال في العراق ضد إيران إثر انتصار الثورة الإسلامية وانتهاء حكم الشاه. لكن عمره وقف حائلاً بينه وبين رغبته. تلك كانت فاتحة خيباته في سياق السفر. لكن المفارقة الغريبة تكمن في تنقل الرواية التي يقرأها "دحدل" على شاشة حاسوب محتسب الجيار في عمان، تتنقل به بين عمان وموسكو ودمشق وحلب، وكأن الروائي محتسب الجيار "الروائي الأعلى" كان يدرك تلك الرغبة الجامحة لدى دحدل، فعذبه بالتنقل عبر صفحات الرواية من بلد إلى آخر. وقولنا إن محتسب الجيار هو الروائي الأعلى، يعني أن هنالك روائياً أدنى أو أصغر أو الروائي "junior"، وهو كما يتضح في نهاية الرواية محتسب الجيار الطالب في موسكو، وعاشق معلمته ناتاشا التي تهديه قلباً مثقوباً وتبقي مفتاحه في سلسلة حول عنقها.  

لعبة الراويين

لا يدع دحدل وسيلة إلا ويستخدمها لتغيير واقعه الرافض له؛ إنه حكّاء من طراز رفيع، وكذاب بسهولة ويسر، وصاحب خيال مجنح يطير به حيناً ثم يهوي به من عل من دون رحمة. هكذا يكون لدينا المؤلف أحمد أبو سليم والروائي الأكبر أو الأساسي محتسب الجيار والروائي "الصورة" محتسب الجيار الطالب العاشق في موسكو. ولدينا وسيط ينقل الرواية "الحاسوب" إلى "دحدل" بناء على رغبة محتسب الجيار الطالب قبل اختفائه، وهذا الوسيط هو حليمة العاشقة صاحبة المقهى في قاع المدينة "عمان". إنه المقهى الذي نعرفه جيداً ونعرف صاحبه في كونه مقهى كان الأول من نوعه في عمان بديكوراته الجديدة المغايرة للسائد، وقد أصبح مقهى للمثقفين والفنانين.

وعلى رغم الدهشة الكبيرة التي تصيب الصفدي "دحدل" كرد فعل على ما قرأه من تفاصيل حياته في الرواية، إلا أننا لا نعثر على ذاك الانسجام بين هذا التكنيك المركّب والحكايات والأحداث الواقعية التي تسردها الرواية، الأمر الذي يجعلنا ندرك أن الأمر لا يعدو كونه لعبة فنية كسواها من ألعاب الروائيين. ولكن السؤال الملح إذاً هو: لماذا يلجأ المؤلف أحمد أبو سليم إلى هذا التكنيك وهو يسرد أحداثاً وحكايات واقعية وبعضها حقائق معروفة كتفجيرات عمان؟

الجواب ربما يكمن في رغبة المؤلف في الحفر عن هذا اللغز الغريب منذ بداية الخلق، ومحاولة تلمس ماهية الإنسان وجوهره الذي يتسبب من دون سواه في هذه العذابات البشرية كلها على هذه الأرض. وكما كان الخلق نفسه لغزاً ولا يزال، وكما كان قتل قابيل لأخيه هابيل لغزاً ولا يزال، وكما كان كل ما حدث من حروب وقتل وتدمير وتجويع واستبداد يشبه العبث، فإن كثيراً مما يحدث للشخوص من حكايات وما يتربص بها من منعطفات غامضة يشكل عبثاً من نوع آخر. ولعل التقلبات التي تصيب الشخصية الرئيسة "دحدل" وتقلبه بين الفقر المدقع والنوم في الأزقة والجوع والسجن وبين رغد العيش والتنعم بملذات الحياة من مأكل وملبس ونساء وسطوة، يعادل اللغز الأكبر الذي يصيب العالم وشعوبه من دون أسباب جوهرية، وربما بمصادفة إغريقية تؤدي إلى تحقيق قدر مبرم من قبل الأوليمب. ثمة أشياء غير مفهومة للإنسان تحدث له ومعه من دون سبب مقنع... إنها فوضى الحياة التي يحاول الروائي ترتيبها فلا ينجح، وهو ما يشير إليه في النهاية باعترافه أن الأمور أفلتت من بين يديه!

وجوه تشابه

ثمة تماه بشكل أو بآخر بين الشخصية الرئيسة  "دحدل" ومحتسب الجيار الطالب العاشق في موسكو. كلاهما يقع في الحب بطريقة مشابهة؛ محتسب مع ناتاشا ودحدل مع فيروز العراقية التي يلتقيها في العقبة. اللافت أيضاً أن لدى كل من ناتاشا وفيروز سرها أو لغزها الخاص بها. وهو في النهاية "بروميثانا" الغامضة أو الناقصة. فناتاشا بتسليمها القلب المثقوب لمحتسب الجيار والإبقاء على مفتاحه معها، كانت تنفذ تعليمات شقيقها فلوديا المطلوب لعصابة روسية من عصابات المافيا التي انتشرت في روسيا إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، وإشاعة عمليات القتل والتصفية بشكل كبير لم تعرفه روسيا من قبل. وفيروز العراقية التي مثلت دور المرأة الرومانسية مع دحدل، تخفي لغزاً كبيراً عنه، وهو أنها كانت تستدرجه للنوم معها للحصول على طفل برضا الزوج الذي يمتثل لنصيحة طبيب إنجليزي للحصول على طفل لئلا تتحول حياته وزوجته إلى جحيم. وبينما تعترف لدحدل بعد قرابة ربع قرن أن له ابناً في بغداد، يفاجئه الروائي أنها نامت مع تسعة رجال في العقبة أثناء علاقتها الرومانسية به.

هذا التماهي يحيلنا مرة أخرى إلى التكنيك المركب وضرورته، ونحن إزاء شخوص روائية بالغة النضج فنياً وموضوعياً، وأمام حوادث محلية وإقليمية ودولية أكثر وضوحاً في تمظهرها، لكنها غامضة في أسبابها وأهدافها الحقيقية.

فالرواية تغطي ثلاثة تحولات عالمية، تتعالق معها الشخوص بشكل أو بآخر؛ نشوء القاعدة، وانهيار الاتحاد السوفياتي، والأزمة السورية، وما رافق هذه التحولات من تبعات كبيرة طاولت شعوباً وأفراداً بدرجات متفاوتة، وطوبت أميركا شرطي العالم الذي يعاقب ويعفو. وكثير من الشخصيات في هذه الرواية ترتبط مصائرها بهذه التحولات الثلاثة وارتداداتها الهدارة. ومنها حسن بدوان وغياب وعبد الوهاب وناتاشا وغيرهم.

ثمة الكثير من الشخصيات في الرواية تستحق التوقف عندها، ولكن المجال لا يتسع لها في مقالة صحافية. لكن بعض التفاصيل تظل لافتة للقارئ، كولادة الطالب حسن بدوان الغريبة والغرابان وتطير أبيه، وهو ما يمكن ربطه بما آل إليه كشخصية قاتل قاس في إحدى العصابات الروسية، الأمر الذي يثير تساؤلات جادة تتعلق بالميثولوجيا ودورها في صيغة الأقدار والمصائر كما يؤكد علماء وباحثون ومشعوذون. هذا كله ما يبحث عن إجابات له الروائي أحمد أبو سليم في هذه الرواية الممتعة، ولكنه لا يوفق إلى أي إجابة، لأن الغموض كامن في النفس البشرية الوارثة أكواماً من الألغاز عبر التاريخ، والمستسلمة لها تحاشياً لمصائر ملايين من الناس قضت عبثاً في أماكن عدة من هذا العالم.

المزيد من ثقافة