أفلح قانون العقوبات الأميركي "قيصر" في زيادة الضغط على دمشق بلا شك، وأربك اقتصادها المتداعي حتى قبل دخوله حيز التنفيذ في 17 يونيو (حزيران) الحالي، وسبق ذلك انهيار كبير بالليرة، لكن انعكاساته تخطت كل السيناريوهات المرسومة.
في شوارع الشمال الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية، والمدعومة تركياً، أخذت الليرة السورية بكل فئاتها (من 50 إلى 2000) تنحسر شيئاً فشيئاً، بعدما خَفُت بريقها وتقلصت قدرتها الشرائية عقب تخطي سعر صرف الدولار الأميركي الواحد عتبة ثلاثة آلاف ليرة.
ومع انطفاء جذوة عملة السوريين بين أيديهم، وعلى وقع ضربات قانون قيصر لحماية المدنيين، بدأت أنقرة بضخ ليرتها وبشكل قوي لتغطي مناطق سيطرتها في أرياف حلب.
وتتباين أصداء دخول العملة الجديدة إلى جيوب الأهالي بين مؤيد لفكرة استبدال عملة بلادهم بعملة أجنبية سعياً إلى الحفاظ على القدرة الشرائية، في حين استهجن شق آخر في سرّه هذه العملية وعدها تتريكاً فاضحاً وعلنياً.
بين السورية والتركية
في غضون ذلك تفيد معلومات واردة من شركات صرافة تعمل في ريف حلب الشرقي عن خطة مدروسة ومنظمة لإلغاء الليرة السورية بشكل نهائي.
وباتت العملة التركية متداولة بكثافة في الأسواق، على الرغم من تداولها خلال السنوات الماضية إلى جانب السورية والدولار الأميركي بحكم قرب الحدود ووجود نازحين في الداخل التركي.
يعلق أحد الصيارفة "تحدث حالياً عمليات استبدالٍ واسعة، مع شحن متواصل لكل فئات العملات السورية حتى يُصار إلى ترحيلها نحو مناطق الشمال، ومن المرجح إلى مدينة الباب، لإنهاء أي حضور لليرة السورية هنا".
ويضع الباحث السياسي والاقتصادي، الدكتور آدم خوري ضخ الليرة التركية في الشمال واستبدالها ضمن عوامل أثّرت في تدهور الليرة السورية، بالإضافة إلى المضاربين في السوق السوداء، وتأثير قانون "قيصر" الإعلامي.
القوة الشرائية
في المقابل، اتخذت الحكومة السورية المؤقتة سلسلة تدابير بغية تنظيم عمليات التبديل، مع إعادة هيكلة وتنظيم عمل شركات الصرافة.
وقال أحد العاملين في مكتب للعملات النقدية في منطقة إعزاز "بدأت إجراءات الترخيص للشركات، ومن شروطها وضع وديعة تقدر بـ 50 ألف دولار".
ويتوقع انتهاء وجود الليرة السورية على الأرض وفق الصيارفة خلال ثلاثة أشهر، بينما يشير الناشط الحقوقي محمد الشيخ إلى "إقبال على تداول الليرة التركية حتى في مخيمات النازحين في الشمال خشية من فقدان قيمة مدخراتهم".
في الوقت ذاته انتشرت، اليوم السبت، عبر وسائل التواصل الاجتماعي صور لسوريين في مناطق المعارضة يهمّون بإحراق عملتهم من فئة ألفين، مسكوك عليها صورة للرئيس السوري بشار الأسد ابتهاجاً بالتخلص منها.
وبدأت عمليات التسعير بالعملة التركية للمواد الأساسية كالخبز والمشتقات النفطية وغيرها إلى جانب الدولار، مع دفع المنشآت الخاصة أجور عمالها بالعملة الجديدة.
التتريك الممنهج
حيال هذا، يصف عضو مجلس الشعب السوري أحمد مرعي لـ "اندبندنت عربية" ما يحدث منذ بداية الوجود التركي ودخوله إلى منطقة شمال شرقي سوريا (جرابلس والراعي والباب) في 16 أغسطس (آب) 2016 بـ"تتريك ممنهج".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف البرلماني الذي يمثل دائرة تلك المناطق في ريف حلب "ضخ التركي لليرة ضمن سياسة بدأت ببناء مدارس وطرقات ومؤسسات تحت غطائه وبهدف سياسي"، بالتزامن مع "طمس المعالم السورية وصولاً إلى مرحلة إجراء استفتاء يُخيّر فيه الناس بتقرير مصيرهم".
وينصح مرعي السوريين في تلك المناطق بالتمسك بليرتهم، مشيراً إلى أن خطورة المشروع التركي "لا تقل عن خطورة المشروع الإسرائيلي".
ويعوّل مرعي على منظومة الإنتاج بالدرجة الأولى، والاكتفاء من الاستيراد، مرجحاً عدم عودة الأمور إلى نصابها إلا بعمل عسكري يعيد تلك المناطق إلى سيطرة الدولة.
العثمانيون والأتراك الجدد
يشدد المحلل السياسي والخبير بالشأن التركي علي باكير على النوايا الحسنة لأنقرة، الساعية إلى الوقوف إلى جانب السوريين في الشمال، لاسيما بعد تخلي المجتمع الدولي عنهم.
ويرى باكير أن سيطرة المعارضة على هذه المناطق حرمها من الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي يقدمها النظام، وبالتالي أخذت تعتمد على نفسها في البداية.
ويتابع "بما أن الحليف التركي هو الحليف الأول للمعارضة السورية، وبما أن معظم دول العالم تخلت عن هؤلاء، فإن تركيا كانت مجبرة على تقديم هذه الخدمات".
ويقلل باكير من أهمية ما يقال عن "التتريك"، قائلاً إن "العثمانيين قديماً حكموا المنطقة 450 عاماً، ولو أن إسطنبول تريد التتريك لكان أجدادنا تحدثوا التركية، مقارنة بالفرنسيين الذين حكموا بضع سنوات في المنطقة، حيث تجد دولاً لا تتحدث إلا الفرنسية".
تأثير "قيصر"
تقلل أوساط سياسية في دمشق من وطأة قانون "قيصر"، معتبرة ذلك القانون الذي أقره الكونغرس في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2019 لا يساوي الحبر الذي كتب به، ويبررون ذلك بكون بلادهم لا تزال تعيش تداعيات حصار أوروبي وأميركي منذ سنوات طويلة.
في المقابل، يرزح السوريون في الداخل تحت وطأة منعكسات القيصرين الأميركي والروسي على حد سواء في صراع على النفوذ وتقاسم مقدرات البلاد.